نستكمل ما ذكرنا فى مقالنا السابق عن تعريف السياسة الشرعية، حيث انتهينا إلى أن الإمام ابن القيم فى كتابه "إعلام الموقعين" قد رفض تقسيم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة فقال: وتقسيم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة؛ كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدين إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل، بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد، فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها، وهذا الأصل من أهم أصول الشريعة وأنفعها، وهو مبنى على حرف واحد، وهو عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم- بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد فى معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده، وإنما حاجاتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم، وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه فى أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة، لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته فى هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذى تحتاج إليه الأمة فى علومها وأعمالها عما جاء به. وقد توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وما طائر يقلب جناحيه فى السماء إلا ذكر للأمة منه علمًا، وعلمهم كل شىء حتى آداب التخلى وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت. وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برمته، ولم يحوجهم إلى أحد سواه، فكيف يظن أن شريعته الكاملة التى ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها؟.. ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم.. وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك، وقلة نصيبه من الفهم الذى وفق الله له أصحاب نبيه الذين اكتفوا بما جاء به، واستغنوا به عما سواه، وفتحوا به القلوب والبلاد، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا وهو عهدنا إليكم، وقد كان عمر رضى الله عنه يمنع من الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزبد أفكارهم وزبالة أذهانهم عن القرآن والحديث؟.. فالله المستعان. وقد قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).. سورة العنكبوت - آية رقم 51... وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) سورة النحل – آية 89... وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) سورة يونس – آية 57.. * ويقول الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف، رحمه الله، فى مؤلفه "السياسة الشرعية": إن السياسة الشرعية هى علم يبحث فيه عما تدبر به شئون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التى تتفق وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص، وموضوعه النظم والقوانين التى تتطلبها شئون الدولة من حيث مطابقاتها لأصول الدين وتحقيقها مصالح الناس وحاجاتهم، وغايته الوصول إلى تدبير شئون الدولة الإسلامية، والإبانة عن كفاية الإسلام بالسياسة العادلة، وتقبله رعاية مصالح الناس فى مختلف العصور والبلدان. المقصود بالشرع فى السياسة الشرعية: نتناول بإيجاز تحديد المقصود بالشرع الذى تتخذ منه السياسة منطلقًا وغاية ومنهاجًا. يقول الدكتور يوسف القرضاوى: إن كلمة "الشرع" – كما قال بعض العلماء- لها فى أذهان بعض الناس مدلولات رديئة، بل مرعبة أحيانًا، فهم يتصورون أن الشرع هو مجموع أقوال المتأخرين من الفقهاء، من مقلدة المذاهب المتبوعة المدونة فى الكتب الصفراء، والتى تمثل عصرها الذى تراجعت فيه الحضارة الإسلامية، وتأخرت فيه الثقافة الإسلامية، وتحجر فيه العقل الإسلامى، وغاب فيه الإبداع الإسلامى فى مجال الفكر والأدب والصناعة والحياة كلها، وغلب الجمود والتقليد على كل شىء.. وبعض الناس يتصور أن الشرع هو الجمود على ظواهر النصوص، يفهمها فهمًا حرفيًا، لا يبذل جهده فى معرفة مقاصدها وأسرارها، ولا يربط بين جزئياتها وكلياتها، ولا يصلها بمبادئ الشرعية العامة، وأهداف الإسلام الكبرى، ولا يبالى أن تصطدم تلك الأمور بعضها ببعض مادام هو متمسكًا بنص جزئى يعض عليه بالنواجذ. وهذه الصورة المتوهمة ليست هى الصورة الحقيقية للشرع التى جاء بها القرآن وبينتها السنة وفهمها الصحابة ومن تبعهم بإحسان. إن هذا الشرع - وبعبارة أخرى الشريعة - أقامها الله عز وجل على اليسر لا العسر، على التخفيف لا التشديد، على رفع الحرج لا الالتزام به كما قال الله تعالى: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" سورة البقرة- آية 185.. "يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا" سورة النساء – آية 28.. "مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" سورة المائدة – آية 6.. "هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" سورة الحج - آية 78. ومن التيسير الذى بنيت عليه هذه الشريعة: أنها شرعت الرخص فى مقابل العزائم، كما جاء فى الحديث الشريف: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته".. وفى حديث آخر: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه". ومن هذا التيسير أيضًا: أنها أباحت المحظورات عند الضرورات، كما قال تعالى بعد تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" سورة البقرة – آية 173. ومن هذا التيسير: أنها شرعت فى التدرج فى الأمور، والوصول إلى الأهداف خطوة خطوة، كما علمنا ذلك فى بداية الإسلام، وعند فرض الأحكام، فتدرج فى فرض الفرائض، وفى تحريم المحرمات، كما هو معروف فى فرض الصلاة والصيام، وفى تحريم شرب الخمر على مراحل معلومة فى تاريخ التشريع. ومن هذا التيسير: أنها شرعت ارتكاب أهون الشرين، وأخف الضررين، فيدفع الضرر الأعلى بتحمل الضرر الأدنى، والضرر العام بتحمل الضرر الخاص، وتفَوت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، ويُسكت على المنكرمخافة وقوع منكر أكبر منه.. ومن هذا التيسير أنها أجازت للإنسان فى حالة الإكراه ما لا يجوز فى حالة الاختيار، حيث إنه سلب إرادته التى هى – مع العقل- أساس مسئوليته.. وقد جاء فى الحديث الشريف: "إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه ابن ماجه (2045) وابن حبان فى صحيحه (7219) والحاكم (2/198) كلهم عن ابن عباس رضى الله عنهما.. حتى أجاز القرآن للمكره أن ينطق بكلمة الكفر، ولا حرج عليه فى إيمانه، كما قال عز وجل: "إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ" سورة النحل –آية 106. • خلاصة: أما وقد عرفنا معنى السياسة ومعنى الشرع الذى تنطلق منه السياسة، وهى أن السياسة الشرعية هى علم يبحث فيه عما تدبر به شئون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التى تتفق وأصول الإسلام، فإننا نود التأكيد على أننا نقتصر فى هذه المقالات على التركيز على السياسة الشرعية؛ فيما يتصل بالسياسة التشريعية لبيان كيف تصدر تشريعات متفقة مع الشرع، وبيان حدود سلطة المشرع والمجالات الثلاثة التى يجوز له أن يعمل فيها برأى الإمام أو نائبه، حيث يجب شرعًا أن ينفذ فيها رأى ولى الأمر الذى يتولى السلطة السياسة فى بلد ما، وبالتالى نستبدل بكلمة الإمام ونائبه عبارة "السلطة التشريعية" باعتبارها السلطة المنوط بها التشريع فى نظم الحكم الحديثة التى تقوم على مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات الدستورية الثلاثة وهى: التشريعية والتنفيذية والقضائية كما هو الحال فى مصر. والله تعالى ولى التوفيق.