يجب أن نضع عملية صناعة الدستور وما تحيط بها من ألاعيب ومناورات وضغوط.. فى إطار اللعبة السياسية العامة التى تشهدها مصر.. هذه اللعبة سريعة التفاعل والمفاجآت.. ولا نستطيع أن نقول إن طرفاً واحداً يتحكم فيها.. رغم وجود المجلس العسكرى على رأس السلطة. فهناك قوة الشعب والشارع الذى لا يستطيع أحد تجاهل حركته النافذة والمؤثرة بعد ثورة 25 يناير.. وهناك القوى السياسية الثورية الشبابية.. وأيضاً الأحزاب الجديدة الصاعدة.. وإضافة إلى الأحزاب القديمة الكرتونية المتهالكة التى يجب أن تبحث عن تغيير دم وفكر وقيادات جديدة غير تلك التى عفا عليها الزمن.. وأكل وشرب!!هذه القوى الموجودة على الساحة السياسية.. تتأثر بمحيط إقليمى ودولى أوسع نطاقاً.. إضافة إلى تواصلها مع قوى داخلية غير رسمية وغير ظاهرة على السطح.. ولكنها ذات تأثير ربما يفوق الأحزاب والقوى المعلنة!! ومظاهر العملية السياسية التى نراها فى الإعلام وأمام الكاميرات وتحت الأضواء.. غير المواجهات والضغوط والمناورات التى تحدث وراء الكواليس. وفى هذه الإطار تم تشكيل الجمعية التأسيسية لأول مرة.. ثم حدثت الانسحابات المبرمجة والموجهة بصورة كبيرة.. بدليل أن كل المنسحبين شاركوا فى عملية اختيار الجمعية التأسيسية بملء إرادتهم الحرة.. بل إنهم كانوا سعداء بذلك! ثم فجأة انقلب الحال.. وكأن هناك من يوجه ويحرك.. بالريموت كونترول!! ثم جاء حكم المحكمة الدستورية العليا ببطلان تشكيل الجمعية التأسيسية والتزم البرلمان وكل الأطراف والقوى السياسية بهذا الحكم، وبدأت جولة جديدة لوضع معايير تشكيل الجمعية التأسيسية.. من خلال مجلس الشعب.. وهذا حقه الدستورى الأصيل، ومرة أخرى يتكرر مشهد الانسحابات من جلسات الاستماع.. وتخرج نحو عشرة أحزاب دفعة واحدة من الاجتماع الأول!! وكأنها عملية مبرمجة ومقصودة سلفاً!! وبذات الأسلوب السابق.. مع اختلاف بعض الرتوش!! وعندما نقرأ المشهد السياسى بعمق.. نلاحظ أن من يقوم بهذه اللعبة ويقودها.. هى ذات القوى التى لعبت مع النظام القديم.. بذات العقلية والآليات المفضوحة!! وكأنها لا تعى درس التاريخ.. بل كأنها تعيش خارج الزمن ولا تدرك أن هناك ثورة ومتغيرات هائلة حدثت.. وسوف تحدث!! ونسأل هؤلاء الذين يريدون إقصاء البرلمان والقوى السياسية من الجمعية التأسيسية، لقد اعترضتم على عدم وجود تمثيل أوسع لكم فى الجمعية السابقة.. فِلمَ تريدون إقصاء أصحاب الأغلبية البرلمانية والسياسية والشعبية؟! لم تريدون تحجيمهم داخل الجمعية الجديدة؟ ولم تريدون الحصول على تمثيل أكبر من حجمكم على الأرض؟ أليس هذا ضد الديمقراطية التى تطالبون بها وتريدون تطبيقها؟! هل تمارسون سياسة الإقصاء التى كان يتبعها النظام القديم؟! وإذا كان الشعب هو الحكم - وليس النخبة أو بعض القوى السياسية الهامشية - فلم ترفضون اختيار الشعب الذى أكده مراراً.. فى الاستفتاء والانتخابات.. بل فى كون أغلب مرشحى الرئاسة من التيار الإسلامى.. وهم الأكثر فرصة للفوز لو توحدوا ولم تتفرق كلمتهم؟! لماذا نرفض رأى أغلبية الشعب - وليس أغلبية البرلمان - التى اختارت التيار الإسلامى بكل تنويعاته؟! فمصر دولة إسلامية الهوى والهوية.. تحتضن أبناءها جميعاً.. مسيحيين ومسلمين، بل لا نبالغ إذا قلنا إن مسيحيى مصر ينعمون بود وحب لا يحظى به المسلمون فى الغرب.. وفى دول تحكمها الأحزاب المسيحية.. رسمياً!! وليس أدل على ذلك من الظلم والاضطهاد الذى يتعرض له المسلمون فى كل مكان - حتى فى بلادهم - بعد سبتمبر 2011. وهنا نتساءل مرة أخرى: ما هى الخيارات المتاحة للخروج من المأزق الدستورى الحالى؟ بل من المأزق السياسى الأوسع والأعمق والأخطر الذى تشهده مصر منذ اندلاع الثورة؟ l الخيار الأول هو وضع الدستور قبل نهاية يونيو القادم، وهذا طريق شبه مستحيل ومحفوف بالمخاطر. فنحن لا نبنى عمارة أو مؤسسة.. أو حكومة.. بل نضع أساساً لنهضة مصر كلها.. أساساً للمستقبل الذى لن يشهد انطلاقة حقيقية دون أساس قوى وقواعد دستورية راسخة. هذا الأساس سوف يحكم كل مؤسسات الدولة بما فيها القضاء الذى ستنطلق أحكامه وقوانينه من الدستور الجديد. هذا الأساس الدستورى سوف يحدد وضع الجيش وصلاحياته ومسئولياته وكذلك نوع النظام الرئاسى وصلاحياته وكافة الأسس التى تنظم عمل مؤسسات الدولة.. بما فيها البرلمان والإعلام والشرطة.. إلخ. لذا فإن الاستعجال فى صياغة وحياكة الدستور الجديد سوف يؤدى إلى إنتاج ثوب معيب.. لا يناسب صاحبة الجلالة.. أرض الكنانة، كما أن الاستعجال سوف يعيدنا إلى أسلوب النظام البائد الذى تفنن فى صياغة القوانين وإعداد التعديلات الدستورية على مقاسه ومقاس الورثة الذين ضاعت أحلامهم!.. وتوارت وجوههم! بمعنى آخر.. فإن إعداد الدستور يجب أن يأخذ وقته الكافى، وأن يخضع لمناقشات واسعة داخل كافة مؤسسات الدولة والإعلام الذى يجب أن يتناوله بموضوعية وبحياد وتجرد.. لأنه سوف يناله من الدستور الجديد نصيب وافر (ثمانية بنود اقترحتها نقابة الصحفيين). l الخيار الثانى وضع دستور مؤقت أو إعادة إنتاج دستور 1971، وهو خيار مرفوض أيضاً.. وأسوأ من الخيار الأول.. لأنه سوف يدخلنا فى أزمات أخطر. فترقيع دستور 71 أو إعداد دستور مؤقت سوف يعتبر مشكلة فى حد ذاته لأنه يشبه الثوب «المرقع».. لا يقى من برد العواصف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. ولا يصلح أساساً لأية نهضة. وللأسف الشديد فإن دعاة هذا الحل هم من الأبواق القديمة التى تنعق فى غير زمانها.. ومكانها معروف جيداً!! l الخيار الثالث هو إصدار مرسوم دستورى يحدد صلاحيات الرئيس القادم، وتقوم لجنة مستقلة من خبراء الدستور بوضعه دون تدخل أو توجيه أو ضغط من أى طرف أو «لهو خفى»!! ورغم وجاهة هذا الخيار - مقارنة بالخيارين السابقين - فإنه سيدخلنا فى دوامة أخرى.. إنه إعلان دستورى مؤقت.. سوف يتغير قريباً!! فلم لا نصوغ دستوراً متكاملاً يعبر عن إرادة الأمة.. وعن هوية مصر العربية الإسلامية وحضاراتها المتنوعة.. بدءاً من الفرعونية ومروراً بالقبطية.. وحتى الإسلامية؟.. يجب أن ندرك أن الخيار الأمثل هو تشكيل جمعية تأسيسية لصياغة الدستور من كافة الأطياف والخبراء والقوى السياسية والاجتماعية. دون استثناء أو إقصاء، ودون تهويل من حجم بعض الأقزام.. أو تهوين لقامة وقيمة الأغلبية. هذا هو واقع مصر وقدرها.. ومن يرد غير ذلك فلابد أن يقرأ مسيرة التاريخ بعمق.. بل إنه يضر نفسه قبل غيره. إن إدخال صياغة الدستور فى لعبة المناورات السياسية سوف يعمق أزماتنا المتلاحقة ويزيد حالة الفوضى العارمة التى نشهدها فى كل مكان.. وسيسهم فى تفاقم مشكلة الأمن وزيادة معدلات الجريمة.. ثم انهيار هيبة الدولة.. وربما انهيار الدولة ذاتها.. لا قدر الله. إن المتلاعبين بالدستور كوسيلة من وسائل الصراع السياسى يساهمون عمداً أو جهلاً فى احتمال تأخير تسليم السلطة فى موعدها.. بل فى احتمال تأجيل انتخابات الرئاسة.. بل فى احتمال ضياع الثورة.. والأهم والأخطر من ذلك أنهم يساهمون فى إعادة استنساخ النظام القديم.. وقد كانوا أحد عناصره التى أجاد اللعب بها وحركهم كالدمى.. من وراء الكواليس. ويبدو أن هؤلاء الأقزام يعشقون هذه اللعبة.. ولا يجيدون غيرها!.