لا يستطيع أحد أن ينكر وجود حالة من الجمود في الخطاب الديني المعاصر ، بالرغم من هذا المد والصعود الديني الكبير لبعض التيارات والفصائل السياسية ذات التوجه الديني التي عانت طوال عقود مضت مغبة الاستبعاد الاجتماعي والحظر والمنع والرفض المجتمعي ، ورغم هذا أيضاً إلا أن الخطاب الديني المعاصر لم يكن على مستوى الحدث الذي يسمح بالتجديد والتطوير الذي واكب الأحداث في المشهدين السياسي والاجتماعي . لكن الراصد والمستقرئ لهذا الخطاب يجده لم يخرج كعادته عن نقل دون يقين ، وأنه لا يزال أسيراً لجمود اللغة وأساليبها الخطابية التي تستهدف الأذن قبل العقل ، والعين قبل الفكر ، رغم أن الدين الإسلامي نفسه أعلى شأن العقل واعتبره ينبوع اليقين في الإيمان بالله وعلمه وقدرته ، لكن وجدنا بعد الثورة أن الخطاب الديني الذي لم يعد حكراً على المؤسسة الدينية الرسمية بل صار ملكاً مشاعاً لكل من أراد ، وجدناه عثرة في طريق مدنية مصر ، ووجدناه خطاباً لغوياً ينفي أية صلة به وبين الواقع الراهن اللهم سوى استخدام بعض الأحزاب السياسية الدعوة الدينية كوسيلة استقواء ، وظهور ما يسمى بفقه الحالة من جديد لتبرير بعض السلوكيات السياسية لفصائل معينة. والخطاب الديني سرعان ما تحول بعد الثورة إلى إعلان سياسي يخدم مجموعة من المصالح التي باتت مؤجلة لعقود بعيدة ، وبدلاً من أن يهتم الخطاب الديني بقضايا تمس عقيدة المواطن وعلاقته بربه وذويه وعشيرته والمطالبة بإصلاح النفس اتجه دنما قصد إلى تحشيد العقول لتأييد فكرة سياسية أو برنامج أو طرح فكري يخدم طائفة ويجور على طوائف أخرى . وهناك قاعدة مفادها أن المجتمعات حينما يزداد ولعها بالدين الذي سرعان ما يتحول إلى سهام تكفير وتفسيق هي مجتمعات بدأ الضعف والتوهين يدب فيها ، وكثرت الفتن بأراضيها ، وظهر ما يسمى بمرض الجهل بالدين . وخطورة الأمر حينما تخلت المؤسسات الدينية المنوطة بنقل مفاهيم الدين ومعالمه للعامة أو للطلاب بالجامعات والمدارس ، فكانت الفرصة سانحة لبعض الأقلام والأصوات والفضائيات أيضاً لممارسة هذا الدور بغير جدال أو مناقشة أو حوار يستهدف التمييز والتأويل ، وأول ما نجح فيه خطاب مثل هذا هو تجديد العهد بالعداوة القديمة بين الدنيا والآخرة ، وبين العقل والعلم ، وكان نتيجة ذلك أن الذهاب إلى صناديق الانتخاب هو جهاد في سبيل الله وليس استشرافاً لمستقبل ينعم في أبناؤنا ، وكان أيضاً تحشيد الجموع لإحداث ضجة للحصول على ما تريد فئة بعينها من مكاسب هو أمر إلهي مفاده إعلاء الدين وأهله . وغفل هذا الخطاب عن تهيئة أنصاره الذين فروا هاربين من القراءة ونهل المعرفة من مصادرها ، كما غفل عن ذكر محاسن العقيدة دون النيل من عقائد الآخرين ، وهذا الشئ هو الذي فتح النار على أبواق هذا الخطاب الذي كان من شأنه أن يحدد بوصلته ويميز رؤيته بوضوح ، إلا أنه لم يشأ أن يذهب بسلام وسهولة إلى أذن وعقل مريدينه ، فشكل الخطاب بذلك لغطاً والتباساً يحتاج إلى توضيح وتفسير. نفس الأمر الذي وصل بالخطاب الديني إلى مرحلة تعاني من الجمود ، وصل التعليم الديني في مصر بعد عامها الثوري إلى مراحل أكثر دهشة وأدعى لليأس وعدم التفاؤل ، بل قد يغضب المؤهلون للغضب حينما نقول بإن مستوى التعليم الديني في مصر وصل إلى حد التفاهة ، بدليل جمود الاجتهاد الديني الذي كان سمة مميزة لمصر وأهلها وفقهائها ، بل يمكن أن نغالي القول بإن أنصار هذا الجمود قد تعاظم دورهم بعد استقرار الثورة دونما نجاح ودونما فشل . وللحق يمكننا أن نلتمس العذر لهذا الخطاب الديني الذي صار يعاني جموداً عظيماً ، نظراً لانشغال البلاد والعباد أيضاً بأحداث المشهد السياسي ، حيث إن الوطن وأهله ما إن يستفيقوا من حدث جلل يعصف بأرجائه حتى يصطدم بحدث آخر ، وما إن يدخل في مرحلة سياسية ديموقراطية جديدة حتى يلج في أخرى دون يتم الأولى بنجاح . وإذا حاولنا التصدي لمواجهة هذا القصور في الخطاب الديني بوجه عام والتعليم الديني في مصر بوجه خاص ، يتبين لنا إغفال دور العقل وانتفاء قدره والاكتفاء بالنقل دون مكاشفة أو تحقيق أو تحري الدقةً في المنقول وصاحبه ، رغم أن النظر العقلي هو أول أساس وضع عليه الإسلام ، حيث إن النظر السليم وسيلة الإيمان الصحيح . ولكن إذا ما نظرنا إلى الخطاب الديني الراهن والتعليم الموصوف بالديني أيضاً نجده بعيداً عن التنوير وإعلاء قيم العقل في التناول للنصوص الدينية ، وربما كان هذا سببه هو جعل فئة قليلة تسيدت مشهد الخطاب الديني رؤية مواضعة التنوير هذه على أنها أساس لضياع وتقويض المجتمع وإحلال قيم غير إسلامية في مجتمع إسلامي متدين . ومن ثم وجدنا المتزعمون للخطاب الديني يهتمون بالإشارة إلى الكتب الأدبية القديمة حينما يحاولون الجلوس مع التنويريين في مقعد واحد ، وهم يشيرون إلى هذه الكتب التي توضح أحوال الأمم ، و تحث على الفضائل وتنفر من الرذائل وارتكابها دون غيرها . ومشكلة الخطاب الديني المعاصر أنه نأى بعيداً عن مقصده التنويري والإصلاحي للفرد والجماعة على السواء ، وذلك حينما قصر همه على تكفير البعض واتهام البعض الآخر بالتفسيق ، وإلقاء تهمة الخروج السافر عن تعاليم الشريعة ، وهو في ذلك يكون قد ارتكب ذنباً قد لا يغتفر لأنه حمل غيره تكفيره بغير دليل قطعي ، بالإضافة إلى أنه تنصل من مهمته الحتمية وهي تنوير العقول والألباب .