الآن وقد توقفت حرب لبنان، لنلق نظرة علي الحرب الأكبر الدائرة رحاها في العراق والتي تسارعت وتيرتها في غفلة منا، فبكل المعايير، بتنا اليوم أمام حرب أهلية حقيقية في بلاد الرافدين. والواقع أن الأمر الوحيد الذي يقف حائلاً بين معدل قتل يبلغ 100 شخص يومياً ومعدل قتل يبلغ 1000 شخص يومياً، هو وجود نحو 135000 جندي أميركي باتوا اليوم عرضة لضغوط قوية من أجل ترك البلاد لحال سبيلها. صحيح أن وجود الأمريكيين وشركائهم البريطانيين الأصغر عدداً لا يحول دون حدوث المجازر، غير أنهم يساهمون علي الأقل في منع العراق من السقوط في هوة سحيقة من الاقتتال الشامل بين السُّنة والشيعة والأكراد بمشاركة فعلية من الجيران. وعما إذا كانت الحرب الأهلية العراقية هي نتيجة للغزو الأمريكي أم لا، فذاك قول فيه أخذ ورد، علي اعتبار أن الوجه الآخر للعملة هو أن يتساءل المرء ما إن كان لا ضير في أن يتعرض العراقيون للمجازر علي يد الديكتاتور المستبد صدام حسين أو أن يتمتعوا بحرية اختيار نظام الحكم الذي يرغبون فيه. مما لاشك فيه، وكما رأينا من خلال الانتخابات الحرة التي شهدها العراق، فإن الأغلبية الساحقة كانت ستختار أن تكون حرة، وذلك بصرف النظر عن الحرب الأهلية. فاليوم مثلاً، لن يقبل الشيعة، الذين يشكلون 60 في المئة من سكان البلاد، أبداً أن يكونوا أقلية في الحكومة مرة أخري. والأمر نفسه ينسحب علي الأكراد الذين يمثلون أقلية، غير أنهم يتمتعون بتقرير المصير في منطقتهم الجبلية. وفي جميع الأحوال، فلا جدوي من هذا الجدل الآن لأن الناس يموتون بالعشرات يومياً. وإذا استمرت الأمور كما هي اليوم، فيمكننا أن نتوقع من دون مبالغة أو تهويل موت مئات الآلاف من العراقيين بنهاية العام المقبل. وبما أن هذا الاحتمال وارد جداً، فدعونا نلقي نظرة علي تداعياته الإقليمية. أولاً: قد يصل عدد اللاجئين والنازحين إلينالملايين. ثانياً: سيشمل وقع الحرب وتأثيرها المنطقة برمتها، متسبباً في انعدام الاستقرار بها. ثالثاً: يمكن الجزم بارتفاع أسعار النفط إلي مستويات قياسية، وهي المرتفعة أصلاً اليوم، ما سيدفع إلي تكثيف الأبحاث الجارية عن بدائل للنفط كالإيثانول والطاقتين النووية والشمسية، التي يرتقب أن تُضعف كثيراً بنهاية هذا العقد النفط باعتباره المصدر الرئيسي للطاقة. والواقع أننا نشهد مؤشرات كل ذلك اليوم. فقد أدي الانهيار الجزئي للقطاع النفطي في العراق خلال السنوات الثلاث الماضية إلي إضافة 10 إلي 15 دولاراً إلي سعر البرميل. أما الانهيار التام، فمن المتوقع أن يتسبب في إضافة 20 دولاراً إضافية بعدما يعمد المتمردون والمليشيات والعصابات المنظمة العراقية إلي تدمير القطاع. أما من الناحية السياسية، فإذا كانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بصدد البحث عن "شرق أوسط جديد"، فإنها ستحصل علي شرق أوسط مختلف تماماً حيث ستكون مطالبة بأن تنتبه إلي التداعيات التي ستشمل المنطقة برمتها. فالأصدقاء القدامي سيصبحون خصوماً، والأصدقاء الجدد لم يعودوا يجدون نفعاً بالنسبة لأهداف السياسة الخارجية الأمريكية. وعبر كامل المنطقة ينتظر أن يشهد عدد اللاجئين والنازحين ارتفاعاً كبيراً ليصل إلي مئات الآلاف؛ كما سيزداد عدد المليشيات أيضاً في فلسطين والعراق ولبنان. الواقع أن الحروب الأهلية تميل دائماً _سواء كانت في إفريقيا أو آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط- إلي الانتشار وتجاوز الحدود. وما علينا إلا النظر إلي النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي لنري كيف أن أطرافاً عديدة أخري جُرت إليه. ذلك أن ما بدأ كصراع يهودي-إسلامي في عشرينيات القرن الماضي، سرعان ما تحول إلي نزاع عربي- إسرائيلي حقيقي في عام 1948، وأدي في 1956 و1967 إلي مشاركة مصر وسوريا والأردن، قبل أن يمتد إلي الأردن نفسها في صراع 1970-1971، ثم إلي لبنان في الحرب الأهلية من 1975 إلي 1990. وبدوره، ساهم النزاع اللبناني في اندلاع مواجهات عنيفة في سوريا خلال الفترة من 1976-1982 عندما دفن نظام الأسد نحو 20000 من "الإخوان المسلمين" وعائلاتهم في مدينة حماه. إلي ذلك، تعج المنطقة اليوم باللاجئين الذين يوفرون البيئة المثلي لتفريخ المزيد من التشدد والتعصب والإرهاب؛ ذلك أن مئات الآلاف من اللاجئين اللبنانيين يوجدون في سوريا اليوم؛ والعراقيين يوجدون في كل من الأردن وسوريا؛ والفلسطينيين يوجدون في كل مكان. كما يعتقد أن نحو 100000 عربي فروا من شمال العراق بفعل ضغوط المليشيات الكردية؛ وما لا يقل عن 200000 سُني نزحوا بسبب الاقتتال بين المجموعات السُّنية والائتلاف الذي تقوده الولاياتالمتحدة غرب العراق. وإضافة إلي ذلك، فر خلال الثمانية عشر شهراً الماضية، ما بين 50000 و100000 شيعي من المدن مختلطة السكان الواقعة وسط العراق إلي أماكن أكثر أمناً في الجنوب. فمن المرتقب أن يساهم تدفق اللاجئين من العراق بشكل أكبر في تصدير عدم الاستقرار إلي كل البلدان المجاورة له. لا ينبغي أبداً أن يفترض المرء أن الوضع لا يمكنه أن يزيد سوءاً لأنه يزداد سوءاً دائماً. عن "الاتحاد"