يتطلع العالم كله إلي ما يسمي تقرير "لجنة بيكر" وكأنه حل سحري للنزاع العراقي، أو كأنه يحمل "الوصايا العشر" حول ما يجب فعله للخروج من مأزق الفوضي العراقية القائمة حالياً. والحقيقة أن تقرير بيكر أبعد من هذا بكثير، لكونه لا يحمل أياً من الحلول التي تتعلق بها واشنطن. هذا ويتوقع للتقرير الذي قامت بإعداده لجنة ثنائية حزبية (من الحزبين؛ "الجمهوري" و"الديمقراطي") ضمت رئاستها كلاً من وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر، الذي تربطه علاقات قوية بعائلة بوش، و"الديمقراطي" عضو الكونجرس السابق "لي إتش. هاميلتون"، يتوقع له أن ينشر في وقت ما خلال شهر ديسمبر المقبل. ومما نما إلي علمنا عن محتوي التقرير حتي الآن، فإنه لا يحمل وصفة سحرية لحل المأزق العراقي، ولا ما يطفئ وهج النيران هناك. بل الصحيح أن الوصفة الوحيدة التي يحملها هي وصفة سامة قاتلة. وأعني بهذه توصيته بإجراء محادثات مع كل من إيران وسوريا، واضعاً بذلك حداً لمقاطعة طويلة الأمد لهاتين الدولتين اللتين تحوم شكوك قوية حول دعمهما للإرهاب. ولهذا فإن المعضلة التي ينطوي عليها هذا الحل، ليست أقل تعقيداً من خطأ الأسباب التي دفعتنا نحو خوض الحرب علي العراق أصلاً. وبما أن سوريا وإيران قد ورد ذكرهما في تقرير بيكر ووصاياه الخاصة بكيفية حل المأزق العراقي، فإن لنا أن نتساءل: هل هناك في المؤسسة الدبلوماسية الأمريكية أو الغربية الأوروبية أو حتي الشرق أوسطية، ذرة منطق واحدة في مجرد التلميح والإشارة إلي احتمال جدية أي من الدولتين المذكورتين وحرصهما علي أن يتمتع العراق بكامل وحدته واستقلاله؟ بكل تأكيد ليس لدي الدولتين أي اهتمام باستقلال العراق ووحدة وهيبة أراضيه، بل ينتابهما شعور مستمر بالخوف من أن العراق الديمقراطي والمتقدم يشكل تهديداً جدياً لهما. وبالنظر إلي سورياً، فإن علي كل من يتشكك في صحة ما أقول، أن يلقي نظرة سريعة علي سلوك الحكومة السورية تجاه لبنان، بما في ذلك تحالفها القائم مع "حزب الله"، ومعارضتها الشرسة لحكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، ثم أصابع الاتهام التي تشير إلي ضلوع دمشق في حادثة اغتيال رفيق الحريري -مضافاً إليه ممارسات الفساد وكل الألاعيب السياسية التي لا تحصي والتي ما فتئت سوريا تمارسها علي أرض لبنان طوال العقود الثلاثة الماضية، مع العلم بأن لبنان هو الجار العربي الأكثر قرباً لدمشق! وبالقدر نفسه يثير الخوف والرعب، سجل طهران المشين في مجال رعايتها للإرهاب ونشره علي امتداد العالم بأسره، بما يرتبط به من نشر العنف والمجازر في منطقة الشرق الأوسط كلها، إضافة إلي سعيها الحالي لتطوير أسلحتها النووية. والشاهد أنه حين يأتي ذكر إيران وسوريا، فإن علينا تشبيههما بالضبعين المتربصين بالفريسة، حتي إذا ما سقطت اشتد تنافسهما عليها، إذ يريد كل منهما الاستئثار بها لنفسه والتهام ما تبقي من جسدها المتآكل المنهوش وحده. ولذلك فإن محاولة إقحامهما في حوار إقليمي يستهدف تحقيق الاستقرار في العراق، إنما هو لغز ومعضلة أخري بحد ذاته. والسؤال الذي لابد من طرحه في وجه من يدفعون في اتجاه إشراك سوريا وإيران في الحوار العراقي المزعوم هو: ما موضوع الحوار ومادته؟ وهل المقصود أن تفعل طهرانودمشق ما فعلتاه في الجارة لبنان؟ أما التوصية الثانية التي علمنا بها ضمن ما علمناه عن تقرير بيكر، فهي اقتراح يدعو إلي عقد مؤتمر إقليمي يجمع بين العرب والإيرانيين والأتراك معاً، من أجل إدارة حوار حول الأزمة العراقية وآفاق حلها. لكن علي حد علمي، فإنه قد سبقت لبيكر نفسه تجارب، باعتباره فارساً مغواراً في عقد هذا النوع من المؤتمرات -ابتداءً من مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وصولاً إلي اتفاقيات "أوسلو" التي عقدت في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بمشاركة كل من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وحكومة "الليكود" الإسرائيلية. لكن هل أفضت تلك المفاوضات إلي شيء، سوي هذه المأساة المؤلمة التي لا تزال فلسطين تعيشها بعد مضي كل هذا الزمن علي "أوسلو"؟ وبهذا نصل إلي مسألة أخري هي كيف يمكن التوصل لإبرام صفقة سياسية ما، في حين لا يزال ميزان القوي كله يرجح لصالح طرف واحد فحسب من أطراف النزاع؟ وبهذه المناسبة فقد مضي الكثير من الخبراء الأمريكيين العالمين بالتاريخ العسكري الأمريكي الحديث، بمن فيهم المقاتلون السابقون في حرب فيتنام، إلي عقد مقارنات بين الفشل الأمريكي في فيتنام، والفشل الأمريكي الحالي في العراق. والذي يهمنا في المقارنات المذكورة، ملاحظة الخبراء لعقد عدة صفقات سابقة في حرب فيتنام، كان القصد منها تمهيد الأرضية اللازمة لإعلان فيتنام الشمالية، احترامها لوحدة تراب واستقلال جارتها فيتنام الجنوبية. ولكن الواقع أنه لم يكن في عزم الجارة الشمالية ولا نيتها يوماً، احترام الاتفاقات والصفقات التي أبرمتها في ذلك الخصوص. وما هي سوي أشهر معدودة فحسب، حتي كان المسرح السياسي الفيتنامي قد أعد للمأساة الطاحنة، علي إثر منح جائزة نوبل للسلام، لكل من وزير الخارجية الأمريكي وقتئذ هنري كيسنجر، ونظيره من فيتنام الشمالية "لي دوك تو"، تثميناً من اللجنة الدولية المانحة للجائزة لجهودهما المشتركة في إبرام صفقة السلام تلك، في وقت مبكر من عام 1973. والذي حدث علي أرض الواقع، هو إقدام حكومة فيتنام الشمالية، علي انتهاك تلك الصفقة التي أبرمتها، والشروع في إعادة بناء قدراتها العسكرية الضاربة داخل أراضي جارتها الجنوبية. وبما أن تلك الواقعة حدثت بالفعل، فقد نشر مقال افتتاحي بصحيفة "نيويورك تايمز" الصادرة يوم الجمعة الماضي، تساءل عما إذا كان في وسع أي كان، سواء بيكر أو عمرو موسي، أن يتوقع أن يؤدي اتفاق مشترك مع سوريا وإيران حول العراق، إلي نتائج أفضل من تلك التي أفضت إليها صفقة السلام المشار إليها آنفاً في فيتنام؟ لذا فإن علي الحل الجاد للمأزق العراقي الراهن، أن يستند علي ما يجري فعلياً علي الأرض، بعد مضي ثلاثة أعوام علي الغزو الأمريكي. ويتمثل هذا الواقع، في اتساع دائرة تحالف استراتيجي شيعي حاكم في كل من طهران وبغداد والنجف، وصولاً بمطامحه وأياديه المؤثرة إلي سوريا ولبنان، ثم البحرين وبقية دول منطقة الخليج. وفيما لو سيطر هذا التحالف الشيعي القابض، علي منطقة الشرق الأوسط بأسرها، فإنه سيكون أشد خطراً ووبالاً مما هو عليه في العراق الآن.