هناك من البشر نوعان، أولهما: يستطيع تقديم نفسه بشكل يتجاوز مكانته الحقيقية، ولكنه يصبح نجماً أشبه بالطبل الأجوف الذى يحدث أصواتاً هى أشبه بالضجيج المفتعل الذى يخلو من أى إيقاع منتظم يجعلنا نطرب لهذه الأصوات، وثانيهما: من يفضل أن يعيش خلف أستار كبريائه وتعففه وهو بذلك يخسر كثيراً، حيث يظل مجهولاً بينما غيره من أنصاف المواهب يرفلون فى نعيم الشهرة والنجومية، ومن هذا النوع الأخير يأتى الإذاعى الرائد والفنان القدير وقبلهما الشاعر الكبير أحمد خميس.. وهنا لا بد أن أكون صريحاً معك - عزيزى القارئ - فى أن عنوان هذا المقال قد يبدو لك صادما، وذلك لسبب بسيط وواضح وهو أنك ربما لا تعرف أحمد خميس شاعراً أو غير شاعر، وذلك ليس تقصيراً منك أو قصوراً لديك - لا سمح الله - ولكن لأن صاحب هذا الاسم رجل ذو حياء وتعفف، رغم أن الله قد حباه مواهب عديدة وملكات متفردة، وقد استغلها أفضل استغلال واستخدمها كما ينبغى لها أن تستخدم وحقق من خلالها نماذج إبداعية راقية المستوى جعلت كل من يعرفه - على قلتهم - أن يضعوه فى مكانه الصحيح لطليعة المبدعين المصريين فى أكثر من ميدان إبداعى رغم تباين كل منهما عن الآخر واختلاف أدواته الفنية، وذلك طوال عمره الطويل نسبياً «ثلاثة وثمانين عاماً» والذى بدأ بمولده فى الثالث عشر من يناير 1925 وحتى وفاته المفاجئة فى الثانى عشر من أكتوبر 2008 دون مرض يمهد لافتقاده لدى محبيه وعشاق فنه مذيعاً وممثلاً وشاعراً. وقد التحق أحمد خميس فى أوائل الخمسينيات من القرن الماضى بدار الإذاعة البريطانية مع رفيقى دربه الفنان الكبير محمود مرسى والعالم المبدع الراحل د. يوسف عز الدين عيسى ليحملوا على عاتقهم تأسيس القسم العربى بهذه الإذاعة العريقة وقد تنوعت مجالاتهم فى الفن الإذاعى، حيث كان أحمد خميس مذيعاً مفوها ومحمود مرسى مخرجاً ويوسف عز الدين عيسى مؤلفاً درامياً.. وبعد سنوات قليلة جاء العدوان الثلاثى على مصر (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) فى التاسع والعشرين من أكتوبر 1956 ليتخذ ثلاثتهم قرارا فوريا بالعودة إلى مصر ويصحبهم عزمهم الأكيد للالتحاق بالإذاعة المصرية حتى تتاح لهم الفرصة لخدمة بلدهم الغالى فى هذه الظروف التاريخية والعصيبة - آنذاك - مسخرين إبداعاتهم لخدمة قضايا وطنهم وشحذ همة المصريين لدحر هذا العدوان الغاشم على مصر، وهنا تفجرت المواهب الشعرية لدى أحمد خميس ليصدر ديوانه الأول «رباعيات أحمد خميس» والذى تغنى بأشعاره كبار مطربينا ومنها قصيدة «البعث الجديد» وغناها فريد الأطرش تمجيداً لثورة يوليو فى عيدها السادس، وكذلك رائعة محمد عبد الوهاب الخالدة «الروابى الخضر» والتى اشتهرت بين عامة المستمعين باسم «ليالى الشرق» والتى يقول أحمد خميس فى مطلعها: ياليالى الشرق هل عادتك أشواق الغناء فالروابى الخضر تشدو والسنا حلو الرواء درة الشرق رعاك الله مادام وجود ورعا شعبا عريق المجد موفور الإباء فانهلى يا مصر من إشراقة العهد الرغيد واسلمى يا مصر تفديكى قلوب الأوفياء وذاعت شهرة هذه القصيدة العصماء ليتخذ منها الإذاعيان وجدى الحكيم وكامل البيطار فى صوت العرب اسما لبرنامجهما ولحنا مميزا له والذى مازالت حلقاته مستمرة حتى اليوم. وبعد سنوات قضاها أحمد خميس مذيعا بالإذاعة المصرية ليتركها متفرغا لفن أحبه وأخلص له وهو التمثيل والذى حقق فيه نجاحا كبيرا خاصة فى دور الأب ذى المركز الأدبى المرموق وصاحب الخلق القويم لما تحمله ملامح وجهه من وقار وهيبة ومن أدواره مشاركته فى بطولة أفلام «الأيدى الناعمة» و«فجر الإسلام» و«النمر الأسود» وغيرهم كثير تضيق به المساحة، ولكنه رغم ذلك لم يحقق ما يستحقه من شهرة ونجومية هو الأجدر بهما والمستحق لهما عن كفاءة فذة وموهبة قديرة، والسر الوحيد وراء ذلك هو أنه فنان كان يحترم نفسه ويأبى أن يستجدى خبراً فى صحيفة أو لقاء على قناة تليفزيونية. ونحن إذ نحتفل بذكرى رحيله الثانية بعد يومين فقط، فهل لنا أن نناشد نقابة المهن التمثيلية ونقيبها الدكتور أشرف زكى لتكريم هذا المبدع المحترم فى عيد الفن القادم بعد أن أعاده الرئيس حسنى مبارك فى لقائه الأخير برموز الإبداع المصرى.. نأمل ذلك.