كادت التطورات الخطيرة والمتلاحقة التى جرت فى المشهد السياسى خلال الأيام الماضية والتى بدت تصعيدا فى المواجهة ولأول مرة منذ سقوط النظام السابق بين شباب الثورة وأهالى الشهداء وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. كادت أن تدخل الثورة بل مصر كلها فى نفق مظلم، وهو خطر مازال ماثلاً حتى الآن، ومن ثم فإنه يتعين إعادة النظر فى مجمل الأوضاع وفى آليات إدارة المرحلة الانتقالية. وسوف يظل هذا الخطر قائماً رغم إعلان الدكتور عصام شرف عن إجراء تغيير واسع فى حكومته وآخر فى المحافظين، ورغم حركة التطهير التى قرر وزير الداخلية منصور العيسوى إجراءها وقت كتابة هذه السطور لجهاز الشرطة، ورغم قرار مجلس القضاء الأعلى بعلانية محاكمات رئيس النظام السابق ورموزه ومعهم المتهمون بقتل الشهداء.. سوف يظل الخطر قائماً مالم يستشعر الثوار وأهالى الشهداء تسريعا فى تحقيق مطالب الثورة وتفعيل مكتسباتها. لقد أكدت عودة التظاهرات والثوار إلى ميدان التحرير بالقاهرة وميادين السويس والإسكندرية وغيرها من المدن أن الأداء السياسى خلال ما مضى من المرحلة الانتقالية وبعد أكثر من خمسة أشهر من سقوط النظام السابق لم يكن على مستوى الثورة التى أسقطت ذلك النظام، إذ لم تتحقق مطالب الثورة بالقدر الذى يرضى طموحات الشعب ولا بالسرعة المتوقعة سواء فيما يتعلق بمحاكمة مبارك ورموز نظامه ومعهم قتلة الشهداء أو باستعادة الأمن أو بتطهير البلاد من بقايا النظام وبقايا الفساد فى كل المواقع وهو الأمر الذى أثار المخاوف على الثورة والتى بدا أنها تتعرض للإجهاض والفشل. *** ولا جدال فى أن التباطؤ الشديد فى تفعيل وتنفيذ مكتسبات ومطالب الثورة خلال خمسة أشهر - وهى مدة كانت كافية - كان من شأنه تكريس تلك الهواجس والمخاوف، وحيث بدا أن الثورة تتجه نحو المجهول وحيث غابت الرؤية الواضحة وساد الغموض الذى يكتنف هذه المرحلة الانتقالية ومن ثم المستقبل القريب فى نهايتها. وإذا كان من الممكن تفهّم أسباب ذلك التباطؤ فى تنفيذ استحقاقات الثورة فى بداية المرحلة الانتقالية، باعتبار أن السرعة التى سقط بها النظام السابق بعد ثمانية عشر يوما فقط من اندلاع الثورة قد أحدثت ارتباكا فى مواجهة الفراغ الدستورى بسقوط النظام وفى إدارة المرحلة الانتقالية فى أيامها الأولى.. .. فإنه ومع مرور الأسابيع والشهور لم يعد ممكنا تفهّم أو قبول ذلك التباطؤ خاصة فى محاكمة قتلة الشهداء ورئيس النظام السابق ورموزه، وعلى النحو الذى أثار الشكوك فى إفلاتهم من العقوبة، وهى الشكوك التى أججتها أحكام البراءة فى قضية إهدار المال العام والتربح لستة متهمين بينهم ثلاثة وزراء مثلما أججها إخلاء سبيل المتهمين بقتل الشهداء فى السويس. ثم إن استمرار الغموض الذى يكتنف وضع الرئيس المخلوع ومدى حقيقة وجوده فى محبسه بمستشفى شرم الشيخ وكذلك عدم ظهور الوزراء ورموز النظام فى قفص الاتهام أثناء جلسات المحاكمة مع عدم علنية الجلسات وتمكين أهالى الشهداء من حضورها ومتابعتها.. كل ذلك كان أيضاً من أسباب إثارة المخاوف ومن ثم إثارة الغضب وتصعيد المواجهة وتجديد مطالب الثورة. وفى نفس الوقت فإن ما حدث من تطورات خطيرة متصاعدة بلغت درجة التهديد بقطع الملاحة فى قناة السويس، وحيث ارتفع سقف مطالب الثوار والمطالبة بإقالة حكومة عصام شرف مع تصعيد المواجهة مع المجلس العسكرى.. إنما يعنى فى حقيقة الأمر أن هناك التباسا كبيرا من بين أسبابه - إضافة إلى التباطؤ - غيبة الحوار الحقيقى بين صانعى الثورة والمجلس الذى يدير شئون البلاد، وحيث غابت أيضاً الحدود الواضحة بين اختصاصات وسلطات كل من المجلس العسكرى والحكومة، وحيث لم يعد واضحاً بدقة من الذى يحكم ومن الذى يدير، وحيث استشعر شباب الثورة أن الحكومة لا تحكم ولا تدير، وهو التباس كبير من المفترض أن يكون المجلس العسكرى قد أزاله بالبيان الذى ألقاه اللواء محسن الفنجرى وبالمؤتمر الصحفى الذى عقده اللواءان حجازى وشاهين. *** وإذا كان البعض قد أخذ على المجلس العسكرى تلك اللهجة الحادة التى عكست فى نفس الوقت تهديداً ضمنياً وتلويحاً باستخدام خيار القوة فى مواجهة تصعيد التظاهرات وبما يهدد أمن الوطن واستقراره وهو ما يمثل تجاوزا للخطوط الحمراء، ومع بعض التحفظ على استخدام تلك اللهجة والتى كان أفضل منها سياسيا.. طمأنة الثوار بالإسراع فى تلبية مطالب الثورة المشروعة، فإنه من المؤكد أن دواعى المسئولية والأمانة الوطنية التى تتحملها القوات المسلحة فى هذه الفترة الحرجة من المرحلة الانتقالية هى السبب فى حدة تلك اللهجة.. استشعارا للخطر الذى يهدد أمن الوطن. إنه لا خلاف بين جموع المصريين بل إنه الإجماع على الاعتزاز بدور جيش مصر الوطنى فى حماية الثورة وضمان نجاحها وانحيازه إلى الشعب منذ اليوم الأول حيث كان حسنى مبارك ما يزال فى السلطة، ولكن الخلاف الذى يتعين تقبّله دون أدنى حساسية ودون أى مساس بالقوات المسلحة فإنما هو حول الأداء السياسى للمجلس العسكرى فى إدارة المرحلة الانتقالية وفى تفعيل مكتسبات الثورة وتحقيق مطالبها المشروعة التى تعهد بتلبيتها. غير أنه يبقى ضروريا الإشارة مجدداً إلى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد تسلم سلطة لم يكن مستعداً لها ولم يكن بحكم عقيدته العسكرية مهيأ لممارستها أو ممارسة أى دور أو مهام سياسية بقدر حرصه الأكيد على عدم الاستمرار بل تعجّله فى نقل السلطة بأسرع وقت ممكن، وهو الأمر الذى يفسر مابدا أنه تباطؤ فى تحقيق مطالب الثورة. ولعل هذا التباطؤ هو الذى استشعر معه شباب الثورة والكثير من المصريين أن ما جرى ويجرى فى هذه المرحلة الانتقالية ليس أكثر من إصلاحات للنظام السابق لا ترقى إلى مطالب ومكتسبات ثورة حقيقية أذهلت العالم، وهو أيضاً ما تسبب فى تجدد التظاهرات ورفع سقف مطالب الثورة خوفا من إجهاضها وفشلها. *** ولذا فإن ما جرى من تصعيد فى الأسبوع الماضى وما ترتب عليه من ردود فعل سريعة سواء من جانب المجلس العسكرى أو الدكتور عصام شرف رئيس الحكومة وكذلك من جانب مجلس القضاء الأعلى ووزير الداخلية.. إنما يعنى أن رُبّ ضارة نافعة وأن ثمة موجة ثانية لثورة 25 يناير تؤكد استمرارها والتعجيل بتحقيق مطالبها ضمانا لاكتمال نجاحها. *** ومع هذه الموجة الثانية للثورة فإنه يبقى ضروريا التوافق الوطنى والسياسى العام بين الثوار والمجلس العسكرى على خريطة طريق لما تبقى من المرحلة الانتقالية تتضمن جدولا زمنيا محددا وواضحا لتفعيل مكتسبات الثورة وتحقيق كامل مطالبها، وهو الأمر الذى يمثل أكبر ضمانة لنجاح الثورة وللخروج الآمن من المرحلة الانتقالية إلى دولة القانون والعدالة الاجتماعية.