بدأت سلمية.. فلماذا تفقد عقلها الآن؟! الحلم يتحطم على صخرة انفلات العقول قبل الأعصاب.. الحلم كان بسيطا.. عيش حرية عدالة اجتماعية، كان هذا قبل أن يرفع أحد الجواسيس فى ميدان التحرير لافتة تحمل رسالة إلى الرئيس الأمريكى فى ظاهرها لكنها فى الحقيقة موجهة للداخل!! أنها ثورة كرامة أيها الغبى.. وفى غياب السلطة وارتخاء يد القانون تحولت كل المطالب حتى نداء الغريزة إلى كرامة وتفجرت كل الضغائن، والخلافات.. كرامة؟! وانعدمت الشفقة والذوق والأحاسيس الجميلة.. كرامة!، وحضرت الفوارق الطبقية والاختلافات العقيدية وحتى الأيدلوجيات.. كرامة!، وهكذا تعمل الفوضى الخلاقة بأكثر من طريقة. (1) عام 2005 تناهى إلى أسماعنا لأول مرة هذا المصطلح «الفوضى الخلاقة» صادرا عن وزيرة خارجية الكيان الشيطانى المعروف بالولايات المتحدةالأمريكية كونداليزا رايس، وأدرك غالب العرب مؤخرا أن وراء هذا المصطلح تقف عقيدة سياسية واقتصادية غربية تم تبنيها من المحافظين الجدد فى الغرب الأمريكى والأوروبى، بدعم كبير من الشركات متعددة الجنسيات وأمراء الحرب وتجار السلاح العالميين، ومجال عمل هذا المخطط توجه بشكل أساسى إلى الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين من الزمن. وفى تأصيل مصطلح «الفوضى الخلاقة» قيل إنه مستلهم من أدبيات الماسون، ومنكرى الإلوهية الذين يدعّون أن الكون انبثق من تلقاء نفسه على إثر انفجار هائل (بينج بانج)، وعندما انتفضت الشعوب العربية مشحونة بالغضب على حكامها الديكتاتوريين فيما عرف بثورات الربيع العربى كشف بعض مفكرى وكٌتّاب الغرب أنه كان هناك حلم يراود إدارة الرئيس جورج بوش الابن قوامه أن تنخرط شعوب العالم العربى فى أعمال عنف طائفية ضد بعضها البعض تدخل على إثرها فى الفوضى، وعلى الرغم من أن هؤلاء المحللين السياسيين الغربيين الذين نبهوا إلى هذا الأمر لم يلجأوا فى تفسيره إلى النموذج النمطى «الاستريو تايب» للفوضى المتمثل فى السياسة الاستعمارية القديمة «فرق تسد» تلك التى كانت تعتمد عليها الإمبراطورية الإنجليزية فى إدارة مستعمراتها ولم تكن هى صاحبة اختراعها فقد استلهمتها هى الأخرى من تاريخ الإمبراطورية الرومانية، ثم العصر اليونانى.. فقد بدا لهؤلاء المفكرين أن هذه السياسة قد عفا عليها الزمن ولم يتبق منها إلا بعض التداعيات، أو هكذا بدا الأمر لهؤلاء المحللين، قبل أن ينشط اختراع (فرق تسد) مرة أخرى ويمضى من نجاح إلى آخر يضرب دولا بعينها فى الشرق بداية من أفغانستان لينتقل بعدها إلى العراق ثم ينشط فى السودان وفلسطين، وها هو ذا يطل علينا بوجهه البشع الآن فى مصر. (2) مرة أخرى اسمه «فرق تسد» هذا الاختراع العجيب الذى يعتمد على خلق ثنائيات واختلاق صراع فيما بينها يتطور ليصبح بؤرة توتر تلتهب إلى درجة تتحول معها عند أقرب مواجهة أو أقل احتكاك إلى معركة تجلب الفوضى. والتحقق الأمثل لعمل هذه النظرية يتبدى فى الثنائيات الدينية مثل المسلمين والمسيحيين أو الطائفية داخل الدين الواحد مثل الشيعة والسنة فى الإسلام، والأرثوذكسية والإنجيلية أو الكاثوليكية فى المسيحية بل وصل الأمر لاختراع كنيسة موازية داخل الطائفة الواحدة تتنازع الزعامة الروحية مثل كنيسة المقطم لصاحبها ماكسيموس الذى تمت رسامته فى أمريكا وجاء إلى مصر ينازع البابا شنودة زعامته الروحية منذ سنوات قليلة مضت!! لكن الأمر للأسف لم يقتصر على هذه الثنائيات، ولكنه امتد لخلق ثنائيات أخرى مثل سلطة ضد سلطة كما هو حادث فى فلسطين ما بين سلطة حكومة حماس فى غزة ورئاسة محمود عباس فى الضفة الغربية، أو فى السودان ما بين حكومة الشمال وحكومة الجنوب. ومن الكتل السياسية والتجمعات الطائفية والقبلية إلى وحدات أصغر نخبوية وتجد فيها أيضا نظرية «الفوضى الخلاقة» مجالا لنشاطها وعملها فى غياب السلطة والعمل على شحنها بطرق خبيثة جدا، وهذا ينقلنا إلى ما نشهده الآن فى غياب قبضة الدولة، لكن دعونا لا نقفز إلى هذا الواقع قبل أن نذكركم بأن مقدماته بدأت قبل سقوط نظام مبارك بعدة سنوات.. كنا وقتها نصرخ فى الصحافة ونطالب الدولة بأن تحافظ على هيبتها التى تتآكل بفعل فاعل، ويكتب مفكر مثل جلال أمين عن الدولة الرخوة التى يسهل ابتلاعها والاستيلاء عليها من أعدائها، ويحّذر أن تسقط مصر فى هذا الفخ، ومع سقوط جانب كبير من السلطة بعد ثورة 25 يناير، بدا أن السلطة انتقلت إلى الشارع نفسه، ثم ما لبث الشارع أن تحول إلى ثنائيات متشاحنة غالبا ما تظهر الخلافات بينها وتتعمق من خلال أو عبر مواقع التواصل الاجتماعى، ثم تنزل الكراهية من سماء هذا الواقع الافتراضى إلى الأرض بعد أن يتحول مستخدمو ومدمنو هذه المواقع الاجتماعية إلى فرق وتجمعات غالبهم من الشباب حديث السن وفيهم تجمعات تكونت بالفعل وفرزت نفسها عن الباقين مثل الألتراس والأناركيين ويكفى أن يتم تمرير منتج تحريضى تافه مثل قناع «فانديتا» حتى يتهافت الصبيان على ارتدائه وينزلوا به إلى الشارع ليرتكبوا من خلفه الأفعال التى يعتقدون أنها رمز القوة وأنهم تحولوا معها إلى أبطال شجعان.. وننام ونستيقظ لنجد أن الإعلام التعبوى يدافع عن القناع ولابسيه من أطفال الأناركية غير المسئولين عن أفعالهم. (3) كان مطلوبا فى الأيام التالية لخلع المخلوع مبارك أن تتفجر فى مصر أيضا ثنائية الإسلاميين والليبراليين وفى خطوة أخرى أن تتحول تلك الثنائية إلى صراع مفتعل ما بين الماضى الذى تريد مصر أن تتخلص من ربقته والمستقبل الذى تحلم بدخوله، ليس هذا فقط لكن أيضا أن تتسع المسافة بين المعسكرين (الإسلامى والليبرالى) ليقفا على طرفى نقيض يتهم فيه الإسلاميون الليبراليين بالكفر والزندقة ويرد الليبراليون عليهم باتهامات الفاشية، والانغلاق، والتطرف، ورفض الآخر.. وتندهش متى اكتشف المصريون أنهم منقسمون إلى هذين الفريقين؟.. وتندهش مرة أو مرات عندما يتم اختزال الإسلام فى فصيل أو جماعة ويتم رفضه على خلفية رفض هذا الفصيل أو هذه الجماعة، وتتسع مساحة الدهشة عندما تجد من يدخل الليبرالية فى مقارنة مستترة مع الدين وكأنها هى دين جديد يشرق على سمائنا التى كانت ملبدة بغيوم الجهل والتطرف من قبل!. والمجال هنا لا يتسع للحديث عن الجهل البيّن الذى يرتكبه كثير من أنصار المعسكرين فيسيئوا لأنفسهم قبل أن يسيئوا للآخر.. هذا الجهل الذى يتجلى فى عدم تحديد المصطلحات وفهم الرؤى وما ينتج عن هذا من ترديد لألفاظ وعبارات دون فهم ما تحمله من معانٍ، والأمثلة كثيرة بدءا من الحرية ومفهومها فى الإسلام والليبرالية، إلى نظرة كل من الدين السماوى والمنهج الوضعى لمسائل الحكم والسياسة. يكفى أن تسمع المستثقف من هؤلاء يردد عبارة: «لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة» لتعرف أنه لا يعرف وأنه يردد مثل الببغاء، فإذا ما سألته عن أى دين تتحدث وأية سياسة تقصد؟! أو ما هى أسانيدك الفقهية أو مرجعيتك فيما تقول؟! فسوف تتلقى منه هراء.. وسفسطة.. وربما تطاول العاجزين، لا أكثر. (4) مرة أخرى أكرر – بأسىً – أن تطلعات عامة المصريين وأغلبيتهم عندما خرجت إلى الشوارع يوم 25 يناير وما تلاه من أيام كانت تطلعات مشروعة ونبيلة تحفها الملائكة وتحرسها عناية الله قبل أن تنتشر الشياطين بين الجموع المتراصة، وتقنع كل مصرى أن من يقف جواره فى الصف يزاحمه حيز المكان، أو يناصبه العداء، أو يسعى لنفيه من الأرض وربما يفكر فى التخلص منه بتصفيته جسديا. .. هل ترانى أنا الآخر عندما استشهدت بهذه الثنائية الرمزية للشيطان والإنسان شخصا أصوليا يستند إلى الغيب؟! وتأسيسا عليه أكون ممن ينتمون إلى معسكر الفشيست أو جماعة الإخوان، وما يترتب على ما سبق من اتهام بالعمالة للمجلس العسكرى وما يتلو ذلك من حكم باستحقاقى للعنة.. إذا رأيتنى على هذه الصورة فأرجوك أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وتفرك عينيك مرة واثنتين حتى ترانى.