في الشهور الأولي من عام 1989 كان الموضوع المهيمن علي تفكير إدارة جورج بوش الأب في مجال السياسة الخارجية هو كيفية التعامل مع الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، وتحديد ما إذا كان الرجل يمثل تغيراً جذرياً في السياسات السوفيتية أم أنه مجرد وجه جديد لسياسات قديمة؟ كانت الإدارة في ذلك الوقت منقسمة علي نفسها، فوزير الخارجية الأمريكية السابق جيمس بيكر، كان يريد اختبار جورباتشوف. أما "الصقور" المتشككون في جورباتشوف، فقد كان يقودهم "روبرت جيتس"، الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي، وحليفه في هذا الموقف كان ديك تشيني، الذي شغل منصب وزير الدفاع حينذاك. وهذا الاستقطاب المكون من بيكر في مواجهة روبرت جيتس وتشيني، يجب أن يكون بمثابة تحذير للذين يرون أن اختيار بوش يوم الأربعاء الماضي، روبرت جيتس، كي يكون وزيراً للدفاع خلفاً لدونالد رامسفيلد يمثل انتصاراً لرؤية إدارة جورج بوش الأب علي رؤية جورج بوش الابن. فالحقيقة أن مثل هذا التحليل يعد مبالغاً في تبسيطه، لأن تعيين "جيتس" يعني من دون أدني شك اعترافاً طال انتظاره من قبل إدارة جورج دبليو بوش، بأن الحرب التي شنتها علي العراق كانت بمثابة كارثة. أما تفسير ذلك التعيين بأنه انتصار للرئيس رقم 41 للولايات المتحدة علي ابنه الرئيس رقم 43، أو انتصاراً لما يمكن تسميته ب"مدرسة في التفكير" علي أخري، فلا يصمد عند النظر إلي خلفية "روبرت جيتس" وتاريخهش خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات. فمن ناحية، فإن هذا التحليل يعتمد علي رؤية انتقائية لإدارة جورج بوش الأب: صحيح أن تلك الإدارة ضمت: مستشار الأمن القومي "برينت سكوكروفت"، وهو من كبار المعارضين للحرب العراقية الحالية، وكانت تضم جيمس بيكر الذي يرأس اللجنة المكونة من أعضاء من الحزبين والمكلفة بالبحث عن سياسة جديدة في العراق، إلا أنها ضمت أيضاً ديك تشيني ومساعده آنذاك "ستيفن هادلي"، الذي يشغل حالياً منصب مستشار الأمن القومي، وضمت في صفوفها أيضاً كوندوليزا رايس، التي كانت من ضمن المهندسين الرئيسيين لحرب العراق. علاوة علي ذلك، نجد أن فريق السياسة الخارجية لجورج بوش الأب لم يكن موحداً كما يتبين من الجدل الذي دار حول جورباتشوف بشأن العديد من الموضوعات التي شملت بالإضافة إلي موضوع الاتحاد السوفييتي موضوع الصين والشرق الأوسط، ولم يتفق هذا الفريق علي شيء، قدر اتفاقه علي عدم تقدم الجيش الأمريكي إلي بغداد، بعد أن طرد الجيش العراقي من الكويت عام 1991. حسناً... هل يمثل ترشيح "جيتس" تغييراً في الفلسفة وانتصاراً للواقعية السياسية علي سياسات "المحافظين الجدد"؟ هذا الرأي لا يصمد أيضاً، لأن رامسفيلد لم يكن أبداً من "المحافظين الجدد"، ولم يكن ملتزماً بتقديم فلسفة جديدة. وكل ما كان يقوم به هو معارضة، أي فلسفة أو أفكار يقدمها خصومه ونقاده "الديمقراطيون". وعلي الرغم من أن "جيتس" يوصف بالواقعية فإن تاريخه أكثر تعقيداً من ذلك في الحقيقة. فهو كان من كبار "صقور" الحرب الباردة، ولم يتردد في أي وقت في إطلاق الاحكام المعنوية مثل وصفه للاتحاد السوفيتي بأنه يمثل إمبراطورية الشر، وأن جورباتشوف لم يكن سوي قائد سوفيتي، لا يختلف عن غيره من القادة الذين سبقوه. وعلي الرغم من أنه دافع عن هذا الموقف بقوله إن ذلك كان مجرد تخمين أو تشكك إلا أن آخرين في واشنطن رأوا فيه موقفاً ذا طبيعة أيديولوجية. علاوة علي ذلك نجد أن وزير الخارجية الأسبق جورج شولتز كان كثيراً ما يشتكي من أن "جيتس" ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كانا يقومان مرارا وتكراراً بتفصيل المعلومات الاستخبارية لكي تتناسب مع المصالح السياسية التي كانا يحبذانها. بالنسبة لرأي "جيتس" في دور أمريكا واستخدامها للقوة العسكرية في المسرح العالمي، فإنه لا يختلف كثيراً عن الرأي الذي تتبناه الإدارة الحالية. ولا يجب أن ننسي أن الرجل كان يشغل منصب نائب مستشار الأمن القومي في إدارة جورج بوش الأب عندما قامت أمريكا بإرسال قواتها لبنما في مهمة اعتبرت هي الأكبر منذ حرب فيتنام وهو ما يمثل إرهاصا بسيادة فكرة أنه يمكن استخدام القوة للإطاحة بديكتاتور كما حدث بعد ذلك في العراق عام 2003. إذن ماذا يمثل تعيين جيتس خلفا لرامسفيلد؟ للإجابة علي هذا السؤال يجب أن نلفت النظر إلي أن مسئولية القادة الأمريكيين هي معرفة ما هو الشيء الذي سينجح وما هو الشيء الذي لن ينجح وأن يدركوا ما إذا كانت الولاياتالمتحدة قادرة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً علي إنجاز شيء ما قبل أن تشرع في أي مغامرة، وخصوصاً من نوعية تلك المغامرات التي يمكن أن تكلف الآلاف من الأرواح الأمريكية. لقد كان رامسفيلد تجسيداً حياً لخطأ العراق الكارثي، الذي ستظل أمريكا تدفع ثمنه لسنوات قادمة، ولكن المسئولية عن ذلك الخطأ، لا تقع عليه وحده وإنما تقع في المقام الأول علي الرئيس الأمريكي، الذي قال يوماً "إنني أنا الذي أقرر"، والآن فإنه قرر دون أن يقول ذلك ان حكمه الأصلي كان خاطئاً.