وقوع أي عدد من ضحايا الهجمات العسكرية الأمريكيةوالغربية عموماً، يزيد نيران هذا القتال اشتعالاً. نتيجة للتقدم العملياتي الواضح الذي أحرزته حركة "طالبان" في كل من أفغانستانوباكستان، اضطر القادة الغربيون لإعادة النظر في استراتيجيتهم الخاصة بمكافحة الإرهاب في كلتا الدولتين. وخلال الأيام القليلة الماضية، قام كل من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني جوردون براون بزيارتين منفصلتين إلي كابول بهدف تقييم الوضع هناك. والآن فإنهما وغيرهما من قادة الدول الغربية، باتوا مواجهين جميعاً بمرارة احتمال خسارة حلف "الناتو" لحربه في أفغانستان، وهي الحرب التي ساهمت في زعزعة الأوضاع الأمنية والسياسية في باكستان المجاورة. وبين عمليات العنف كافة التي شهدتها كل من أفغانستانوباكستان مؤخراً، هناك ثلاثة أحداث أذهلت الغرب ومواطني المنطقة علي حد سواء، أولها مقتل 10 من الجنود الفرنسيين وإصابة 21 آخرين في كمين "طالباني" استهدف القوة العسكرية الفرنسية المشاركة في قوات حلف "الناتو" في الثامن عشر من شهر أغسطس الجاري، وذلك علي بعد مسافة 60 كيلومتراً فحسب شرقي العاصمة كابول. يذكر أن هذا الكمين كان قد نصب في أحد الطرق السريعة التي تمر بمنطقة "ساروبي" وأن قوات "طالبان" هي التي تتحكم بحركة المرور فيه، مما جعله غير آمن ومستحيل استخدامه من قبل الأجانب. وفي الوقت الذي خيم فيه الحزن علي فرنسا، احتدم نقاش حاد وعاصف في العاصمة باريس حول مدي حكمة قرار الرئيس ساركوزي الذي اتخذه في شهر أبريل المنصرم برفع عدد القوة الفرنسية المشاركة في عمليات "الناتو" بمعدل 700 جندي ليبلغ إجمالي عددها حوالي 3 آلاف جندي، وهو القرار الذي قصد به ساركوزي إظهار قوة تحالفه مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويتوقع أن يعقد البرلمان الفرنسي جلسة استثنائية طارئة خلال شهر سبتمبر المقبل لمناقشة الاستراتيجية العسكرية المطبقة حالياً في افغانستان. أما الحدث الثاني، فكان بتاريخ 21 أغسطس الجاري، حين استهدف هجومان شنهما مقاتلو حركة "طالبان" الباكستانية علي مصنع "واه" الذي يعد أكبر مصنع للذخيرة في باكستان، ويقع علي مسافة 30 كيلومتراً شمال العاصمة إسلام آباد. وبلغ ضحايا الهجومين 60 قتيلاً و100 من الجرحي والمصابين. ولدي إعلان الحركة الباكستانية مسئوليتها عن الهجومين، بررت تلك الخطوة بأنها رد انتقامي علي العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الباكستاني في منطقة القبائل الواقعة علي الخط الحدودي المشترك مع أفغانستان. ووصفت الحركة تلك العمليات بأنها تتم بإيعاز من الولاياتالمتحدةالأمريكية لحكومة إسلام آباد. وقد وقع ثالث الأحداث التي هزت المنطقة والغرب معاً في الثاني والعشرين من أغسطس الجاري، أي بعد يوم واحد فحسب من الهجومين علي مصنع الذخيرة. وفي هذه المرة زعمت وزارة الداخلية الأفغانية أن ضربات جوية نفذتها المقاتلات الأمريكية في غرب أفغانستان، أسفرت عن مقتل ما يتراوح بين 60 إلي 90 مدنياً أفغانياً، بمن فيهم عدد كبير من النساء والأطفال. إلا أن القيادة العسكرية الأمريكية نفت أن يكون بين القتلي مدنيون، وأن مجموع عدد القتلي لم يزد علي 30 من مقاتلي "طالبان"، ووعدت بإجراء تحقيق حول عملياتها. وتشير هذه الأحداث الثلاثة إلي تدهور الأوضاع الأمنية في كل من باكستانوأفغانستان. وتكاد تكون العاصمة الأفغانية كابول تحت الحصار الذي تفرضه عليها حركة "طالبان"، مما يشيع أجواء الخوف فيها. وبسبب تلك الظروف لزم جميع موظفي الأممالمتحدة والعاملين في المنظمات غير الحكومية منازلهم مخافة الخطر الجدي علي حياتهم. وفي ظل هذه الظروف لقي نحو 40 من الجنود الأجانب مصرعهم خلال شهر أغسطس وحده، مما يرفع إجمالي عدد القتلي بين هؤلاء إلي 200 قتيل للعام الحالي، قياساً إلي إجمالي عددهم وهو 232 خلال العام الماضي كله. يذكر أن حلف "الناتو" وأمريكا كانا قد شنا غزواً مشتركاً علي أفغانستان قبل سبع سنوات، بهدف تدمير تنظيم "القاعدة" ومعاقبته علي الهجمات التي شنها علي أمريكا في 11 سبتمبر، إلي جانب الإطاحة بنظام "طالبان" الذي كان يؤوي تنظيم "القاعدة" ويوفر له الملاذات الآمنة لشن هجماته. غير أن تلك المهمة لم يقدر لها أن تكتمل مطلقاً والسبب هو تمكن الضغوط التي مارستها الجماعات الموالية لإسرائيل في أوساط "المحافظين الجدد" من صرف الإدارة عنها، والانتقال بدلاً منها إلي مهمة غزو العراق واحتلاله في عام 2003. وبالنتيجة اتسع نطاق الحرب الأفغانية لتبلغ نزاعاً استنزافياً يصعب الفوز به، يضم في الجانب الآخر منه تحالفاً بشتونياً قوياً من المقاتلين المناوئين للتحالف الغربي علي كلا طرفي الخط الحدودي المشترك بين أفغانستانوباكستان. وتمكنت هذه الحرب من استقطاب أعداد كبيرة من المقاتلين الإسلاميين القادمين من العالم العربي، ومن كشمير ومنطقة آسيا الوسطي. وربما يكون تنظيم "القاعدة" طرفاً صغيراً وهامشياً في هذا التحالف القبلي المتطرف، إلا أن مقاتليه يواصلون القتال حماية لأنفسهم مما يرون فيه مهدداً أجنبياً لدينهم وتقاليدهم ولنمط حياتهم القبلية ولقداسة عائلاتهم. وعليه، فإن وقوع أي عدد من ضحايا الهجمات العسكرية الأمريكيةوالغربية عموماً، يزيد نيران هذا القتال اشتعالاً ويستقطب المزيد من المتطوعين والمقاتلين إلي صفوف حركة "طالبان" ومقاتليها. نتساءل إذاً: ما الذي ينبغي ل"الناتو" والغرب عموماً فعله إزاء هذا الخطر المتعاظم؟ هناك من الخبراء من يعتقد أن الحرب خاسرة لا محالة، وأن السبيل لحل النزاع ليس هي العمل العسكري. ولعل الطريق الصحيح يبدأ من السعي للتفاوض حول وقف لإطلاق النار مع حركتي "طالبان" الأفغانية والباكستانية وفق استراتيجية إقليمية، لا بد لها من أن تشمل كلاً من الهند وإيرانوكابول وإسلام آباد. وينبغي أن تتحدد أهداف هذه المفاوضات كما يلي: أولاً: وضع حد للنزاع الدائر بين "الناتو" والقوات الأمريكية من جهة وقبائل البشتون من الجهة الأخري، في مقابل تعهد قبائل البشتون بإغلاق الملاذات الآمنة التي توفرها لتنظيم القاعدة في أراضيها. وتقتضي هذه الخطوة تمثيل حركة "طالبان" في حكومة كابول، في مقابل منح منطقة القبائل الباكستانية حكماً ذاتياً خاصاً بها. ثانياً: الاتفاق علي جدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية كافة من أفغانستان، إلي جانب مضاعفة الجهود الدولية المبذولة في إعادة إعمار أفغانستان. ثالثاً: التفاوض بخصوص النزاع الباكستاني- الهندي حول إقليم كشمير لما له من تأثيرات سالبة علي علاقة كلتا الدولتين. رابعاً: مشاركة إيران في التوصل إلي تسوية سلمية إقليمية واسعة للنزاعات تشمل كلاً من أفغانستان والهند وباكستان، حتي تطمئن طهران علي سلامة أمنها وأراضيها. وهذه هي الاستراتيجية التي ينبغي للرئيس الأمريكي المقبل أن يضعها نصب عينيه وأولويات إدارته.