قبل أشهر قليلة كنت قد حضرت اجتماعاً خاصاً ضم عدداً محدوداً من الحضور، وجه فيه سؤال إلي "برينت سكوكروفت" مستشار الأمن القومي السابق للرئيس بوش- وهو يعد من أكثر العارفين حكمة في قضايا السياسة الخارجية- حول ما الذي يمكن فعله إزاء الأزمة النووية الإيرانية؟ فكانت إجابته: لا حل لهذه الأزمة من دون الدور الروسي. ويقيناً أنه كان أحد ما من إدارة أوباما يتنصت علي ذلك الحوار. وتشير جميع المؤشرات إلي أن عودة موسكو لممارسة الضغط مجدداً علي طهران بغية إثنائها عن برنامجها النووي، تتطلب من إدارة أوباما التنازل من جانبها عن مشروع الدرع الصاروخية، الذي خططت إدارة بوش لبنائه في عدد من الدول المجاورة لروسيا. فذلك هو الحافز الأمني، الذي يدفع موسكو باتجاه العودة إلي الضغط علي طهران، وكما نعلم فقد كرهت روسيا منذ بادئ الأمر أن يبني ذلك المشروع الدفاعي الأمريكي في كل من بولندا وجمهورية التشيك، وهددت ضمن رفضها للمشروع بالرد عليه بعدة خيارات متاحة لها. من جانبها ردت إدارة بوش بالقول إن مشروع الدرع قصد منه أن يكون وسيلة دفاعية ضد صواريخ محتملة من إيران، وأن لا صلة به بأي تهديد أمني لروسيا. وفي خطاب له ألقاه مطلع الشهر الجاري، ألمح جو بايدن، نائب الرئيس أوباما، إلي اعتزام واشنطن التحاور مع الروس بشأن مشروع الدرع الصاروخية. إلي ذلك صرحت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون قائلة إن الولاياتالمتحدة علي استعداد لمراجعة موقفها من مشروع الدرع الصاروخية، فيما لو تراجعت طهران عن برامجها النووية العسكرية. وفي اللقاء التلفزيوني الذي أجري معه بقناة "العربية" قال الرئيس أوباما:"إذا ما قررت دول مثل إيران إرخاء قبضتها والتراجع عن نبرة تهديدها، فإنها سوف تجد يداً أميركية ممدوة للترحيب بها". وعليه فإن السؤال الذي نثيره: هل تبدي موسكو استعداداً لمساعدة طهران علي إرخاء قبضتها عن صواريخها النووية المشتبه بها؟ فلروسيا يد رافعة علي طهران، بفضل ما تتمتع به من علاقات اقتصادية وعسكرية وطيدة معها، بل ساعدت موسكوطهران في برنامجها النووي السلمي المزعوم، وربما كان توقيت التدخل الآن مهماً للغاية. ففي إطار احتفالها بالذكري الثلاثين للثورة الإسلامية في وقت مبكر من الشهر الجاري، أطلقت طهران صاروخ السفير2، وهو علي الأرجح جيل معدل من صاروخ شهاب 3 القابل لحمل الرءوس النووية. ومن رأي بعض المحللين العسكريين الأمريكيين أن بناء مشروع الدرع الصاروخية في كل من بولندا وجمهورية التشيك، ربما كان مثيراً لشكوك روسيا منذ بادئ الأمر، ويمثل استفزازاً لا مبرر له لموسكو. وفيما لو تخلت طهران عن تطوير ترسانتها النووية، وقدمت من الأدلة ما يثبت ذلك، فإنه ينبغي لواشنطن التخلي عن النظام الدفاعي الصاروخي. غير أنه من الصعب جداً قراءة نوايا روسيا إزاء واشنطن، وقد لاحظ رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينستون تشرشل قبل 70 عاماً أن "روسيا دولة يلفها الغموض التام كما اللغز". ومنذ ذلك الوقت، لم يحدث تغير يذكر في السلوك الروسي إلي اليوم، حيث تتسم نوايا موسكو وتصريحاتها بخليط من الشك والرغبة في التعاون والعزوف في آن. ولا تزال هذه الشكوك قائمة، إلا إن روسيا أعلنت رغماً عنها، رغبتها في التعاون مع إدارة أوباما الجديدة. هذا علي صعيد التصريحات، أما في الواقع فلم تفعل موسكو شيئاً سوي حرمانها للولايات المتحدة من قواعدها العسكرية القائمة في قيرغيزستان، التي تمثل نقطة حيوية لخدمات الدعم اللوجستي لجهود الحرب علي الإرهاب في أفغانستان. وعقب اجتياحها لجورجيا، شرعت موسكو في التخطيط لنشر قوة بحرية تابعة لها في منطقة البحر الأسود، إضافة إلي إقامة قواعد جوية في أبخازيا. إلي جانب ذلك هناك النزاع الروسي- الأمريكي حول قمر اصطناعي روسي فوق سماء سيبيريا، وقمر اتصالات أمريكي منصوب في المنطقة نفسها. ويعرف عن التكوين النفسي الروسي ميله المستمر إلي الارتياب، بينما يغلي نظام ميدفيديف- بوتين غيظاً من الخسائر الهائلة التي لحقت بالإمبراطورية الروسية السابقة، خاصة إثر انفصال بعض الجمهوريات الخاضعة لنفوذها سابقاً وإعلان استقلالها عنها، بل توجهها صوب الغرب والحرية. ومما يؤلم موسكو أيضاً إدراكها لحقيقة أنها لم تعد قوة دولية ضاربة مثلما كانت حتي لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي. وهناك أيضاً الشعور بالحنق من أن موارد روسيا النفطية نفسها لم تعد تعني شيئاً يذكر، مع التراجع الكبير الذي حدث في أسعار النفط العالمي. وبسبب هذا الشعور المتعاظم بالدونية، تبدي القيادة الروسية حساسية عالية جداً إزاء كل ما يمثل تحدياً أو استفزازاً لها، سواء كان هذا المؤشر حقيقياً أم متوهماً. ولكن هل يساعد التكوين نفسه موسكو علي ممارسة ما تبقي لها من نفوذ علي طهران، بغية إرغامها علي الحد من برامجها النووية أو التخلي عنها بالكامل؟ فيما نعلم فإنه لا مصلحة لموسكو في أن تري طهران، وقد تحولت إلي دولة نووية نافذة في منطقة الشرق الأوسط. ولكن لا بد لها من أن تقبض ثمن منع هذا مقدماً، قبل أن تقدم علي أي خطوة تدخل في حل الأزمة النووية الإيرانية. فذلك هو المكسب الوحيد، الذي تجنيه موسكو من استثمار رأسمالها السياسي في طهران. وأمامنا من الوقت ما يكفي كي نري ما إذا كان تخلي الولاياتالمتحدةالأمريكية عن فكرة بناء الدرع الصاروخية في دول أوروبا الشرقية، سوف يكون ثمناً مناسباً للدور الروسي في طهران أم لا؟