أدي الغزو الأمريكي للعراق والانهيار السوسيو سياسي الذي أعقبه، إلي إرسال موجات صادمة إلي مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ولقد أُتيح لي أن أشعر بتأثير هذه الموجات علي نحو مباشر وذلك خلال إقامتي التي استمرت شهراً في كل من مصر والأردن وسوريا. يمكنني القول إن هناك أربعة أفكار سياسية تتصارع علي النفوذ والدعم في الدول العربية. والنتيجة التي سيسفر عنها هذا الصراع خلال فترة الثلاث أو الخمس سنوات القادمة، هي التي ستقرر علي الأرجح مستقبل هذه المنطقة ذات الأهمية الكبيرة من الناحية الاستراتيجية خلال الجيل القادم. وفيما يلي أورد عرضاً لهذه الأفكار: 1- القومية العربية العلمانية: سادت هذه الفكرة في العالم العربي إلي أن سقطت من الاعتبار اثر حرب عام 1967. وهذه الفكرة المفتوحة أمام المسلمين والمسيحيين، ضمت في وقت من الأوقات ثلاث نسخ متنافسة فيما بينها: النسخة الناصرية المصرية، والنسخة البعثية العراقية، والنسخة البعثية السورية التي ظلت وحدها في الحكم حتي اليوم، وإن كان من الملاحظ أنها قد غدت تتبني نهجاً ينحو بشكل متزايد إلي التركيز علي سوريا في المقام الأول. مع ذلك يمكن القول إن مشاعر القومية العربية لا تزال منتشرة علي نطاق واسع بفضل تبني بعض وسائل الإعلام لها وبفضل الفعاليات الثقافية. ورغم أن صعود القومية الفارسية مؤخراً أدي إلي إثارة بعض القلق في صفوف أنصار القومية العربية، فإن معظم الشعوب في الدول المحيطة بإسرائيل لا تزال تعتبر إسرائيل تهديداً أخطر بكثير من التهديد الإيراني. 2- الفكرة القطرية العلمانية: من المعروف أن النظام العربي القائم علي الدولة القطرية قد نشأ في أعقاب الحرب العالمية الأولي. ومنذ ذلك الحين تمكنت كل دولة من اكتساب قدر كبير من ولاء مواطنيها: فالمواطن اللبناني اليوم يشعر أنه لبناني فقط، والبحريني يشعر أنه بحريني فقط... وهلم جرا. ورغم انهيار الدولة المركزية في العراق بفعل الحرب، وما نجم عنها من مذابح وحمامات دم بين طوائف الشعب العراقي، فإن العديد من المواطنين في البلدان العربية الأخري استجابوا لتلك الحرب بالالتفاف حول الدولة المركزية العاملة، حتي لو افتقرت إلي كثير من عناصر الديمقراطية طالما ظلت هذه الدولة قادرة علي تلافي تكرار نموذج الفوضي القاتلة في العراق. 3 الإسلاموية السنية: الغالبية العظمي من العرب تنتمي إلي المذهب السني. وقد شهدت الجماعات السنية، بالاضافة الي أنشطة إسلاموية أخري ازدهاراً كبيراً في العالم العربي، في حين اختارت أقلية صغيرة من تلك الجماعات اتباع الأفكار العدمية وخيار الجهاد العالمي الذي يروج له تنظيم "القاعدة". وأكبر حركة إسلامية سنية في الوقت الحالي هي حركة "الإخوان المسلمين" التي تأسست في مصر في عشرينيات القرن الماضي، وقد اكتسبت وجوداً سياسياً ملحوظاً؛ ففي الأردن تتعايش مع نظام الحكم الهاشمي. أما في سوريا فقد دخلت في ثمانينيات القرن الماضي في صراع عنيف مع النظام الذي دأب علي قمعها بقسوة منذ ذلك الحين. وفي فلسطين يعرف "الإخوان المسلمون" تحت اسم "حماس" التي قاومت الاحتلال الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، وفازت في الانتخابات البرلمانية أوائل العام الماضي، وهي تسعي الآن إلي السيطرة علي السلطة الفلسطينية من خلال التحالف مع حركة "فتح" الوطنية العلمانية، كما أعربت عن استعدادها لإجراء مباحثات مع إسرائيل وإن كانت تحت شروط قاسية. في المجتمعات الثلاثة المذكورة تتواجد حركات إسلامية ذات نزعة قتالية جنباً إلي جنب مع حركة "الإخوان المسلمين"، لكن أتباع تلك الحركات أقل عدداً من أتباع "الإخوان" والحركات المنبثقة عنهم. 4- الإسلاموية الشيعية: الحركات الشيعية السياسية الرئيسية في العالم العربي تتمثل في "حزب الله" اللبناني وتلك التشكيلة من الأحزاب الشيعية في العراق. والشيعة العراقيون الذين استبعدوا تاريخياً من السلطة بواسطة السنة، يشعرون الآن بأنهم قد أصبحوا أكثر قوة بسبب الصعود الإيراني. غير أنه تلزم الإشارة مع ذلك إلي أن معظم الشيعة يعتبرون أنفسهم عرباً مخلصين، ويأنفون من الاتهامات التي توجه إليهم باعتبارهم يمثلون طابوراً إيرانيا خامسا في العالم العربي. ورغم الصراع الواسع النطاق بين الشيعة والسنة علي السلطة في العراق، فإن ما لا يعرفه الكثيرون أنه كانت هناك محاولات كثيرة لنسج علاقات سياسية بين المجموعتين علي قاعدة وطنية مناهضة للأمريكيين. التفاعلات بين الاتجاهات الأربعة المشار إليها أعلاه في العالم العربي كانت دوماً تفاعلات معقدة بل مفاجئة تماماً في بعض الأحيان. مع ذلك هناك أربعة مبادئ تبرز بوضوح في هذا السياق: الأول، أن هذه الأفكار بشكل عام لا تقوم علي النفي المتبادل بمعني أن اللبناني الشيعي يمكن أن يشعر بالولاء نحو "حزب الله" ونحو لبنان في الوقت ذاته، كما يمكن للمصري السني أن يشعر بأنه مصري و"أخ" مسلم وعربي في وقت واحد. الثاني: رغم أن الشيعة والسنة يحاولون ممارسة النفي المتبادل باعتبارهم يمثلون نسختين مختلفتين من الإسلام، فإن ذلك لم يمنعهم من التعاون: فإسلاميو "حماس" السنة حافظوا علي علاقات عملية طيبة مع "حزب الله" الشيعي اللبناني ومع إيران... وفي العراق وجدنا الشيعة التابعين ل"جيش المهدي" يمدون أيديهم لمساعدات الإسلاميين السنة في الفلوجة. الثالث: أن تلك الأفكار تتضمن عنصراً قويا مؤيداً للفلسطينيين. وقد يحدث أحياناً أن يدخل أتباع فكرة من تلك الأفكار في تحالف تكتيكي مع الولاياتالمتحدة لسبب أو لآخر، لكن ذلك التحالف لا يستمر طويلاً بسبب أن أمريكا ينظر إليها بشكل عام علي أنها تقف حجر عثرة في سبيل تحقيق الآمال الفلسطينية. الرابع: رغم قوة المكون العقائدي في تلك الأفكار فإن زعماءها كثيراً ما تبنوا خيارات سياسية شديدة البراجماتية. والسؤال الآن، كيف يمكن لنا نحن الغرباء عن المنطقة النظر إلي تلك الحركات؟ أولاً، ليس من حق الغرباء أن يقرروا ما إذا كان علي الأنظمة السياسية أن تحظر الأحزاب السياسية الدينية أو تلك التي تقوم علي أساس طائفي، لأن هناك أحزاباً عقائدية ساهمت في بناء الديمقراطية المعاصرة؛ في دول كألمانيا والهند وإسرائيل. ولعل المهمة الأكثر دقة، هي العمل علي تأسيس ثقافة حل الصراعات والاختلافات السياسية بوسائل سلمية، سواء داخل الدول أو خارجها. فداخل الدول يجب أن تكون الديمقراطية هي الأسلوب الأمثل لحل النزاعات والخلافات بحيث يتم الترحيب في المنظومة القائمة بأي حزب سياسي يلتزم بمبادئ الديمقراطية ويكتسب تفويضاً بتمثيل الناخبين.