مؤتمر بيت لحم عقد وسط ظروف غير مشجعة بالمرة فها هو الانقسام الفلسطيني علي حاله ولم تفلح جهود الوساطة المصرية في التقريب بين رام اللهوغزة وإعادة الوضع إلي ما كان عليه عقب الاقتتال الداخلي في يونيو 2007 الذي كرس الانفصال بين الضفة الغربية والقطاع.. كما أن الوضع ليس أفضل علي صعيد التسوية السياسية، فالمفاوضات بين الجانبين لا تزال مقطوعة منذ صعود بنيامين نتانياهو إلي السلطة وتبني حكومته خطا متشددا مع الجانب الفلسطيني ووقوفه مع وزير خارجيته المتطرف افجيدور ليبرمان حجر عثرة أمام محاولات الرئيس الأمريكي باراك أوباما لتحقيق تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي باعتباره مصلحة أمريكية.. ورغم الجولات المكوكية لمبعوث أوباما للمنطقة جورج ميتشيل فلا تزال الحكومة الإسرائيلية علي موقفها الرافض لتجميد المستوطنات وهو ما تطالب به اللجنة الرباعية الدولية والسلطة الوطنية الفلسطينية حيث اشترط أبو مازن وقفا كاملا لبناء المستوطنات من أجل استئناف المفاوضات. تعنت حماس أيضا اصطدم عقد مؤتمر بيت لحم بتعنت حماس التي تسيطر علي غزة ورفضها مشاركة كوادر فتح في غزة في المؤتمر وحتي الذين هربوا للمشاركة توعدتهم بالعقاب والمساءلة القانونية عقب عودتهم - هذا إن عادوا أصلا - كما فشلت جميع المساعي والوساطات الحميدة العربية والفلسطينية لتلبية موقف حماس بهذا الشأن.. وهو ما دفع الرئيس أبو مازن إلي أن يقول في كلمته خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر إن مجرد انعقاد اجتماع بيت لحم يشكل نجاحا بنسبة 70% علي الأقل.. مؤكدا أن الشكوك راودته حتي الساعات واللحظات الأخيرة في إمكانية انعقاد المؤتمر. علي هذه الخلفية التقي أكثر من ألفين من أعضاء حماس لإجراء وقفة مع النفس وإجراء محاسبة عن الفترة التي أعقبت رحيل الرئيس ياسر عرفات في عام 2004 وغيابه عن المشهد الفلسطيني وهو ما خلف تداعيات كارثية في مقدمتها انفصال غزة عن الضفة وتوزع المعتقلين الفلسطينيين ما بين السجون الإسرائيلية.. وهذا ليس جديدا.. وسجون رام اللهوغزة. دماء جديدة وقد حفلت جلسات المؤتمر الذي شهد إعادة انتخاب أبو مازن زعيما لفتح بالإجماع وكذلك انتخاب أعضاء جدد باللجنة المركزية والمجلس الثوري ضخ دماء جديدة في شرايين الحركة المتهمة بالفساد من قبل شريحة لا بأس بها من الفلسطينيين.. كما حفل بمناقشات صريحة وصلت إلي حد تبادل الاتهامات والسباب والشتائم بين النائب محمد دحلان القيادي بالحركة والمسئول السابق عن الأمن الوقائي في غزة.. أيضا حدث خلاف حول التقرير المالي لفتح في الأيام الأولي للمؤتمر واضطر أبو مازن للتدخل بنفسه لإنقاذ اجتماع بيت لحم من الفشل. وقد تغلب مؤتمر فتح علي عقبات كثيرة في مقدمتها غياب ممثلي الحركة في غزة والتي تم التغلب عليها بعد الاتفاق علي تصويتهم في انتخابات المجلس الثوري واللجنة المركزية عن طريق موقع مؤمن علي شبكة الإنترنت.. كما انتصرت أصوات الاعتدال داخل الحركة علي أصوات التشدد وتم تجاهل الدعوات التي طالبت بفرض عقوبات علي حماس التي تحكم غزة.. وأكثر من هذا تبنت الحركة موقفا لينا من فاروق القدومي أمين سر الحركة ومفجر قنبلة تورط أبو مازن ودحلان في مخطط اغتيال عرفات. في المقابل تبني البرنامج السياسي لفتح موقفا قويا من إسرائيل حيث حملها المسئولية عن قتل ياسر عرفات.. كما نص علي التمسك بالمقاومة المسلحة جنبا إلي جانب المفاوضات لاسترجاع الأراضي الفلسطينيةالمحتلة.. ورفض رفضا مطلقا الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية وهو ما أثار غضب الجانب الإسرائيلي وخرجت تصريحات أركان الحكومة الإسرائيلية معبرة تارة عن خيبة الأمل في مؤتمر فتح وتارة أخري عن اتهامها بالتطرف ووضعها مع حماس في قارب واحد. صوت العقل وتؤكد القراءة الموضوعية في أوراق مؤتمر بيت لحم أن أبو مازن ورفاقه انتصروا لصوت العقل ولم ينساقوا وراء بيانات عنترية سواء فيما يتعلق بإسرائيل أو حتي حماس.. حيث تركوا الأيدي ممدودة لاستئناف الحوار الوطني الفلسطيني مع حماس الذي ترعاه مصر في 25 أغسطس الجاري.. وليس بخاف أن الدبلوماسية المصرية كانت حاضرة بقوة في مؤتمر بيت لحم.. سواء في الوفد البرلماني الرفيع الذي ترأسه الدكتور محمد عبداللاه أو في الاتصالات التي جرت بين القاهرة وقيادات السلطة الفلسطينية للحفاظ علي شعرة معاوية مع حماس وعدم قطع خط الرجعة علي الوصول بالمصالحة الفلسطينية إلي بر الأمان. وفي إطار هذه الجهود نجحت مساعي أبو مازن في إقصاء محمد دحلان من الترشح للجنة المركزية أو المجلس الوطني من منطلق أن المرحلة المقبلة وإنجاز المصالحة مع حماس يتطلب وجوها جديدة تتسم بالمرونة ولا تتسم بالتشدد أو معروفا عنها العداء والخصومة لحماس كما دحلان.. وربما كان إحكام الحصار علي دحلان وتحجيمه داخل فتح هو الذي دفعه إلي افتعال معركة مع أبو مازن وتحميله شخصيا المسئولية عن سقوط غزة في أيدي حماس وهو ما ردت عليه قيادات الحركة باتهام دحلان بالتنسيق الأمني مع إسرائيل وطالبوا بمحاكمته. وإجمالا يمكن القول إن برنامج فتح لوح لإسرائيل بغصن الزيتون عبر التأكيد علي تبني السلام العادل والشامل كخيار استراتيجي كما لوح بالبندقية من خلال النص صراحة علي حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بكل الأشكال بما في ذلك الكفاح المسلح. وأبدي رفض الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة أو الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية وذلك حفاظا علي حق العودة وحقوق فلسطينيي الداخل "عرب 48" الذين يشكلون 20% من تعداد إسرائيل. وإذا كانت جميع البنود التي وردت بشأن عملية السلام في برنامج فتح موجهة بالأساس للإدارة الأمريكية قبل حكومة نتانياهو ولا سيما في ظل الأنباء التي تتحدث عن طرحه مبادرة عملية ومحددة لإحلال السلام الشامل في الشرق الأوسط عقب استقباله للرئيس حسني مبارك في 17 أغسطس الجاري فإن الوضع مختلف بالنسبة لمستقبل علاقة فتح مع حماس، الشريك الثاني في الانقسام وفي إدارة اللعبة مع إسرائيل. مرحلة حاسمة وأغلب الظن أن المرحلة المقبلة ستكون حاسمة فيما يتعلق بالمصالحة الفلسطينية.. فإذا كانت فتح قد آثرت الابتعاد عن تبني لغة متشددة تجاه حماس فهذا راجع إلي حرص الرئيس أبو مازن وحكماء فتح علي حل أزمة الانقسام عبر الوسائل السياسية والحوار.. والتخلي عن الحلول التي تشمل استرجاع غزة بالقوة لأن هذا يضع الجميع إزاء حرب أهلية واقتتال داخلي لن تستفيد منه سوي إسرائيل عبر المزيد من ابتلاع الأراضي في القدسالمحتلة وتهديدها والعبث بكل المقدسات علي أرض فلسطين. تري هل ترتقي حماس إلي مستوي المسئولية وتكف عن عرقلة الحوار الوطني الفلسطيني من خلال مماحكات وذرائع يسهل جدا التغلب عليها لو خلصت النوايا أم أن الحركة وزعيمها خالد مشعل يسعي إلي تكريس "دويلته" في غزة حتي لو أدي ذلك إلي ضياع حلم الدولة الفلسطينية الموحدة.. وفي كل الحالات فإن جلسة 25 أغسطس المرتقبة ستكون كاشفة أكثر لنوايا الطرفين الفلسطينيين "فتح وحماس" لمعرفة أيهما يدفع الأمور باتجاه المصالحة وأيهما يدفعها نحو التأزم واللا حل وتكريس الانقسام الذي لا تقل كوارثه عن نكبة الاحتلال نفسها.