وافقت النيابة العامة على بدء إجراءات التصالح مع رموز النظام السابق وذلك فى قضايا المال دون قضايا الدم وقد سبق لنا أن تناولنا فى مقال سابق منشور فى مجلة أكتوبر بتاريخ 29/12/2012 «العدالة الانتقالية Transitional justice وتطبيقاتها الدولية» تضمن مفهوم العدالة الانتقالية وأهميتها وتطبيقاتها الدولية وكيفية الضبط القضائى للجناة فى العدالة الانتقالية وكذلك تناولنا فى مقال آخر سابق منشور فى مجلة أكتوبر بتاريخ 6/1/2013 «التطبيقات الدولية المعاصرة للعدالة الانتقالية» تضمن التطبيقات الدولية للعدالة الانتقالية بمنهجها وأسباب غياب العدالة الانتقالية عن المنطقة العربية وسوف نتناول فى هذا المقال أسس العدالة الانتقالية الجنائية والمدنية فى القرآن الكريم. فقد خلت مؤلفات القانون الوضعى المقارنة بالشريعة الإسلامية من قيام علماء أوفياء للشريعة الإسلامية يقومون بتبسيط قواعد ومصادر تلك الشريعة الراسخة وإبرازها فى مكانتها العالية السماوية التى تتفوق فيها دائماً على القوانين الوضعية البشرية القاصرة. ومن الموضوعات التى لم يتطرق إليها أحد من قبل موضوع العدالة الانتقالية فى القرآن الكريم باعتباره المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامى ، فقد تناول القرآن الكريم العدالة الانتقالية الجنائية والمدنية فى آيات متعددة سوف نتناولها فى البنود التالية: أولاً: حدود وقيود الصلح فى القرآن الكريم والسنة النبوية: يمكن تعريف الصلح فى اللغة والشريعة الإسلامية بأن الصلح عقد يرفع النزاع بالتراضى، وينعقد بالإيجاب والقبول. 1 – تعريف الصلح فى اللغة: هو اسم بمعنى المصالحة التى هى خلاف المخاصمة وأصله هو بمعنى الصلاح الذى هو بمعنى استقامة الحال. 2- تعريف الصلح شرعاً وركنه: - ويمكن تعريف الصلح شرعاً : بأنه عقد يرفع النزاع بالتراضى - أى بتراضى الطرفين المتخاصمين - ويزيل الخصومة ويقطعها بالتراضى. - ويكون ركن الصلح: عبارة عن الإيجاب والقبول، وينعقد ويصح بحصول الإيجاب من طرف والقبول من الطرف الآخر. 3- وخلاصة تعريف الصلح: أنه عقد يرفع النزاع بالتراضى ويتبين من عبارة «هو عقد» أن الصلح يدخل فيه البيع والإجارة والكفالة والحوالة والرهن وغيرها من العقود الشرعية الأخرى. ثانياً: ضرورة إصلاح ذات البين بين أهل الأمة دعا القرآن الكريم إلى ضرورة إصلاح ذات البين بين أهل الأمة وذلك فى آيات قرآنية متعددة منها قول الله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) سورة الأنفال الآية رقم (1) فقد وضع الله تعالى المبدأ العام عند نشوب أى خلاف سواء عن الأنفال أو غيرها من أمور الدنيا وهو ضرورة إصلاح ذات البين، لأن العبرة بعموم مبدأ إصلاح ذات البين وليس خصوصية السبب الذى نزلت بشأنه الآية الكريمة. ثالثاً: ضرورة وضع الصلح كمبدأ عام فى التعامل فى الأسرة المسلمة وبين جميع المسلمين وغيرهم: دعا القرآن الكريم إلى ضرورة وضع الصلح كمبدأ عام فى التعامل فى الأسرة المسلمة وبين جميع المسلمين وغيرهم وذلك فى آيات متعددة منها قول الله تعالى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} سورة النساء الآية رقم (128)، فقد وضع الله تعالى المبدأ العام عند نشوب أى خلاف حول أمر من أمور الدنيا وهو ضرورة الصلح، لأن العبرة بعموم مبدأ الصلح وليس خصوصية السبب الذى نزلت بشأنه هذه الآية. رابعاً: ضرورة توبة الظالم عن ظلمه لأن الله تعالى سوف يغفر له: دعا القرآن الكريم إلى ضرورة توبة الظالم عن ظلمه لأن الله تعالى سوف يغفر له وذلك فى آيات متعددة منها قوله تعالى {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة المائدة الآية رقم (39)، فقد وضع الله تعالى المبدأ العام أنه إذا ما تاب الظالم ورجع عن ظلمه فسيجد الله غفوراً رحيما وبذلك يكون المبدأ هو ضرورة توبة الظالم عن ظلمه وإصلاح ما أفسده ورد المظالم إلى أصحابها لأن العبرة بعموم مبدأ التوبة وليس خصوصية السبب الذى نزلت بشأنه الآية الكريمة. خامساً: أحكام الصلح فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة: يُعتبر الصلح من العقود اللازمة فلذلك يملك المدعى المصالح عليه والمدعى عليه بعضاً من المصالح عنه، والصلح الذى يتضمن إسقاط بعض الحقوق لا يُفسخ إلا أنه إذا كان الصلح فى حكم المعاوضة فللطرفين أو ورثتهما بعد وفاتهما فسخ الصلح بالتراضى. سادساً: قواعد العدالة الانتقالية Transitional justice فى قضايا الدم بين المسلمين: يمكن تعريف الدية فى الشريعة الإسلامية بأن أصلها كلمة «ودية» ، فحذفت الواو ، والهاء عوض عن الواو ، والأصل ودى ، وبعد حذف الواو وإضافة الهاء عوضاً عنها أصبحت دية ، فيقال أديت القتيل أدية دية إذا أعطيت ديته وأوديت أى أُخذت ديته. وفى حديث القسامة «فَوَاده من إبِلْ الصّدَقَة «أى أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية القتيل. ولقد ذكر الدية فى القرآن الكريم فى سورة النساء الآية 92 {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه}. سابعاً: أحكام العدالة الانتقالية Transitional justice فى قضايا الدِيّات: 1- الدية هى مال يؤدى للمجنى عليه أو أولياء دمه ترضية عن هلاك النفس أو العضو أى ما دون النفس. 2- الدية مال محدود المقدار يسلم إلى أهل القتيل ، ويجب مبدئياً على القاتل ولكن تتحمله عنه عاقلته وأرش الجراحة ديتها . 3- الدية هى المال الذى يؤديه الجارح أو القاتل إلى المجنى عليه أو ورثته كعوض عن الدم المهدور. 4- المراد بالدية أو التعويض المدنى شرعاً المال الواجب بالجناية على الحر فى نفس أو فيما دونها. 5- هى مال مؤدى لمجنى عليه أو أولياء دمه ترضية لهم وتعويضاً عن هلاك النفس أو العضو أى ما دون النفس. 6- هى المقابل المالى المقدر من قبل الشارع للضرر البدنى الواجب بالتعدى خطأ على حياة المسلم الذكر الحر المعصوم بالقتل. ثامناً: الطبيعة الشرعية للدية كتعويض موجب للتصالح فى قضايا الدم: تدور الآراء اتفاقاً واختلافا حول تكييف الدية فريق من الباحثين يرى فى الدية عقوبة جنائية وفريق ثانى يرى أن الدية بمثابة تعويض مدنى وفريق ثالث يرى أن لها دورًا مزدوجًا يدور بين العقوبة والتعويض ، وأن ما يهمنا فى هذا المقال الموجز هو أن نوضح أن الدية هى بمثابة تعويض مدنى يعبر عن صلح بين المجنى عليه أو ذويه على مال أو خلافه مقابل حسم النزاع . الرأى الأول القائل بأن الدية تعويض مدنى: يستشهد أصحاب الرأى بالأدلة الآتية على رأيهم: 1- أن الدية لا تدخل الخزانة العامة كمال الغرامات. 2- اختلاف قيمة الدية باختلاف جسامة الإصابات. 3- اختلاف الدية باختلاف تعمد الجانى من عدمه. 4- أن الدية عبارة عن مال خالص للمجنى كما ذكر المولى فى محكم آياته من أن الدية تسلم لأهل المجنى عليه فى قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً}. (سورة النساء الآية 92) 5- كما يضيف أصحاب هذا الرأى أن هذا التعويض يتم الحكم به وتنفيذه وتسليم قيمة التعويض إلى أهل المجنى عليه عوضاً عما لحق به من أذى، وأنه فى الغالب يتحمل الدية عاقلة الجانى، وعلى ذلك لا يمكن اعتبارها عقوبة لأن فى اعتبارها كذلك مخالفة للأية الكريمة القاضية بأنه {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِى رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (سورة الأنعام الآية 164) 6- وعلى ذلك فإن الدية ضمان خالص وليست عقوبة وذلك لأنها بمثابة تعويض عن ضرر حدث وإن كان الفعل المحدث لها لا يشكل جريمة إذا ما كان مرتكب الفعل صبى أو مجنون. كما أن الدية لا تعفى الجانى من الكفارة فالدية تعويض مدنى والكفارة غرامة جنائية. الرأى الثانى القائل بأن الدية ضمان: من الآراء الراجحة الأخرى من يرى أنه يتمثل الضمان فى الشريعة الإسلامية فى التعويض الذى يكون الهدف منه رفع الضرر وجبر التلف وإزالة المفسدة، ويكون التعويض أو الضمان مماثلاً للضرر. الرأى الثالث القائل بأن الدية تعويض موضوعى: من الآراء من يرى أن الدية فى حقيقتها تعويض موضوعى بحت لا تتخلله أية عناصر شخصية مستمدة من الظروف الشخصية للطرفين فهما لا تتأثران بمنزلة الجانى أو المجنى عليه، ولا بالرغبة فى الانتقام أو التشفى ، ولا بمدى جسامة الفعل الموجب للدية، وأن هذا يتفق مع الاتجاه الموضوعى المطلق فى تقدير التعويض. تاسعاً: شروط الفعل الموجب للمسئولية فى الفقه الإسلامى: 1- عدم مشروعية الفعل: ويكون غير مشروع فى حكم القواعد العامة، ويكون كذلك إذا ما شابه تقريط أو تقصير. 2- أن يكون الفعل صادراً من الغير. 3- وقوع ضرر نتيجة الفعل غير المشروع . 4- أن يقع نتيجة الفعل ضرر بدنى. 5- استقرار الضرر. عاشراً: الشروط الواجب توافرها فى المضرور ليستحق التعويض فى العدالة الانتقالية: تضمن القرآن الكريم وآراء فقهاء الشريعة الإسلامية الشروط الواجب توافرها فى المضرور ليستحق التعويض فى العدالة الانتقالية Transitional justice ويمكن تلخيص هذه الشروط فيما يلى: 1- أن يكون المضرور معصوم الدم. 2- أن يترتب على الفعل ضرر دائم بالمجنى عليه. ويكون من أهم الشروط الموجبة للتعويض فى الشريعة الإسلامية أن يكون الفعل خطأ ، أما لو كان الفعل متعمد فذلك موجب للقصاص وللقصاص أحكام وشروط خاصة أخرى مختلفة فى الشريعة الإسلامية.