في كتابها الجديد ذائع الصيت، "نيكسون وماو"، ذكّرت المؤلفة قراءها مجدداً بحقيقة كون الخطوة الدبلوماسية الجريئة التي أقدم عليها الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، بزيارته للصين عام 1972، قد أكدت للصين انفتاح الدبلوماسية الأمريكية عليها، وأنها جعلت العالم أكثر أمناً واستقراراً. غير أن عيون القراء لم تغفل لنيكسون في الوقت ذاته، غفلته عن اتخاذ خطوة دبلوماسية جريئة مماثلة، إزاء الشرق الأوسط. وتلك هي الغفلة التي تركت العالم أقل أمناً وسلامة، بل وربما أكثر زعزعة مما كان عليه. واليوم، ومع الجهود الحالية التي تبذلها كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية، من أجل ترميم الصدوع والتشققات بين طرفي النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، فإنه كثير ما فات علينا، أن وزير خارجية نيكسون الأسبق، "ويليام بي. روجريس"، كان قد بذل جهداً مماثلاً في المنطقة. وكان الوضع حينها أفضل مما هو عليه الآن. فرغم اتساع العداء والغضب الشعبي ضد إسرائيل بسبب احتلالها لمزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية إثر حرب عام 1967، فإن الأراضي المحتلة، ظلت بمنأي عن وجود المستوطنين الإسرائيليين فيها. ولم تكن العقبة الرئيسية التي وقفت أمام جهود "روجريس" تلك، هي هؤلاء المستوطنون، إنما تجسدت تلك العقبة في هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي للرئيس نيكسون. وقد تباينت نظرة الرجلين -كيسنجر وروجريس- إلي العالم، تبايناً كبيراً لا سبيل لتجاوزه. وكانت المنطقة الشرق أوسطية في نظر روجريس، ميداناً محتملاً لنشوب حرب عالمية ثالثة. أما كيسنجر، فقد نظر إليها باعتبارها ساحة يمكن فيها هزيمة الأعداء الروس. يذكر أن مبادرة روجريس السلمية، قد اعتمدت علي أساس القرار الدولي رقم 242، والذي دفعت به قدماً الولاياتالمتحدةالأمريكية، مع العلم بأنه القرار الذي أقر مبدأ "الأرض مقابل السلام". وضمن تلك المبادرة، أقر روجريس مبدأ التوازن، كأساس ينبغي أن تقوم عليه السياسات الأمريكية، إزاء كل من إسرائيل والفلسطينيين. وقال روجريس، إن أية صفقة سلام تعقد بين الطرفين، يجب ألا تعكس ثقل الاحتلال، وإنما اتفاق الطرفين علي تسوية مرضية وعادلة للنزاع فيما بينهما. والحقيقة هي أن ذلك التوازن الذي دعا إليه روجريس، لم يكن يوماً أساساً للسياسات الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية، بالنظر إلي تأثرها دائماً وانحيازها للادعاءات الإسرائيلية. ولم يبدأ كيسنجر ما عرف ب"الدبلوماسية المكوكية" إلا في أعقاب حرب أكتوبر 1973، والتي أريق فيها كثير من الدماء الإسرائيلية والعربية علي حد سواء. وعلي رغم المكاسب المؤقتة التي أحرزتها تلك الدبلوماسية، فإن كلاً من نيكسون وكيسنجر، قد بقي علي اعتقاده بأن إسرائيل تمثل حليفاً استراتيجياً له في العداء للاتحاد السوفيتي، ولذلك فقد تحالفا معها، وهو ما بذر بذرة الاضطرابات والقلاقل الأمنية التي تعيشها المنطقة إلي اليوم. وسواء علمت بهذه الحقيقة وزيرة الخارجية الحالية رايس، أم لم تعلم، فهي تمضي اليوم في الطريق المغلق نفسه، والذي سار فيه زميلها السابق روجريس. وهي تدرك مثله أن خدمة المصالح الحيوية الأمريكية في المنطقة، وصيانة استقرار الأمن الإقليمي والعالمي، إنما يتطلبان تحقيق السلام بين طرفي النزاع الشرق أوسطي. وها هي تبذل المساعي الجادة في هذا الاتجاه. لكن بدلاً من كيسنجر الأمس، فالآن يقف لمساعيها هذه بالمرصاد، كل من نائب الرئيس ديك تشيني، ونائب مستشار الأمن القومي إليوت أبراهامز، وكلاهما صقران منحازان تمام الانحياز إلي صف إسرائيل، وعاقدان العزم علي تقويض أي صفقة سلام عادل بين الطرفين. والأهم من ذلك أن لهما أذناً صاغية لدي الرئيس بوش. وبالنتيجة فإن صفقة السلام التي تعمل من أجلها رايس الآن، بدت وكأنها سياسة خاصة بها، وليست سياسة لإدارة الرئيس بوش. وأني لصفقة سلام بكل هذه الأهمية، أن تتحقق دون أن يتوفر لها السند الرئاسي. إذن فرايس مثل روجريس، تبدو اليوم كما لو كانت وزيرة خارجية تعمل علي أساس العمل الجزئي الحر، الذي لا أمل له بإصابة أي قدر من النجاح. وهكذا تتكرر أحداث التاريخ، ويعاد إنتاج الغفلة "النيكسونية" مجدداً في عام 2007!