يقول الإمام المرادي " اجعل أكثر أحوالك في اليقظة صمتاً ، وأكثر صمتك في الأمور عبرة ، فإن في كثرة صمتك راحة لقلبك " ، هذه العبارة البليغة عادة ما تستوقفني وأنا أراقب حالة الهوس المحموم بين جدلية الدولتين الدينية والمدنية ، فكلا أنصار الدولتين يرى في الآخر لغطاً وريبة ،وأصبح كل فريق منهما يدشن للتيار الآخر حملات تكاد تكون مسعورة رغم أنهما يستظلان بمرجعية واحدة مطلقة . الأمر المخيف في حالة الجدال المستدامة أن كل تيار مناوئ للآخر بدلاً من أن يبين مناقب دولته الاستشرافية راح يخيف الطرف الآخر ، ليس هذا فقط بل قدم صورة لدولته على أنها إما تشدد مطلق وحاكمية مستبدة ورجعية ترفض التنوير، أو تحرر دائم دونما قيود أو سلطان بشري . وهذه هي نقطة المفارقة بين الطرفين ، فأنصار الدولة الدينية لا يسعون لتقديم أنفسهم على أنهم مدنيون بالفطرة إلا أنهم يستندون إلى مرجعية دينية ثابتة قوامها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي لا عوج فيها ولا عوض عنها لآنهما باختصار شديد دستور يجمع بين الأصالة والمعاصرة ويقيم علاقة متوازنة بين الزماني والتاريخي . وأنصار الدولة المدنية هم أيضاً لا يقيمون وزناً لقاعدة مهمة مفادها أن المدنية لا تعني الخروج بالحرية من باب الالتزام تجاه الآخر إلى طريق لا سلطان عليه ، بل إن المدنية فكرة قديمة جداً أسسها وكرس لها نبينا المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ، والمستقرئ لدولة الرسول الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) في المدينة يدرك المقاربة الرشيقة بين حياة المرء الشخصية وبين القواعد الثابتة الراسخة والتي تجعله يمارس حياته وحرياته بصورة تتواءم مع مجتمعه دون خلل أو عصيان أو خروج عن مقتضيات الحياة الاجتماعية . إن نقطة الخلاف الرئيسة بين أنصار كل اتجاه يرى في الآخر أنه يريد القضاء عليه أو محوه بصورة استلابية ، وثمة مشكلة في أن المعارضين لفكرة وجود الدولة الدينية مصر أنهم يقصرون الاسم على فترة ذات إشكالية في التاريخ الإنساني وهي فترة الخلافتين الأموية والعباسية ؛ حيث إن رجال وحاشية الخليفة الذي أصبح ملكاً بعد تولي معاوية بن أبي سفيان الحكم سخروا الدين الإسلامي لخدمة أغراضهم الدنيوية ، وكم رصدت صحائف التاريخ قصصاً توضح كيف لعب الدين دوراً كبيراً في خدمة تسييس الرعية وتمكين هؤلاء الخلفاء من حكم البلاد والأمصار . وعلى الجانب الآخر يرى أنصار الدولة الدينية أن فكرة المدنية فكرة مستوردة لا وجود لها في الإرث السياسي الإسلامي ، وأن هذه الفكرة ظهرت نتيجة تواجد حركات مناهضة للمؤسسة الكنسية قوامها الخروج على تقاليد وتعاليم الكنيسة الأوروبية آنذاك ، ومن ثم فالفكرة ذاتها مرفوضة من حيث خروج الرعية على مؤسسة دينية ، وكذلك رفضهم المطلق لفكرة حرية التعبير للإنسان والتي لا يمكن أن توضع لها حدود مشروطة من شأنها أن تقوض المجتمع بقيمه الدينية ومعتقداته الأخلاقية . ولكن التجربة الإسلامية في عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تؤكد على وجود كيان مدني حقيقي للمجتمع الإسلامي تحت مرجعية دينية إسلامية حفظت لهذا المجتمع قوامه وحافظت على أسسه ، واستمر الخلفاء الراشدون في الحفاظ على هذا النهج القويم والذي ارتقى بالمجتمع الإسلامي . ورغم أن فكرة المقاربة بين الديني والمدني لاتزال حائرة بين قطبي الجدال السياسي هذه الأيام ، إلا أن لها مهاداً تاريخياً ضارباً فى القدم، ورغم ذلك لا يزال يسعى معظم المنظرين العرب لاقتناص لحظة مقاربة بين الدينى والسياسى، والحق أن هذه اللحظة قد تحققت منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة تقريباً، حينما مكث النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) فى المدينةالمنورة، واستطاع أن يؤسس دولة فى صورتها الأولية، هذه الدولة البسيطة فى أنظمتها ومؤسساتها هى التى سمحت ولأول مرة فى تاريخنا العربى للتعايش بين الدينى والسياسى. وبينما يصطدم المعاصرون بفكرة عدم التعايش بين الدينى والسياسى هذه الأيام لكثرة المصطلحات المتنافرة بين الاتجاهين، نرى أن التأسيس الأول للدولة فى الإسلام على يد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) كان منوطاً بالنجاح؛ فالبيئة العربية حينئذ كانت مهيأة تماماً لقبول كيان سياسى ذى طبيعة مغايرة غير تلك التى ألفوها وقت عبادة الأصنام، حيث القوانين عرفية تتغير وتتبدل وسط قلق مستمر من اللصوص وقطاع الطرق، وارتباط السيادة السياسية بالنفوذ الاقتصادى والتجارى مع عدم إغفال المكانة الدينية. وبالرغم من أن دولة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تختلف جملةً وتفصيلاً عن واقعنا الزماني الراهن لما تمتعت به هذه الدولة من وجود نبي الأمة فيها وتواجد الصحابة الأبرار ، إلا أننا لا بد من التأكيد المطلق على هوية هذا الوطن ، وهي هوية إسلامية تحكمها مرجعية دينية تسمح للأنسان أن يمارس حريته كاملة دون المساس بها ، بشروط عدم المغايرة على حقوق الآخرين أو الانتقاص من عقائدهم ومعتقداتهم الدينية و أيديولوجياتهم الثقافية والفكرية . ولكن المشكلة الحقيقية في الخلاف بين مصطلحي الديني والمدني هي القضايا الخلافية الباهتة التي تثار من جانب كل فريق ، ويدعي بل يظن كل جانب أن هذه القضايا التي يتناولها هي صلب الدولة التي يتشدق بها ليل نهار ، فالذي يبحث عن جوانب ظاهرية لم يعلم أن الدين نفسه جوهري في الإنسان قد يصدقه المظهر وربما يكذبه أيضاً ، والذين يتحدثون أن التيارات الدينية لا تجيد فقهاً أو منطقاً معاصراً ، فيكفيهم أن كل محاولات التجديد والتنوير كان مفجروها هم أنفسهم أصحاب القامات الدينية في تاريخنا الحديث والمعاصر . وكان ينبغي على المنادين بضرورة استشراف دولة دينية في مصر أن يقدموا الصورة الجميلة لمعالم هذه الدولة بدلاً من البدء في سياسية الترويع والتخويف للآخر ، لاسيما وأن الإسلام برمته بحمل كل معالم وملامح الإنسانية المطلقة ... والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .