ثمة اختلاف فى جهة السير بين فريقى المدنى والدينى كهوية لهذا الوطن الذى بدا متكشفاً أكثر من عادته بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير ،تحديداً منذ الجلسة الإجرائية التى تمت ببرلمان الوطن فى جلسته التاريخية، وهذا الاختلاف يتجسد من خلال محورين أساسيين ؛ محور المصطلح ، ومحور الاستخدام والتطبيق ، فلكل فريق من أنصار المدنى والدينى خارطة طريق تحدد وجهته وخطابه ، و نكاد نجزم بأنهما يريدان الخير لمصر وإن تباينت الرؤى والطروحات المقدمة . ولقد غفل عن الفريقين مقولة إمامنا المرادى أحد أقطاب التصوف الرشيد البعيد عن مظاهر الدروشة والدجل والمظاهر البدعية التى خالطت الإسلام القويم ، حينما يقول : " اجعل أكثر أحوالك فى اليقظة صمتاً ، وأكثر صمتك فى الأمور عبرة ، فإن فى كثرة صمتك راحة لقلبك " ، ومفاد هذه المقولة البليغة أن كلا الفريقين لا يريد أن يستشرف المشهد السياسى بمنأى عن الفصيل الآخر المرابط بالشاطئ الآخر . لذا فترى كل فصيل ( الدينى / المدنى) يرى فى الفصيل الآخر لغطاً وريبة ،وأصبح كل فريق منهما يدشن للتيار المغاير له أيديولوجياً وتنظيرياً حملات تكاد تكون مسعورة رغم أنهما يستظلان بمرجعية واحدة مطلقة ألا وهى المرجعية الدينية الإسلامية .إلا أن الفصيل الدينى يؤكد على مرجعية الحاكمية الإسلامية لكل شئون الحياة ومختلف مناحيها ، بينما يظن الفصيل المدنى على أن المرجعية الدينية منوطة فقط بضبط القواعد الاجتماعية والأعراف المجتمعية دون إقحامها بصورة مباشرة فى الشأن السياسى. ووسط حالة الهلع من أقطاب التيار المدنى أو إن شئنا الفصيل الليبرالى من التصاعد المفاجئ للتيارات الدينية التى سرعان ما عبرت عن توجهها السياسى، نجد الفصيل الدينى يكيل عظيم الاتهامات لليبرالية والمدنية ويجعلها قاصرة على الحرية المطلقة للفرد ويوجه لصدرها سهماً مباغتاً لأنها تقف حجر عثرة أمام حركة الإصلاح الدينى التى تشهدها البلاد منذ ثورة يناير المجيدة . الأمر الذى خلق حالة من الجدال المستدام فى أن كل تيار مناوئ للآخر بدلاً من أن يبين مناقب نظرته الاستشرافية لهذا الوطن الذى يستحق كل جهد ، راح يخيف الطرف الآخر ، ليس هذا فقط بل قدم صورة لدولته الافتراضية لأن الدستور لم يعد حتى لحظتنا الراهنة على أنها إما تشدد مطلق وحاكمية مستبدة ورجعية ترفض التنوير، أو تحرر دائم دونما قيود أو سلطان بشرى ينتهى بنا إلى التعهر والفجور. وكلا الفريقين يلعب على البعد الاقتصادى ودوره فى النهوض بهذا الوطن دون أن نستبين النظام الاقتصادى فى ظل أى من الدولتين الافتراضيتين. وهذه هى نقطة المفارقة بين الطرفين ، فأنصار الدولة الدينية لا يسعون لتقديم أنفسهم على أنهم مدنيون بالفطرة ، إلا أنهم يستندون إلى مرجعية دينية ثابتة قوامها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التى لا عوج فيها ولا عوض عنها لأنهما باختصار شديدين دستور يجمع بين الأصالة والمعاصرة ويقيم علاقة متوازنة بين الزمانى والتاريخى ، ولا يستطيع أن ينكر جاحد القدرة الخلاقة للقرآن الكريم وللسنة النبوية فى إدارة شئون البلاد والعباد ، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن فى من يطبقها وكيف يطبقها دون إخلال بالنهج الإسلامى القويم. وأنصار الدولة المدنية هم أيضاً لا يقيمون وزناً لقاعدة مهمة مفادها أن المدنية لا تعنى الخروج بالحرية من باب الالتزام تجاه الآخر إلى طريق لا سلطان عليه ، بل إن المدنية فكرة قديمة جداً أسسها وكرس لها نبينا المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ، والمستقرئ لدولة الرسول الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) فى المدينة يدرك المقاربة الرشيقة بين حياة المرء الشخصية وبين القواعد الثابتة الراسخة والتى تجعله يمارس حياته وحرياته بصورة تتواءم مع مجتمعه دون خلل أو عصيان أو خروج عن مقتضيات الحياة الاجتماعية . لكن معظم أنصار الدولة المدنية يتغافلون قصداً أن الليبرالية التى تغلف الدولة المدنية تبلورت فى ظل ارتباط وثيق بتطور النظام الرأسمالى لتبرير حقوق الطبقة البرجوازية الصاعدة إزاء النظام القديم ، واعتمدت فى ذلك على عدد من النظريات مثل الحريات الطبيعية ومبدأ المنفعة والعقد الاجتماعى أى أن الحقوق الليبرالية أو المدنية الحديثة ارتبطت فى بدايتها بالطبقات العليا فى مجتمعاتها الأوروبية الغربية . ورغم أن فكرة المقاربة بين الدينى والمدنى لاتزال حائرة بين قطبى الجدال السياسى هذه الأيام ، إلا أن لها مهاداً تاريخياً ضارباً فى القدم، ورغم ذلك لا يزال يسعى معظم المنظرين العرب لاقتناص لحظة مقاربة بين الدينى والسياسى، والحق أن هذه اللحظة قد تحققت منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة تقريباً، حينما مكث النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) فى المدينةالمنورة، واستطاع أن يؤسس دولة فى صورتها الأولية، هذه الدولة البسيطة فى أنظمتها ومؤسساتها هى التى سمحت ولأول مرة فى تاريخنا العربى للتعايش بين الدينى والسياسى. ولكن المشكلة الحقيقية فى الخلاف بين مصطلحى الدينى والمدنى هى طريقة التطبيق ، والفهم الصحيح للدين الإسلامى الرشيد الذى لا يعرف الإفراط أو التفريط ، ولا يعرف عبر عصوره الرشيدة صيحات الغلو والتكفير ، بل إننى لا أغالى أو أبالغ حينما أقرر أن الإسلام هو أول دين سماوى يؤكد على فكرة التنوير والأخذ بعوامل النهضة الحقيقة وهى نفس الأفكار والآراء التى يرددها المدنيون متغافلين هذا النسق الإسلامى الذى يبحث عن عقل واعٍ وذهنٍ صافٍ لتطبيقه ، والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل . الدكتور بليغ حمدى إسماعيل