يمتلك فيلم «life of pi» أو «حياة باى» الذى أخرجه «أنج لى» مظهرًا بسيطًا يشبه أفلام ديزنى، ولكنه فى الحقيقة يعبّر عن طموح فنى كبير فى الحديث عن قضية الإيمان، وحاجة الإنسان إلى الله، وما بين بساطة الشكل والحدوتة المدعومة بالإبهار البصرى وخدع الجرافيك، والمعنى العميق الروحى، يقطع الفيلم شوطًا كبيرًا فى طريق الإتقان والإقناع. يمكن تلخيص الحكاية بصورة سطحية بأنها مجرد تفاصيل إنقاذ صبى هندى من الموت غرقًا بمساعدة نمر بنغالى، إذا فعلنا ذلك فإننا نكتب عن الفيلم بسطحية، إذ أن الرحلة والمغامرة بأكملها ليست فى الواقع سوى تجسيد لحاجة الإنسان إلى قوة خفية تدعمه وتمنحه الأمل فى النجاة، تجعله يتنفس من جديد فى الوقت الذى يتصور فيه أن اليأس يحيط به من كل جانب، سيكون خطأ كبيرًا فى قراءة هذا الفيلم الممتع إذا اكتفى مشاهده بمتابعة الحكاية والمغامرة دون أن يتأمل معناها ودون أن يكتشف أننا أمام رحلة روحية داخلية، بقدرما هى أيضًا مغامرة مثيرة فى قلب المحيط الهادى. بطل الفيلم اسمه «باى»، نراه وهو يحكى حياته لمؤلف يريد أن يكتب عنها، كان المؤلف قد التقى بمدرب السباحة «ماما جى» الذى تولى تدريب «باى» فى طفولته، قال المدرب للكاتب إن لدىّ «باى» حكاية ستجعل المؤلف يؤمن بالله. يحكى «باى» قضيته من البداية، هو ابن لرجل أعمال هندى كان يمتلك حديقة للحيوان فى منطقة بوند تشيرى التى كانت تحتلها فرنسا ثم تنازلت عنها، «باى» نفسه ولد فى الحديقة على يد طبيب بيطرى، والده كان معجبًا باسم حمّام سباحة فى فرنسا، فأطلق على ابنه أسمًا غريبًا «بليسين باتل» مما جعله موضوعًا لسخرية زملائه، نشأ «باى» وهذا اسم شهرته، وسط عائلة منفتحة، والده لا يؤمن بالأديان، ويؤمن فقط بالعقل والعلم والمنطق، أمه تمتلك أيضًا نظرة متحررة، ولكنها تعتقد أن الدين هو الصلة الوحيدة التى تربطها بالوطن أما «رافى» شقيق باى الأكبر، فهو يسخر من محاولات شقيقه بالجمع بين الهندوسية والمسيحية والإسلام كان «باى» منذ طفولته مهتمًا بالبحث فى الجوانب الروحية للأديان، وكان أيضًا مهتمًا بالنمر البنغالى الذى أطلق عليه اسم «ريتشارد باركر»، قرر ذات يوم أن يمنحه قطعة من اللحوم، ولكن الأب جاء فى الوقت المناسب، قال باى إنه يشاهد روحًا وراء عيون النمر بينما أخبره الأب أنه كاد يقتل نفسه بتقديم لحوم إلى حيوان متوحش، ثم ألقى الأب فريسة للنمر لكى يثبت وحشيته. عندما تسوء أحوال المنطقة الاقتصادية، يقرر الأب أن يصطحب أسرته إلى كندا، على أن يحمل حيواناته فى سفينة شحن يابانية لكى يبيع هذه الحيوانات فى الولاياتالمتحدة، ويضطر «باى» إلى مرافقة أسرته رغم ارتباطه بقصة حب مع الجميلة «آناندى»، وسط المحيط، وفى منطقة «ماريانا» تهب عاصفة شديدة تغرق السفينة، ويقفز «باى» إلى أحد قوارب الإنقاذ، ثم يكتشف أن القارب به عدة حيوانات نجت من الموت هى النمر «ريتشارد باركر»، وقرد ضخم، وحمار وحشى، وأحد الضباغ المتوحشة، يضطر بذلك إلى الهروب إلى عوامة صغيرة، ويحاول أن يعود إلى القارب الذى توجد به مئونة كبيرة من الطعام والشراب، وكتاب صغير عن خطط الإنقاذ وقت الغرق. تتطور الأحداث إلى صراع شرس بين الحيوانات، الضبع يقتل القرد والنمر يقتل الضبع والحمار الوحشى، يطلب «باى» المساعدة من السماء، يحاول ترويض النمر وبعد صراع مرير معه، يكتشف أن وجود النمر هو الذى أنقذ حياته لولاه ما ظل مستيقظًا، ولولاه ما نجح فى قراءة الكتاب، وابتكار طرق للتحايل على الحياة، وسط المحيط تهّب عاصفة جديدة قاسية وقاتلة يستسلم «باى» لمصيره، ينتظر الموت القادم، ولكنه يستيقظ فجأة وقد وجد نفسه على سطح جزيرة كبيرة يأكل من أعشابها، ويكتشف مع «ريتشارد باركر» وجود بحيرة مائية عذبة تلتف حولها أعداد هائلة من السناجب، ثم يكتشف بالمصادفة وجود بقايا أسنان بشرية فى قلب زهرة برية، يعرف أنه فى جزيرة سحرية يتغير ماؤها فى المساء ويصبح مسمومًا، فيهرب مع «باركر». بعد كفاح طويل، يصل «باى» منهكًا وجائعًا إلى شاطىء فى المكسيك، ينظر من بعيد فيجد النمر «ريتشارد باركر» يتقدم فى اتجاه غابة من الأشجار لا ينظر إليه النمر على الإطلاق عندما ينقلون «باى» يبكى بشدة لأنه لم تتحح له فرصة توديع النمر، فى المستشفى يحضر اثنان من الشركة اليابانية التى تمتلك السفينة الغارقة يسألونه عن كيفية غرق السفينة لا يصدقونه عندما يحكى قصته مع النمر، فيقرر أن يحكى لهم قصة أخرى، يقول إنه نجح فى النزول إلى قارب مع أمه وطباخ السفينة الشرس وأحد البحارة، وأن الطباخ تشاجر مع أمه ومع البحار، وأنه قتلهما لكى يوفر الطعام، وفى النهاية استطاع «باى» الهروب بمفرده إلى المحيط! يتساءل المؤلف وهو يسمع قصة «باى» عن نهاية الحكاية، فيسأله «باى»:أيهما تفضل القصة التى حكيتها عن النمر، أم القصة التى حكيتها لممثلى الشركة اليابانية؟ يقول المؤلف «إننى أفضل القصة التى يوجد فيها النمر»، فيرد «باى» بلهجة انتصار:«إنها القصة التى يوجد فيها الله» تظهر أسرة «باى» الجديدة، زوجته وطفلاه، من الواضح أن نجاته جعلته يبنى حياة جديدة رغم أنه فقد حبيبته الهندية، وفقد أمه ووالده وشقيقه، ينتهى الفيلم بمشهد النمر «ريتشارد باركر» وهو يختفى وراء الأشجار دون أن يلتفت إلى الخلف. يقول الفيلم الجميل، الذى يمكن اعتبار كل مشهد فيه لوحة تشكيلية إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون دعم روحى، خصوصًا فى أوقات الخطر، فقد غرق الأب الذى لم يؤمن إلا بالعقل والمنطق، وعاش الابن الذى اكتشف الروح وراء عيون النمر ربما لم يقتنع المؤلف بالفكرة، ولكنه اكتشف بالتأكيد أن الحياة بدون إله تكاد تحول الإنسان إلى وحوش مفترسة كما حكى «باى» فى قصته الجديدة عن الطباخ الشرس وأمه والبحّار، تسخير وحش مثل النمر لإنقاذ صبى صغير أمر يقترب من المعجزة والسحر، كما أن ما حدث فى الجزيرة الصغيرة واكتشاف الفخ الذى يوجد بها، كل ذلك لا يجد تفسيراً عقليًا، ولكنه يمكن أن يجد تفسيراً روحيًا، طريق المعرفة لدى «باى» هو طريق روحى بالأساس وكان الأمر لا يخلو من مساعدة عقلية يمثلها الكتاب الصغير الذى احتفظ به لحماية نفسه من الموت والغرق. تم تنفيذ الفيلم بتقنية البُعد الثالث مما أكسب التجربة البصرية طاقة هائلة على التأثير، نجح «آنج لى» فى اختيار ممثليه وخصوصًا الذين لعبوا دور «باى» فى مراحله السنية المختلفة، كانت هناك أيضًا الكثير من اللمسات الساخرة الذكية، وكان لافتًا أيضًا مشاركة النجم الفرنسى المخضرم «جيرار ديبارديو» بمشهد واحد فقط فى الفيلم، دون أن يحتاج الفيلم أو الدور العادى، وهو دور الطباخ، إلى ممثل بهذا الحجم الفنى أو الجسدى لابد من الإشارة بالموسيقى التصويرية التى أبرزت الجوانب الروحية للحكاية، وبفريق المؤثرات البصرية وخدع الجرافيك الذين قدموا مشاهد مذهلة فى الدمج بين الحيوانات الحقيقية والبشر، دون أن يلتقى الطرفان فى الحقيقة.