تناولنا فى مقال سابق منشور فى مجلة أكتوبر بتاريخ 29/12/2012 «العدالة الانتقالية Transitional justice وتطبيقاتها الدولية «تضمن مفهوم العدالة الانتقالية وأهميتها وتطبيقاتها الدولية وكيفية الضبط القضائى للجناة فى العدالة الانتقالية وكذلك تناولنا فى مقال آخر سابق منشور فى مجلة أكتوبر بتاريخ 6/1/2013 «التطبيقات الدولية المعاصرة للعدالة الانتقالية» تضمن التطبيقات الدولية للعدالة الانتقالية بمنهجيها وأسباب غياب العدالة الانتقالية عن العالم العربى وكذلك تناولنا فى مقال آخر سابق منشور بمجلة أكتوبر بتاريخ 3/3/2013 «أسس العدالة الانتقالية الجنائية والمدنية فى القرآن الكريم» تضمن حدود وقيود الصلح فى القرآن الكريم والسنة النبوية وقواعد العدالة الانتقالية فى قضايا الدم بين المسلمين وأحكام العدالة الانتقالية فى قضايا الدِيّات وغيرها كما سبق أن تناولنا بتاريخ 17/3/2013 الجزء الأول من هذا الموضوع عن أسس العدالة الإسلامية الانتقالية فى السنة النبوية الشريفة وفيه تناولنا العدالة الانتقالية فى وثيقة المدنية المنورة فى عهد رسول اللهصلى اللهعليه وسلم وعدول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن الثأر والانتقام من خصومه فى موقعة فتح مكة وأن المساواة هى أحد أهم مبادئ العدالة الانتقالية فى السنة النبوية. كما تناولنا مناهج العدالة الانتقالية وضمانات تطبيقها فى السنة النبوية الشريفة وكذلك سبق أن تناولنا فى مقال آخر نُشر بمجلة أكتوبر بتاريخ 24/3/2013. الجزء الثانى من مقال أسس ومبادئ العدالة الانتقالية التى شرّعتها السنة النبوية من خلال وثيقة المدينةالمنورة وموقعة فتح مكة والتى أرست مبادئ الترضية والرضائية Compatibility والتعاقدية Contracting. كما تناولنا الجزء الأول من مقال العدالة الانتقالية فى مصر بعد ثورة يناير المنشور فى مجلة أكتوبر بتاريخ 31/3/2013 تناولنا فيه مدى تحقق العدالة الانتقالية فى مصر بعد ثورة 25 يناير ومقومات تطبيق العدالة الانتقالية فى مصر بعد الثورة وسوف نتناول الجزء الثانى من مقال العدالة الانتقالية فى مصر بعد الثورة والذى يتضمن إمكانية تطبيق المصالحة كمسار للعدالة الانتقالية فى مصر ومعوقات تطبيق المصالحة الوطنية كأحد مسارات العدالة الانتقالية فى مصر وحلولها وذلك فيما يلي: أولاً: إمكانية تطبيق المصالحة كمسار للعدالة الانتقالية فى مصر: نادت بعض الأقلام الوطنية عقب قيام ثورة 25 يناير بطرح نظرية المصالحة الوطنية وذلك فى إطار حوار وطنى مجتمعى وكان من أهم هذه الدعوات دعوة نائب رئيس مجلس الوزراء الأسبق الدكتور يحيى الجمل لإجراء حوار وطنى شامل يتناول قضايا العمل الوطنى وعلى رأسها قضية المصالحة الوطنية حيث طُرحت فى جلسات هذا الحوار الوطنى قضية المصالحة مع بعض أفراد النظام السابق مقابل استرداد الأموال التى قاموا بنهبها وتهريبها إلى بنوك أوروبا وأمريكا ولكن نتيجة للتغيرات الوزارية وتسارع الأحداث السياسية فى مصر واستقالة وزارة الدكتور عصام شرف فإن هذا الحوار الوطنى لم يستكمل مناقشاته بشأن تطبيق العدالة الانتقالية. وتوالت دعوات كثيرة بعد ذلك لعقد المصالحة الوطنية على غرار ما حدث فى دولة جنوب أفريقيا وما قام به الزعيم العظيم مانديلا بالمبادرة بنفسه كرئيس جمهورية بعقد جلسات للمصالحة الوطنية ونبذ روح الانتقام وإظهار صدق النية فى التعامل الجدى مع هذا الملف الشائك من ملفات التحول الديمقراطى . ونحن نرى أن تطبيق المصالحة الوطنية كأحد مسارات العدالة الانتقالية لابد أن يأتى بعد محاكمات عادلة منصفة فى قضايا الدم – على النحو السالف بيانه فى مقالات سابقة – وذلك حتى تكون المصالحة حقيقية ومتوافق عليها وهو الأمر الذى لم يتحقق فى مصر حتى الآن وبالتالى فإن غياب هذه المحاكمات العادلة أصبح عائقاً كبيراً أمام التطبيق الصحيح للمصالحة الوطنية كأحد اتجاهات العدالة الانتقالية الواجبة فى مصر وقد أوضحنا ذلك تفصيلاً فى كتابنا « موسوعة شرح الدساتير المصرية والمستويات الدستورية الدولية» . ثانياً: معوقات تطبيق المصالحة الوطنية كأحد مسارات العدالة الانتقالية فى مصر وحلولها: كانت محاولات المصالحة الوطنية مع بعض أركان النظام السابق مجرد اقتراحات طرحها البعض للمناقشة ونحن نرى أن هذه الاقتراحات لإجراء المصالحة الوطنية لم يكتب لها التوفيق وذلك للأسباب التالية : السبب الأول: غياب المحاكمات العادلة لأفراد النظام السابق الأمر الذى أثار مشاعر الشعب المصرى ودفعهم إلى رفض عقد أى مصالحة معهم دون محاكمة عادلة. السبب الثانى : هروب بعض الفاسدين من النظام السابق وتهريبهم لأموالهم إلى الخارج الأمر الذى جعل من الصعب محاكماتهم واسترداد ما نهبوه مقابل المصالحة الوطنية معهم. السبب الثالث : تسارع الأحداث السياسية فى مصر وسقوط الكثير من القتلى والجرحى والتى دائماً ما يُشار بأصابع الاتهام إلى عناصر النظام السابق بأنهم هم من وراء استغلال هذه الأحداث لإشاعة الفوضى والخوف والهلع بين أبناء الشعب المصري. السبب الرابع : إن ثورة مصر كانت ثورة شعبية ولم يكن لها من يقودها أو يوجهها – على خلاف ثورة جنوب أفريقيا- فبعد سقوط النظام السابق تعددت الآراء والتوجهات ولم يتم الاتفاق على رأى واحد منذ قيام الثورة حتى الآن وباتت القوى السياسية كلها تتصارع على السلطة وتغازل الناس بالمحاكمات والقصاص وبالتالى كان من الصعب طرح فكرة المصالحة الوطنية. السبب الخامس: إنكار رءوس النظام السابق لجرائمهم وسرقاتهم وعدم إفصاحهم عن حساباتهم الحقيقية فى البنوك الخارجية وعدم وجود أدلة مادية تدينهم. السبب السادس : إن العدالة الانتقالية بمساريها سواء المحاكمات العادلة أو المصالحة الوطنية الصادقة مازالت غائبة عن مصر لعدم وضوح الرؤيا والتنازع على السلطة والخاسر الوحيد هو الشعب المصري. ثالثاً : ضرورة وضع منهج قومى جديد للعدالة الانتقالية فى مصر وإنشاء مركز مصرى للعدالة الانتقالية: يجب إنشاء إدارة خاصة للعدالة الانتقالية والمصالحة بين جميع القوى الوطنية المصرية تستهدف طى صفحة الماضى بحلوها ومرها بعد استيفاء شروط المصالحة الوطنية والتغلب على معوقاتها سالفة البيان حتى يمكن الوصول إلى حلول ناجحة وناجحة فى هذا الميدان . ويمكن الاسترشاد بتجارب الدول الأجنبية الأخرى فى هذا المقام مثل جنوب أفريقيا وبولندا والبيرو وسيراليون وتيمور الشرقية وغيرها . رابعاً: الدور الذى يمكن أن يقوم به المركز المصرى للعدالة الانتقالية يمكن للمركز المصرى للعدالة الانتقالية أن يقوم بدور حيوى فى التطبيق العملى لفكرة العدالة الانتقالية والقضاء على معوقاتها وسلبياتها واستقبال المقترحات المختلفة من مختلف القوى السياسية لتحقيق الأهداف القومية للعدالة الانتقالية . ويجب على هذا المركز المقترح أن يقوم بوضع خطة جديدة لمعالجة مشكلات المرحلة الانتقالية وانتهاكات حقوق الإنسان وتقديم الدعم الفنى والقانونى للناشطين فى هذا الميدان وتعزيز الجهود فى مختلف بقاع الوطن للوصول إلى حلول فعلية لتصفية النفوس والتئام الجراح الوطنية . خامساً: ضرورة مشاركة المرأة المصرية فى جهود العدالة الانتقالية والتغلب على التفرقة بسبب النوع الاجتماعى Gender justice: يجب إشراك المرأة فى جهود العدالة الانتقالية فى مصر والتغلب على التمييز ضد المرأة والنوع الاجتماعى Gender justice لأن ذلك التمييز يفقد المجتمع المصرى على ما يزيد على نصف قوته لأن عدد النساء فى مصر يزيد على عدد الرجال . كما أنه يجب علاج التعديات المعلنة وغير المعلنة على النساء فى مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير 2011 . سادساً: إرساء الدستور المصرى للأساس الجديد للعدالة الانتقالية : وضع الدستور المصرى الجديد لعام 2012 والمعمول به اعتبارا من 25/12/2012 بعض أسس العدالة الانتقالية وذلك فى مواد الحقوق والحريات العامة وغيرها وهى أسس المساواة والحق والعدل والحرية والكرامة الإنسانية وذلك فى المواد 31 ،33 ،34 ، 43 ، 80 ، 81 من الدستور والتى تضمنت أسس العدالة الانتقالية التالية : الأساس الأول: أن الكَرامة حق لكل إنسان، يكفل المجتمع والدولة احترامها وحمايتها، ولا يجوز بحال إهانة أى إنسان أو ازدرائه وهو المبدأ الإنسانى الكبير الذى تضمنته المادة (31) من الدستور . الأساس الثانى: إن المواطنين لدى القانون سواء؛ وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك، وهو المبدأ الإنسانى الكبير الذى تضمنته المادة (33) من الدستور . الأساس الثالث: إن الحرية الشخصية حق طبيعى؛ وهى مصونة لا تمس، وهو المبدأ الإنسانى الكبير الذى تضمنته المادة (34) من الدستور. الأساس الرابع : إن حرية الاعتقاد مصونة، وتكفل الدولة حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة للأديان السماوية؛ وذلك على النحو الذى ينظمه القانون، وهو المبدأ الإنسانى الذى تضمنته المادة (43) من الدستور . الأساس الخامس: إن كل اعتداء على أى من الحقوق والحريات المكفولة فى الدستور جريمة لا تسقط عنها الدعوى الجنائية ولا المدنية بالتقادم، وتكفل الدولة تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الاعتداء، وللمضرور إقامة الدعوى الجنائية عنها بالطريق المباشر. وللمجلس القومى لحقوق الإنسان إبلاغ النيابة العامة عن أى انتهاك لهذه الحقوق، وله أن يتدخل فى الدعوى المدنية منضماً إلى المضرور، وأن يطعن لمصلحته فى الأحكام، وهو المبدأ الإنسانى الذى تضمنته المادة (80) من الدستور . ويبقى بعد كل ذلك دور الدولة فى المبادرة السياسية لإنشاء مركز العدالة الانتقالية – على النحو السالف بيانه – كما يبقى دور القوى السياسية المختلفة فى التعاون مع الدولة وضرورة تكاتف الجهود لتحقيق العدالة الانتقالية بمساريها سواء المحاكمات العادلة أو المصالحة الوطنية الصادقة التى تضم جميع القوى السياسية قبل وبعد الثورة تحت العباءة الوطنية وعدم إقصاء أحد عن مصر الكبيرة التى تتسع لجميع أبنائها ومواطنيها مهما اختلفت اتجاهاتهم السياسية .