إنها خطوة ايجابية أن توحد أحزاب وقوي وشخصيات سياسية موقفها تجاه قضية كبري يتوقف عليها مستقبل البلاد لعشرات السنين القادمة، هي قضية الدستور. وقد شاركت في اجتماعين، في يومي الخميس والسبت الماضيين لتأسيس جبهة وطنية من الأحزاب والقوي والشخصيات السياسية للتأكيد علي رفض الجمعية التأسيسية للدستور بتشكيلها الحالي، ورفض أي مساومات حول ادخال عضوية جديدة أو خروج منها (من الجمعية) نظرا لوجود خلاف علي معايير الاختيار وضوابطه والأساس الذي تقوم عليه هذه الجمعية.. وأعلنت الجبهة الوطنية، بعد مناقشة استغرقت حوالي ساعتين ونصف، انها لن توافق علي الحوار علي ضوابط ومعايير اختيار الجمعية التأسيسية التي ينبغي أن تمثل كل أطياف المجتمع دون غلبة حزبية أو إقصاء سياسي لأي عنصر من عناصر الوطن.. وكان الاتجاه العام في المناقشات هو ضرورة أن تتشكل الجمعية التأسيسية من خارج البرلمان، وأن تضم ممثلي كل التيارات والأحزاب والنقابات العمالية والمهنية ورجال القانون الدستوري والأزهر والكنائس ومنظمات المجتمع المدني واتحادات المرأة وشباب الثورة. وتعليقا علي العرض الذي طرحه الدكتور سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب، خلال اتصال مع الدكتور السيد بدوي، رئيس حزب الوفد، كان هناك رفض جماعي لفكرة زيادة العدد الذي ترشحه القوي الوطنية وفقهاء الدستور إلي خمسين عضوا، إلي جانب الأعضاء المائة الأعضاء في الجمعية علي أن تكون لهم نفس الحقوق. وأكد المجتمعون ان هذه الفكرة لا تعدو أن تكون مناورة سياسية، لأن الكتاتني لا يملك سلطة زيادة الجمعية التأسيسية إلي مائة وخمسين، بينما الاعلان الدستوري يحدد عدد الأعضاء بمائة فقط. ورفض المجتمعون أيضا اقتراح الكتاتني اضافة أي عدد من القوي الوطنية وفقهاء الدستور علي أن يتم التنازل لهم من داخل الجمعية سواء من الاحتياطي أو الأعضاء الأساسيين. واقترح الكتاتني أيضا العودة مرة أخري إلي الاجتماع المشترك لمجلسي الشعب والشوري لإعادة اختيار الجمعية التأسيسية بشرط ألا يكون هناك مانع دستوري.. وتوقع المجتمعون من الجبهة الوطنية والشخصيات السياسية أن يسفر مثل هذا الاجتماع المشترك عن تشكيل جمعية لا تختلف كثيرا عن الجمعية الحالية.. والاقتراح الرابع للكتاتني هو استعداده للحوار حول أي حلول أخري للخروج من الأزمة.. ولكن علي أي أساس يجري هذا الحوار؟ كان من الواضح أن الأغلبية البرلمانية في مأزق بعد انسحاب ما يقرب من ثلث أعضاء الجمعية التأسيسية، وخاصة المحكمة الدستورية العليا والأزهر الشريف والكنيسة واتحاد العمال ونقيب المحامين ونقيب الصحفيين والشخصيات السياسية الأخري إلي جانب الأحزاب.. وترددت خلال مناقشات الجبهة الوطنية والقوي السياسية كلمة »الفخ«، بعد أن شعر المجتمعون أن ثمة محاولة للالتفاف علي موقفهم والتحايل من أجل استدراجهم للعودة إلي جمعية تأسيسية فاقدة للشرعية، لأنها لا تمثل المجتمع المصري، وتحاول فرض دستور إخواني علي الشعب المصري. وكان الكتاتني قد سبق ان صرح قائلا: »نحن ماضون في طريقنا ونود من إخواننا المنسحبين أن يلحقوا بنا..«!. غير ان الشواهد والوقائع تكشف مدي عزلة الأغلبية البرلمانية في معركة الدستور، بسبب اقتناع قطاعات واسعة من الرأي العام بأن هذه الأغلبية تريد أن تنفرد بوضع الدستور والتحكم في صياغة مواده، أو بعبارة أخري: »اختطاف وسرقة الدستور« بعد »اختطاف وسرقة الثورة«.. كان الرأي السائد في اجتماع الجبهة الوطنية والقوي السياسية هو ضرورة إنهاء عمل الجمعية التأسيسية الحالية والإعلان عن ذلك، ورفض جميع الحلول القائمة علي فكرة استبعاد أو ضم أي عدد لهذه الجمعية. وقال الدكتور يحيي الجمل انه يجب إعادة تشكيل الجمعية، وان في مصر فقهاء دستوريين عالميين. وهنا يجب التذكير، مرة أخري، بحكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في 17 ديسمبر عام 1999، وجاء فيه ان الدستور هو الذي يؤسس سلطات الحكم في الدولة، ولا يجوز لإحدي هذه السلطات التشريعية أو التنفيذية أو القضائية أن تنشئه وتحتكره، ولا يجوز للبرلمان الاستحواذ أو الهيمنة علي صناعة الدستور. ويقول الدكتور جابر جاد نصار، أستاذ القانون والمحامي بالنقض والإدارية العليا، انه لا يجوز أن يكون أعضاء البرلمان موجودين في لجنة المائة لصياغة الدستور.. ولكن المشكلة ان الأغلبية البرلمانية لدينا لم تعد قادرة علي أن تري أن هناك من يشاركها في الوطن.. ولم يتحرك أحد لتقديم تفسير للمادة (06) من الاعلان الدستوري، علي طريق اعلان دستوري جديد رغم ان مجموعة كبيرة من رجال القانون تعتبر قرار أعضاء مجلسي الشعب والشوري باختيار نصف أعضاء الجمعية التأسيسية من داخل البرلمان ونصفهم الآخر من خارج البرلمان.. مخالفا لهذه المادة (60) وللأعراف الدستورية في صناعة الدساتير ولأحكام المحكمة الدستورية العليا. المخاوف التي يشعر بها المواطنون من شبح انفراد تيار واحد بوضع الدستور.. مشروعة.. ذلك أننا بإزاء تيار يريد تغيير تراث وتقاليد وعادات وسلوكيات المصريين علي مدي آلاف السنين ويسعي إلي إعادتنا إلي عصور ما قبل التاريخ.. فالحضارة المصرية القديمة التي يفاخر بها كل مصري أمام العالم بأسره.. هي حضارة »عفنة«!!.. ولعبة كرة القدم ليست من الألعاب الشرعية! والملاعب هي أماكن للهو المحرم.. والقضايا الرئيسية المباشرة هي ختان الاناث وارتداء النقاب واطلاق اللحية وتقليل سن الزواج للبنات بحيث يمكن تزويجهن.. وهن مازلن أطفالا(!!) وتجريد المرأة المصرية من بعض الحقوق التي حصلت عليها بعد نضال طويل.. وما يشغل تفكير تيار الأغلبية البرلمانية لدينا هو تمرير مشروع قانون يقضي بتطبيق »حد الحرابة«، وإنزال عقوبات، مثل القتل والصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وقد وصف المفكر الإسلامي جمال البنا أصحاب هذا المشروع بأنهم أشخاص يعانون من توقف جهازهم العقلي، وتصوراتهم تعبر عن أسوأ أشكال الفهم الإسلامي، واعتبر حد الحرابة مجازفة خطيرة غير مأمونة العواقب وعودة إلي الوراء. وقال جمال البنا ان صعود »الإسلاميين«، في حد ذاته، أمر مقلق ومقبض ويمثل نكسة للمجتمع المصري. ويتجاهل هؤلاء ان قانون العقوبات الحالي ملئ بالنصوص الرادعة، وأن البرلمان لا يستطيع وضع قانون عقوبات دون وجود دستور.. وما يشغل تفكير تيار الأغلبية البرلمانية هو فرض رقابة صارمة علي حرية الفكر والإبداع الأدبي والفني. ويري بعضهم إلغاء شم النسيم و»مولد النبي«، وفرض قيود علي السياحة والاختلاط في معاهد التعليم، والسيطرة علي الإعلام، وتقييد حرية الاجتماع والتظاهر.. ويدرك تيار الأغلبية البرلمانية انه لا يوجد أدني ضمان لاحتفاظهم بأغلبيتهم، وخاصة بعد صدمة أدائهم البرلماني الهزيل، وإصرارهم علي السيطرة المطلقة واقصاء الآخرين. غير أن السبب الرئيسي في اصرار الأغلبية البرلمانية علي فرض الهيمنة المطلقة هو خشيتها من صدور حكم قضائي ببطلان مجلسي الشعب والشوري. ولذلك فإن هذه الأغلبية تبحث الآن عن وسائل تحصين نفسها من عواصف دستورية تقتلعها من مواقعها التي انتظرتها طويلا.. ولذلك فإن معركة الدستور أكثر أهمية بكثير من معركة رئاسة الجمهورية. وليس تقديم مرشحين للرئاسة ينتمون إلي حزب الإخوان سوي وسيلة من وسائل تحصين الأغلبية البرلمانية الحالية، علي طريق السعي إلي قطع الطريق علي تداول السلطة في أي وقت!.. ومن هنا، فإنني اعتبر تشكيل الجبهة الوطنية حدثا تاريخيا من شأنه حماية مصر من دستور مستورد.. لا علاقة له بتاريخ وتراث مصر الحضاري الديمقراطي. كلمة السر: الدستور ترجمة لثورة 25 يناير. نقلا عن صحيفة الاخبار