يبدو أن أمن الطاقة سيعيد هندسة العلاقات الدولية خصوصا فيما يتعلق بالتعاطي الأوربي والأمريكي مع القارة الآسيوية. فمن جانبها، حرصت إدارة أوباما منذ اعتلائها سدة الحكم في واشنطن علي ترميم التحالف بين الولاياتالمتحدة وحلفائها الأوربيين لمواجهة التحديات العالمية، التي من أبرزها الأزمة الاقتصادية وقضايا البيئة والمناخ والإنتشار النووي والأوبئة التي تجتاح العالم، علاوة علي تنامي مخاطر حركة طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستانوباكستان. وقد كانت قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة في ستراسبورج مناسبة مهمة في هذا المسعي، فلقد بدا جليا من خطاب باراك أوباما أمام قمة الحلف الأطلسي ثم في جمهورية التشيك عن ضرورة تعاون أوروبا مع أمريكا وبناء عالم خالٍ من الأسلحة النووية، أن الرئيس الأمريكي يريد التشديد علي التحالف الأمريكي الأوروبي وأهمية تماسكه ليظل ساندًا للقوة العظمي من أي خطر، علي أن يكون هذا الحلف هو عصاه الغليظة، بمعني تنشيط دور الحلف وإقحامه إلي الواجهة. توتر العلاقات الروسية الغربية: وإلي صدارة إهتمامات الولاياتالمتحدة وحلفائها الغربيين، قفزت قضية أمن الطاقة، بمعني توفير المصادر الملائمة لإحتياجات التطور الصناعي والنمو الإقتصادي المتواصلين في تلك الدول وضمان إستمرار وأمن تلك المصادر إلي أطول مدي متاح وبأقل كلفة مادية وسياسية وأمنية ممكنة. ولقد شهدت العلاقات الأوربية الأمريكية خلال سني ما بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي شداً وجذباً واضحين علي خلفية الموقف من روسيا. ففي حين لا تزال واشنطن تشم في موسكو رائحة نوايا كامنة وغير معلنة لإستعادة أمجاد روسيا العسكرية وإحياء طموحاتها الإستراتيجية الكونية علي نحو يشكل تهديدا للمشاريع الإستراتيجية الأمريكية حول العالم وفي القارة الآسيوية وشرق أوربا علي وجه الخصوص، ما يستوجب تحركا أوروأمريكيا عاجلا وجادا لإجهاض تلك النوايا والتطلعات الروسية علي غرار مشروع الدرع الصاروخي، ظل الأوربيون، لاسيما الألمان، واعين لأهمية روسيا الجيوإستراتيجية بالنسبة لأمن الطاقة الأوربي عموما والألماني منه علي وجه التحديد، في الوقت الذي يعتبرون أن روسيا لم تعد تشكل أي تهديد حقيقي للعالم الغربي ومن ثم لم يعد هناك مبرر إستراتيجي حقيقي لإستعدائها. فلكونها تعتمد بنسبة 40% علي إمدادات النفط والغاز القادمة إليها عبر روسيا من دول وسط آسيا وبحر قزوين، التي تقدر إحتياطيات النفط فيها بحوالي 51 مليار برميل، أي ما يزيد بقليل عن إحتياطات أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية مجتمعتين، حرصت دول الإتحاد الأوربي علي علاقاتها بموسكو وكثيرا ما تصدت لمساعي أمريكية للإمعان في تهميش روسيا وعزلها أو محاصرتها إستراتيجيا، حتي أن ألمانيا أكثر الدول الأوربية إعتمادا علي إمدادات الطاقة الآسيوية كانت تقود تلك المساعي الأوربية في مواجهة الإصرار الأمريكي علي تصفية حسابات قديمة مع موسكو. ومن جانبها، حرصت روسيا علي تعزيز دورها في أمن الطاقة العالمي كمصدر وممر في آن لإمدادت النفط والغاز التي تحتاجها أوربا. ففي ديسمبر من العام 2007 وقعت موسكو مع تركمانستان وكازخستان اتفاقاً يقضي بإنشاء "أنبوب قزوين" الذي يعتمد بدرجة كبيرة علي الغاز التركماني ثم الكازاخي ويسير بمحاذاة بحر قزوين إلي روسيا ومنه إلي أوربا، علي أن يبدأ العمل في هذا الخط الجديد خلال عام 2010 حاملاً 20 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً للأسواق الأوربية، ويعد هذا الأنبوب تحدياً كبيراً لمشروع أنبوب "ترانس قزوين" المدعوم من أوربا ويعتمد أيضاً علي الغاز التركماني عابراً أعماق بحر قزوين إلي أذربيجان. وقد أثار هذا التكتل مخاوف الدول الغربية, التي رأت أن الدوافع وراء تكوين منظمة تجمع بين روسياوإيران وقطر سياسية وليست اقتصادية، باعتبار أن الدول الثلاث تهيمن وحدها علي أكثر من 60% من احتياطيات العالم المكتشفة من الغاز، وهو الأمر الذي يري فيه الغرب تهديدا لأمن الطاقة العالمي. إستراتيجيات غربية بديلة: وبدورها، بدأت واشنطن تحركاتها لإفساد المشاريع الروسية في هذا الخصوص، ففي محاولة منها لزعزة ثقة الأوربيين في موسكو، أوعزت واشنطن لأوكرانيا بتعطيل أنابيب الغاز التي تزود أوربا بإمداداتها من الطاقة عبر روسيا لثلاث سنوات متتالية خلال الشتاء، وهو ما إعتبره الأوربيون سلوكا غير مسؤول من قبل موسكو. ورغم تأكيد مسؤولين في شركة "غازبروم" الروسية العملاقة التي تتولي إنتاج وتصدير الغاز الطبيعي إلي البلدان الأوروبية أن أوكرانيا هي التي بادرت إلي إغلاق ثلاثة أنابيب تنقل الغاز الروسي إلي أوروبا بطريقة غير مسبوقة ودون الرجوع إلي موسكو، مشيرة إلي أن 40 مليون متر مكعب من الغاز الروسي من أصل 225 مليون متر مكعب وصلت إلي أوروبا عبر أوكرانيا التي استولت علي الكميات الباقية بطريقة غير مشروعة كما تعهدت الشركة الروسية بضخ المزيد من إمدادات الغاز إلي أوروبا من أنابيب تمر عبر روسياالبيضاء، إلا أن أوربا بدأت تصغي وتستجيب للمشاريع الأمريكيةالجديدة البديلة الرامية إلي نقل الغاز من الجمهوريات السوفياتية السابقة في وسط آسيا وبحر قزوين إلي أوربا دون المرور بالأراضي الروسية. فلقد سبق وتدخلت واشنطن لترسم خطوطاً نفطية بأبعاد سياسية كخط تركمانستان - أفغانستان - باكستان - الهند والمعروف بTAPI، وهو البديل الأمريكي عن خط أيران - باكستان - الهند والمعروف ب IPI (شيراز_ حيدراباد )والتي أبدت الصين إهتمامها به، وذلك في محاولةً من واشنطن لضرب طوق علي إمدادات الطاقة الروسية والإيرانية، والتي تعد أكبر موارد النفط و الغاز التي تعتمد عليها أوروبا.وبمرور الوقت، بدأت تلك المشروعات الأمريكية البديلة تلقي رواجا أوربيا نتيجة لتوتر العلاقات بين روسيا والغرب لأسباب عديدة، منها إلي جانب توقف إمدادات الغاز الروسي إلي كل من النمسا وبلغاريا واليونان وكرواتيا ومقدونيا وتركيا كلياً وبدون أي إنذار مسبق قبل عدة أشهر ولمدة ثلاث سنوات متتالية، ما هو سياسي كمسألة وقف عضوية روسيا في مجلس أوربا بسبب عدم توثيقها البروتوكول الرابع عشر في المعاهدة الأوربية حول حقوق الإنسان، والذي يسمح بالنظر السريع في الدعاوي القضائية، وهو الأمر الذي يشل عملية إصلاح المحكمة الأوربيةلحقوق الانسان. ومن تلك الأسباب أيضا ما يتصل بأمور وقضايا أمنية كالناتو والدرع الصاروخي الأمريكي وسعي واشنطن لتهميش روسيا سياسيا وتطويقها إستراتيجيا.وبناء عليه، دعا مشاركون في مؤتمر لأمن الطاقة إستضافته العاصمة البلغارية صوفيا في شهر مايو الماضي، الحكومات ومستهلكي الغاز في أوروبا إلي أن يتعهدوا بدعم مشروع خط أنابيب الغاز المعروف بإسم "نابوكو" إذا كانت أوروبا تريد الحد من اعتمادها علي الغاز الروسي، وهو المشروع الذي تبلغ الاستثمارات فيه 7.9 بليون يورو ويهدف إلي ضخ الغاز من منطقة بحر قزوين عبر تركيا وبلغاريا ورومانيا وهنغاريا إلي النمسا ومزمع تنفيذه بعد عام 2010. ويري الخبراء أن هذا المشروع لا يحقق لأوربا فقط التنوع في مصادر الطاقة بل يفتح المنطقة لإستثمارات جديدة يكون لها تأثيرها علي مسيرة التنمية في منطقة جنوب القوقاز. وقد شكلت عدة دول آسيوية مهمة كتركمنستان وأذربيجان وأوكرانيا وتركيا وأخيرا إيران، محور إرتكاز لتلك الإستراتيجية الغربيةالجديدة، خصوصا وأن لها مصالح حيوية في التجاوب مع ذلك التوجه الأمريكي الأوربي. فتركمنستان، التي تمتلك واحدا من أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم ويتوقع أن تمد وحدها خط نابوكو ب 10 مليار متر مكعب من الغازسنوياً، تتطلع إلي الإستفادة من عوائد تصدير الغاز لتمويل برامج ومشروعات التنمية الشاملة المعطلة بها منذ سنوات، مستفيدة من تخلي أوربا عن سياسة انتقاد أوضاع حقوق الإنسان في تركمنستان. وفي هذا الإطار أيضا، جاء مشروع "الشراكة الشرقية" التي تهدف الي تعزيز العلاقات الإقتصادية والسياسية بين الاتحاد الأوروبي وست جمهوريات سوفياتية سابقة هي روسياالبيضاء وأوكرانيا ومولدافيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان. وهو المشروع الذي أثار قلق موسكو.