باعتباري دبلوماسياً سابقاً في الخارجية الأمريكية، أشعر بخيبة أمل حقيقية لأن إدارة الرئيس جورج بوش فشلت في استعمال الدبلوماسية المباشرة، التي خدمت المصالح الأمريكية لعدة عقود. والواقع أن أزمة لبنان تشكل آخر مثال علي فشل إدارة بوش في هذا الباب، حيث استمر الاقتتال في لبنان علي مدي أكثر من أربعة أسابيع؛ لقي خلالها مئات اللبنانيين المدنيين الأبرياء مصرعهم، وأجبر أكثر من ربع سكان البلاد علي النزوح واللجوء داخل وطنهم. وقد حمّل الرئيس بوش سوريا و"حزب الله" مسئولية ما آلت إليه الأوضاع هناك، ذلك أنه يبدو مقتنعاً بأن سوريا هي المسئولة في نهاية المطاف عن إشعال نار الأزمة عبر مساهمتها في تسليح "حزب الله" وربما تشجيع الشيخ حسن نصر الله أيضاً علي خطف جنديين إسرائيليين في الثاني عشر من يوليو الماضي، وهو الحادث الذي أدي إلي الاقتتال بين إسرائيل و"حزب الله". وهكذا أنحي بوش بالنصيب الأكبر من اللوم في هذه الأزمة علي سوريا؛ كما أنه يريد من دمشق أن تحمل "حزب الله" علي الإقلاع عن مواجهة إسرائيل. غير أن الرئيس بوش يحاول التأثير علي دمشق بشكل غير مباشر، إذ يأمل علي ما يبدو أن تعمل دولٌ عربية أخري علي إقناع "حزب الله" بضرورة الإحجام عن استفزاز إسرائيل. والحال أنه بالتعويل علي دول عربية أخري في التأثير علي سوريا، تكون الرسالة الأمريكية ضعيفة الوقع. ولذلك فإن الامتناع عن الحديث مع سوريا يشكل إعاقة ذاتية تقوض قدرتنا علي التعاطي مع الأزمة في لبنان. العام الماضي، سحبت إدارة الرئيس بوش سفيرتها إلي سوريا "مارجريت سكوبي". والحق أن السفيرة سكوبي تتمتع بمؤهلات مبهرة، ذلك أنها مهنية محنكة ذات تجربة وخبرة طويلتين في شئون الشرق الأوسط. كما أنها كانت تحظي بامتياز الوصول إلي الرئيس السوري بشار الأسد ومسئولين كبار آخرين؛ فكانت تشرح مباشرة للسوريين بوضوح وقوة طبيعة سياستنا وما نتوقعه من سوريا. وبفضل هذه المناقشات، كانت تُكون صورة واضحة ودقيقة للآراء والنوايا السورية التي كانت تقوم بنقلها إلي واشنطن. وبالتالي، فيمكن القول إن استدعاءها إلي واشنطن قوض قدرتنا علي نقل رسائلنا القوية وعلي فهم المواقف السورية بوضوح. وقد سحبت إدارة الرئيس بوش "مارجريت" لإظهار شجبنا للدور الذي قد تكون سوريا لعبته في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. والحال أن سحب السفيرة "سكوبي" لم يحدث أي تغيير في السلوك السوري، بل إنه لم يؤد سوي إلي الحد من قدرتنا علي التواصل مع القيادة السورية. وهكذا، لم تقم إدارة بوش بإعادة سفيرتها إلي دمشق؛ ونتيجة لذلك، فإن السفارة الأمريكيةبدمشق تُدار حالياً من قبل دبلوماسي أمريكي أقل مرتبة يفتقر إلي ما تتميز به "مارجريت" من تأثير وامتياز الوصول إلي كبار المسئولين السوريين، وذلك في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة فيه إليها في ظل الأزمة اللبنانية الحالية، ولاسيما أن المسئولين الأمريكيين الكبار في واشنطن يرفضون الالتقاء مع السفير السوري هناك. ذهبت وزيرة الخارجية كندوليزا رايس إلي الشرق الأوسط، ولكنها لم تذهب إلي سوريا. لقد كان بإمكانها ذلك، غير أن إدارة الرئيس بوش لا ترغب في الحديث مع خصومها. وتلك في الواقع سياسةٌ جديدة باتت تنتهجها إدارة بوش ولها سلبيات كثيرة. فخلال الحرب الباردة مثلاً، كانت حكومة الولاياتالمتحدة تتحدث علي أعلي المستويات مع القادة السوفييت، وهو ما ساعد علي تلافي سوء التفاهم والكثير من المشاكل غير الضرورية بين الحكومة الأمريكية ونظيرتها السوفيتية. وخلال فترة جون كينيدي الرئاسية علي سبيل المثال، استعمل الرئيس "الخط الساخن" بين واشنطن وموسكو لتلافي حدوث صراع بين البلدين. هذا، وقد صدق وزير الخارجية السابق جيمس بيكر حين قال "يتفاوض المرء مع أعدائه، وليس مع أصدقائه"، وهو مبدأ يتفق معه العاملون في المجال الدبلوماسي. وقد اتهم الرئيس بوش سوريا بالتدخل في الأزمة اللبنانية رغم أنه من غير الواضح الدور الذي لعبته سوريا، غير أن فرص نجاحه في التعاطي مع هذا الأمر وقضايا مهمة أخري كانت ستكون أكبر لو أنه اختار التحدث مع السوريين. الواقع أن الرئيس بوش طبق سياسته القائمة علي المقاطعة الدبلوماسية في عدد من الحالات، حيث رفض إجراء اتصالات دبلوماسية مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومع كوريا الشمالية ومع إيران. وقبل 2003، رفض إقامة أي اتصالات مع العراق، ليختار بعض ذلك الرهان علي القوة العسكرية بدلا من الدبلوماسية لتغيير كل شيء هناك. فجاءت نتائج غزو العراق بغير ما كان يأمله الرئيس بوش. واليوم رفعت إدارة بوش من مستوي خطابها الصدامي تجاه إيران وسوريا بدعوي دعم "حزب الله"، حيث يدور جدل في واشنطن حول إمكانية وجدوي استعمال القوة ضد إيران، وربما سوريا أيضاً. والواقع أنني إذا كنت أشك في إمكانية حدوث ذلك، فإنه من المرجح أن تظل المقاطعة الدبلوماسية في جميع الأحوال سارية المفعول. انطلاقا من تجربتي كدبلوماسي أمريكي لأكثر من ثلاثين عاماً، أصبحت أؤمن كثيراً بمزايا وإيجابيات الدبلوماسية المباشرة، ذلك أنه لا بديل للمحادثات التي تجري وجها لوجه بين الأمريكيين وشعوب دول أخري، باعتبارها الوسيلة المثلي لفهم مواقفهم ورغباتهم. فالمسئول الأمريكي الذي يلتقي بشكل منتظم مع مسئول أجنبي، يتمكن من فهم مواقف ذلك البلد بشكل أفضل من مسئول جالس في واشنطن يقرأ الصحف لمعرفة ما يقوله المسئولون الأجانب. إذ يطلع المسئول الأمريكي المسئولين في واشنطن بشكل منتظم علي أفكار المسئولين الأجانب ومواقفهم؛ كما أنه يتوفر علي فرصة نقل موقف الولاياتالمتحدة ونواياها علي وجه الدقة إلي المسئولين الأجانب. الحقيقة أن استئناف محادثات مباشرة ورفيعة المستوي مع سوريا علي الأقل لن يكون بالأمر الصعب، كما أن من شأنه أن يخدم المصالح الأمريكية. غير أن الرئيس جورج بوش لا يبدو متفقا مع هذه الرؤية