عندما يلمس لسان الفرشاة سطح قماش اللوحة يبتهج قلبى وعندما نضيف إلى الخط اللون تزغرد البالته، ابتعد عن اللوحة الجديدة متراً أو مترين وأعود حتى انتهى وفى اليوم الثانى أصبح المتلقى الوحيد واندهش كأننى نسيت واتساءل من الذى رسمها ولونها، فأصبح أنا مبدعها المتفرج الأول وأصيح من أعماقى .. برافو.. لقد فعلتها.. هذه هى مغامرتى من الصباح حتى المساء فى مرسم ايفرى بباريس.. أبدأ اللوحة بعد قهوة الصباح وتنتهى مع زقزقة العصافير العائدة إلى اشجارها وسط الغابة حولى. بهذه الكلمات خصنا الفنان جورج البهجورى واصفا احساسه حاكياً لنا تفاصيل يومه. *وجدنا فى اللوحات المعروضة اكثر من لوحة للفنانة أم كلثوم فماذا تمثل بالنسبة لك؟. **أم كلثوم تعبر عن العصر الجميل الذى فقدناه، وأنا أقوم برسمها كى أقول إنها تمثل مصر الحقيقية وأنه لن يأتى مثل أم كلثوم فعندما اسمعها اشعر أن هذا هو صوت مصر فأراها تمثل بالنسبة لى مصر الجميلة. *لكن الملاحظ أن هناك اكثر من لوحة لها وجميعها مختلفة؟. **بالطبع هناك تنوع فهذه اللوحات تحمل تعبيرات مختلفة لأن أم كلثوم بطبيعتها فنانة متنوعة ومختلفة، فغنت للعيد وقالت «يا ليلة العيد» وغنت للثورة وغنت للحب وغنت لنهضة مصر، فى أعقاب نكسة 1967، فهى تمثل كل مراحل مصر، وكان صوتها وأداؤها يتغير من أغنية لأخرى فلذلك عندما أرسم تظهر لوحة مختلفة عن الأخرى. *كيف اكتشف جورج البهجورى نفسه كفنان تشكيلى مختلف.. ولمن تدين بالفضل فيما وصلت إليه؟. **بالنسبة لى فأنا بدأت منذ الصغر ونجحت فى كلية الفنون الجميلة وبعدها كان الفضل لصديق اعتز به هو الفنان أبوالعينين الذى أتاح لى فرصة لنشر رسوماتى فى جريدة روزاليوسف بصورة واسعة، ومن خلاله أحببت الرسم الصحفى ولذلك فأنا اعتبره صديقى واستاذى معاً كما كان يتابعنى فى الكلية أستاذى بيكار الذى زرع فى وجدانى الاعجاب بذاتى والاهتمام بموهبتى. *ما هى اللوحات التى تعتز بها؟. **قمت برسم أولاد الحارة والريف المصرى وجعلتهم مشروع التخرج فى الكلية فى السنة النهائية حيث رسمت مجموعة أطفال مولودين فى الحارة مهاجماً فيها فى نفس الوقت فكرة تعدد النسل وأن مصر يجب أن تأخذ فى اعتبارها هذه الزيادة المضطردة فى عدد السكان، وأكدت على ضرورة تحديد النسل من أكثر من 50 عاماً لأنها تؤدى إلى الفقر وانتشار الجهل. *هل الفن موهبة أم دراسة؟. **الاثنان معاً.. لكنه يشترط وجود الموهبة، أما إذا لم تتوافر الموهبة فلا داعى أن تتجه إلى هذا المجال أما إذا توافرت الموهبة فى ذلك الوقت يمكن أن تصقلها بالدراسة وتعرف الأصول والمبادئ وتعمل على علم. *الوقت الذى تستغرقه للانتهاء من اللوحة .. وهل يختلف من لوحة إلى أخرى؟. **فى رأيى لا يوجد وقت محدد لأى لوحة.. فهناك لوحة تستغرق خمس دقائق وأخرى تستغرق شهراً أو أكثر والسبب مجهول فالفنان شأنه شأن الشاعر أو المؤلف وأنا أذكر صديقى أوزنيس وهو شاعر فرنسى كان يقول لى «مش ماشيا معايا» فقد يكتب بيتا ولم يستطع تكملة القصيدة وفجأة وفى لحظة تجلى قد ينتهى كل شئ والوحى ينزل كما يقولون. *احكى لنا يومياتك مع إحدى اللوحات الفنية؟. **اعتمدت على أن أبدأ يومى مبكراً مع الساعة التاسعة أو العاشرة صباحاً، فالمرسم الخاص بى أسفل المكان الذى أعيش فيه -فى فرنسا- فبمجرد نزولى لعدد قليل من درجات السلم أجد نفسى فى المرسم الخاص بى أمامى كل الأدوات التى احتاج إليها وقت الرسم وتكون اللوحة مفرودة أمامى وهى عبارة عن لوحة بيضاء (رول أو 10 أمتار) ويجب أن تكون بزاوية والفكرة فى رأسى مرسومة وأعرف وضع كل جزء من اللوحة فى رأسى فأبدأ فى عمل كولاج حيث أحرص على تجهيز ثلاثة أشياء ضرورية هى الخط واللون والكولاج، وفى بعض الأحيان تحتاج اللوحة إلى بعض الأشياء يجب أن تكون جاهزة أيضا. *وما حجم تأثرك ببيكار؟. **كان يتميز بأن لديه مذهب تلخيص اللوحة، فقد يرسم الوجه دائرى أو بيضاوى وهو فى الأصل ليس كذلك وهذه تسمى عندنا «التحوير» فمثلاً كان يبالغ فى طول او حجم الشخص أو الشئ الموجود أمامه ولا يتقيد بشئ. تجسيد الطبيعة *لماذا المرأة عارية فى لوحات الفنان البهجورى؟. **لأن أجمل شئ هو الطبيعة رسم الوردة والشجرة والتفاحة والانسان رجلاً أو امرأة فهذه مسألة ليس لها أية علاقة بالدين لأن أجمل شئ يثبت موهبة الفنان شيئين الأول هو قدرته على رسم الحصان ورسم جسم المرأة. فأنا أذكر عندما كنا طلبة فى الكلية كانوا يعلموننا بأنك إذا استطعت رسم المرأة العارية جيداً تكون فناناً جيداً، وقد نقول أيضا رسم الرجل لكن المرأة تكون أكثر جمالاً فى الدوائر والأقواس واتزان الكتلة أما الرجل فتجد فيه زاويا حادة بعض الشئ لأن من صفاته الخشونة أما الأنثى فتكون العكس. *ما هى الموضوعات التى تفضل أن ترسمها؟. **الازدحام.. مثل لوحة مائدة الرحمن والموالد والمقاهى والاحياء الشعبية حيث أجد نفسى وسط هؤلاء. *وماذا عن الأماكن التى تفضل الرسم فيها؟. **بإجابة مختصرة جداً.. الرصيف والقهوة وبالتأكيد فى فرنسا يكون الموضوع شيئاً عادياً وأجمل لأن كل الحسان يمرون عليك. لوحة الموناليزا *اعدت رسم لوحة الموناليزا من وجهة نظرك الفنية.. فى الشئ الذى تراه غير موجودة باللوحة الأصلية؟. **أنا كنت أذهب يوم الأحد من كل أسبوع حيث توجد اللوحة فوجدتها فى غاية البساطة.. فاعترضت على شئ ما وهو أننى وجدت فيها حالة سكون أكثر من اللازم، لكننى تخيلتها تعيش حياة طبيعية مثل تحديدها كى تسقى نفسها.. وكنت أكون فى حالة ضيق شديد من الأستاذ عندما يرغمنا على أن تكون الموديلز ثابتة لا تتحرك وأنا لا أحب أن أكون تلميذا القواعد فكنت أرسم بخط كله حركة وأجعل يداً تخرج من الأخرى وعندما ألون أضع الأخضر والأصفر فى وجهها فيسألنى الاستاذ لماذا فعلت ذلك؟.. هل ترى هذه الألوان فى وجهها؟. فانا طورت الجيوكندا بمفهومى حيث تجدنى رسمت لها ثلاث عيون وأربع أيد فأنا لا أريد أن أتقيد بالفنان التقليدى. *لو عبرت عن الأحداث الأخيرة بريشتك.. فماذا ترسم؟. **تبسم قائلاً: عندما أقرر أن أعبر عن الأحداث الإسكندرية الأخيرة أعطى لك الاحساس بالبلد فقط ليس من الناحية السياسية بل أحرص على أن ألمس بالرسم حياة مصر فعندما تجد الساقية تدور وطفل صغير يطل برأسه من شرفة منزله وتسمع أم كلثوم تغنى وقتها تحس بمصر. مع مراعاة وجود فارق كبير بين اللوحة الفنية فى معرضى وبين رسمة كاريكاتيراً فى جريدة تحمل توجهات معينة ويظهر فيها رأى الرسام واضحا، أما اللوحة فهى خالية من كل هذا لأنها تهذب الروح وتنقيها.