«الثقافة في المواجهة» شعار الدورة ال47 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي بدأ فعالياته أمس، وسطَ ضبابية تسود المناخ الثقافي الذي يبدو أنه يواجه نفسه ليس إلّا. الراحل جمال الغيطاني هو شخصية المعرض لهذا العام.. لكن يا ترى ما هو فاعل إن علم أن المعرض ينطلق في لحظة فارقة تضع المثقفين خلف قضبان التضييق بينما الحرية التي كانت جل اهتماماته «الحق أنني أعتبر الحرية من أهم المحاور التى تدور حولها همومي»؛ هي كلمة خجلى بين السطور والهتافات فقط. قبل يوم واحد من بدء الملتقى الفكري الأكبر في مصر قضت محكمة جنح الخليفة المنعقدة بمجمع محاكم زينهم بحبس الكاتبة فاطمة ناعوت 3 سنوات وغرامة 20 ألف جنيه لاتهامها بازدراء الدين الإسلامي، بسبب تناولها قضية الأضحية في «بوست» على «فيسبوك». ناعوت أدانت أواخر 2014 - بلغة مجازية - ذبح آلاف الكائنات سنوياً في عيد الأضحى «أهول مذبحة يرتكبها الإنسان كل عام منذ 10 قرون»، قوبلت بسيل من الاتهامات لترد قائلة «أنا مسلمة، لكنني لا أطيق إزهاق أي روح حتى ولو نملة صغيرة تسعى، وليحاسبني الله على ذلك فهو خالقي وهو بي أدرى». لم تجزم فاطمة ناعوت بأن الحكم الصادر بحقها مُسيّس لكنها لم تنفِ ذلك قطعاً، معللةً بأنه لم يحدث في تاريخ البشرية أن يحاكَم أحدٌ لبوست على «فيس بوك»، فهي ليست قصيدة ولا دراسة ولا مقالاً كي أصل لما أنا عليه الآن، مشيرة إلى أن محامين وفقهاء أكدوا بأن المطبخ السياسي له شأن في ذلك. حرية الإبداع مهدّدة في مصر، أكد ذلك الكاتب والصحافي محمد فوزي في مداخلة لأحد البرامج التلفزيونية «سجن فاطمة سيصيبني بالخوف وأنا لا أريد أن أخاف»، تقول فاطمة ناعوت إن الضغوط التي تمارس على المبدع المصري تسببت في وأدِ تلقائية الكتابة، بل وجعلت الرقيب الداخلي يعمل بركاكة نتيجة لغياب أي مساحة للحرية والاختيار»، مضيفة ل «السفير» أن إرهاب الكتاب والفنانين والمبدعين سيجعل الخوف ملازماً للقصيدة واللوحة والقصة «دولةٌ نخبتها خائفة اِعلم أنها إلى زوال». العقلية الوهابية ولعُ فاطمة ناعوت باللغة العربية منذ طفولتها وفخرها بهويتها المصرية دفعاها للمواءمة بين الاثنتين، لتضفر منهما تاريخاً مترعاً بالإنجاز قوامه 21 كتاباً ودراسات عدة حول المخاطر التي تهدد اللغة العربية الآن. ناصرت المرأة ووقفت إلى جانب الأقباط والأقليات في مصر من خلال كلمتها، الأمر الذي جعلها تتعرّض للهجوم من قبل المتعصبين، تزامناً مع ذلك اعتنت ناعوت بولديها (مازن وعمر)، من إصداراتها الشعرية (فوق كفّ امرأة) 2004، «صانع الفرح» 2012، ومن ترجماتها «جيوب مثقلة بالحجارة»، «قتل الأرانب» 2005. «لماذا نحبّ؟» 2015 آخر إصداراتها المترجمة، في حين تشير إلى أنها على وشك إصدار كتاب تحت عنوان «مافيش فايدة». الاضطهاد والسجن والتعذيب كان مآل مثقفين وعلماء ومبدعين كُثُر على مر التاريخ، منذ أيام الحلاج 858 – 922م الذي قوبلت فلسفته الصوفية بالاتهام بالزندقة وحُكم عليه بالصلب، مروراً بابن رشد في العصر الأندلسي 1126-1198 الذي اتهم بالكفر والإلحاد وتم إبعاده إلى مراكش حتى وفاته فيها، وصولاً إلى نصر حامد أبو زيد 1943-2010 الذي فُرّق بينه وبين زوجته بحجة أنه غير مسلم بعد فشل قانونية مقاضاته بالإلحاد. فاطمة ناعوت تعرّج خلال حديثها ل «السفير» على هذه الأسماء قائلة إن أكثر ما يحزنها أن ما يجري الآن هو إحباط لتسعة قرون من الجهد والتنوير ساهم فيها هؤلاء العظماء وغيرهم ممن خط هذا التاريخ التنويري ليأتي بعض الطغمة الدينية وينسفوا هذا الإنجاز، مشيرة إلى أن العقلية الوهابية تسري كالسرطان في نسيج الوطن العربي «نحن فينا – مصر- من الوهابية الآن أكثر مما هو كائن في منشئها الأصلي». ناهضت صاحبة «نصف شمس» النظام وحاربته بقلمها في عهد مبارك وشاركت في ثورة 25 يناير، واستمرت في مناهضتها لحكم «الإخوان» فكان اسمها رقم 9 على قائمة المهدَّر دمهم، رغم ذلك حافظت على شكيمتها وشاركت في ثورة 30 يونيو أملاً في نورٍ كانت ترى بصيصه قادماً من بعيد، لكن المفارقة المبهمة أن يصدر الحكم بعد ثورتين اشتعلتا كي تكون مصر على المسار الصحيح، لكن مصر أضاعت البوصلة وضلت الطريق، حسب قولها، مستعينة بقول ديكارت «الثورة التي لا تفضي لمجتمع مدني لا يعوَّل عليها»؛ لتؤكد أن السنوات الخمس الماضية تاهت ودماء الشهداء ضاعت سدى ولم تحقق الثورتان ما هو مرجوّ منهما. «حزينة لأن الحكم قد صدر في عصر راهنتُ عليه وحاربتُ بقلمي كي نصل إليه». لا تهاب السجن الحكم على فاطمة ناعوت قوبل بردة فعل غاضبة من قبل النشطاء والمثقفين الذين عبّروا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي عن جور الحكم وحالة القمع التي يعانيها المثقفون؛ حول هذا تقول ناعوت إن ذاكرة الشارع الثقافي المصري كذاكرة الذبابة، يثور يوماً أو يومين ثم يخبو صوته بفعل ما يعانيه من تشتت وضعف استغلهما «لصوص الكهوف ومهووسو الشهرة» في اصطياد المثقفين واحداً تلو الآخر. تؤكد فاطمة ناعوت أن الرئيس السيسي طلب منها وزملائها المثقفين بشكل مباشر خلال لقائه بهم العام الفائت أن يشكلو حراكاً ثقافياً بهدف تنشيط الشارع الثقافي وزيادة الوعي، لكن حكماً كهذا ليس إلا دليلاً على سحب سوداء داكنة تهدد الثقافة المصرية. الجرأة والإقدام سلاحا ناعوت فهي لا تهاب السجن، معتبرة أنها أدت رسالتها تجاه نفسها والحياة وهي حبيسة بين دفتي كتاب منذ عقود، أصدقاؤها الراحلون والشخصيات الروائية، فكيف لحكمٍ قضائي أن يسكت صوتاً حراً أو يكسر قلماً لم يعرف الخوف يوماً، بل وأدرك مُذ خطّ أول كلمة أن الحرية ضرورة وحاجة وليست ترفاً، وإنسانٌ لا يملك حريته هو عاجزٌ عن الإنجاز والإبداع.