سعدت كثيراً بالحوار القيم الذي تم مع الأنبا يوحنا قلته (المعاون البطريركي للأقباط الكاثوليك في مصر) علي صفحات نهضة مصر في 19 سبتمبر الماضي. ولا تعود أهمية الحوار لكونه تعليقاً مباشراً علي تصريحات البابا بنديكتوس السادس عشر فحسب، بل لكون صاحب الحوار هو واحد من أهم الشخصيات داخل الكنيسة الكاثوليكية التي تملك الوعي الكافي للتعامل مع الشأن الفكري والسياسي في مصر. ولقد آثرت أن أتناول بالنقاش هنا العديد من الآراء والأطروحات التي عرضها الأنبا يوحنا قلته سواء بالاتفاق أو بالاختلاف في قضية كانت لها من التداعيات التي تجاوزت حدود دولة الفاتيكان إلي شتي أنحاء العالم. وبطبيعة الحال، نبدأ بالتفاهمات التي نتفق فيها مع الأنبا يوحنا قلته، وعلي سبيل المثال: 1- (إنه لا يقبل ما قاله البابا بنديكتوس السادس بعيداً عن كونه هو المتبني لها.. مؤكداً أن المسلمين قد أشادوا بالعقل في القرن الرابع الهجري أيام المعتزلة، كما قالوا: ما لا يقبله العقل، لا يقبله اللسان. وذلك قبل ديكارت وقبل الفلسفة النقدية في فرنسا). وهي شهادة يوحنا قلته ليس رجل الدين الكاثوليكي، بل من دارس للفلسفة العربية والإسلامية من جانب، ولخبرة التاريخ من جانب آخر. 2- (إن المسلمين قد ابتعدوا عن استخدام العقل. ولم نستخدم عقولنا وعبقريتنا العربية في التقدم، وقد حبسناها في الكتب والخزائن). وهو تعليق رجل اقترب من منابع الفكر الفلسفي العربي عن قرب. وهو ما نتفق فيه معه.. فلقد أهملنا الفكر والعقل في مقابل نشر قيم التخلف والفوضوية والعشوائية. 3- (إن انتشار الإسلام عن طريق الحوار واللقاء والتجارة.. كان أضعاف وأضعاف المرات من انتشار الإسلام بعد المعارك. وهناك بعض الفتوحات الإسلامية استخدمت فيها القوة). وهو ما يعبر عن حقيقة إن انتشار الأديان بوجه عام له أبعاد أخري سياسية واقتصادية واجتماعية، وليست دينية في معظم الأحوال. 4- (مأساة الشرق هي تديين السياسة، وتسييس الدين وعلينا أن نفصل بين التدين والإيمان). وهي ظاهرة شخصها الأنبا يوحنا قلته بشكل مباشر.. وهي تمس المجتمع المصري بشكل خاص بمسيحييه ومسلميه. 5- (في المسيحية يوجد جهاد روحي فقط.. ضد الغرائز والنزوات، والجهاد في الإسلام هو قريب من هذا لأن الجهاد الأعظم في الإسلام هو جهاد النفس). وهو توضيح لتعريف الجهاد لكي لا يقوم غيرنا من الغرب بتعريفه لنا.. فالجهاد درجات أعظمها هو جهاد النفس. ولا يعني بأي حال من الأحوال الجهاد في صحيح الدين القتل والإرهاب، سوي لدي من يعتبرون أنفسهم وكلاء الله علي الأرض. 6- (اليهودية جذور المسيحية، فالكتاب المقدس عند اليهود هو كتاب مقدس عندنا، فنحن نؤمن بأن العهد القديم أو التوراة أشارت إلي مجيء المسيح، وكذلك نقدس التوراة كالإنجيل ولكن لسنا أقرباء. فالعداء مستحكم منذ قديم الزمان بين اليهودية والمسيحية). وهو تفسير جيد لتحديد العلاقة بين المسيحية واليهودية. ونذكر أن اليهود ما زالوا في انتظار "المسيح المنتظر" الذي سيجعلهم سادة العالم. أما الاختلافات مع أطروحات الأنبا يوحنا قلته التي لابد من التعليق عليها لأهميتها، تتلخص في: 1- (وأستنتج أنا _ أي الأنبا يوحنا قلته _ من كلام البابا في هجومه علي المتشددين والمتطرفين، بأنه يقول لماذا تظهرون الإسلام بهذه الصورة في العالم غير الإسلامي؟). وفي ظني إن البابا كان يمكن _ لو أراد _ أن يقول ما استنتجه الأنبا يوحنا قلته بشكل مباشر.. لا يستدعي أن نقوم باجتهادات متعددة لإعادة شرحه وتفسيره. 2- (هذه ليست من الأمور التي يفرضها البابا علي الناس _ أي تصريحاته بشأن الإسلام - فلا تعني تلك الصورة أن جميع المسيحيين مقتنعون بها). وهي مقولة تحتاج إلي مراجعة.. خاصة في ظل معرفتنا بما يطلق عليه عصمة البابا في الكنيسة الكاثوليكية، تلك العصمة في التعليم أي فيما يردده من كلمات وآراء في صورة رسالة أو كلمة مسموعة. وبالتالي، فإن العديد من المسيحيين سيتأثرون بهذا الكلام.. وفي أقل تقدير، فسيتأثر به السواد الأعظم من عامة الناس التي لا تهتم بالعمل الفكري أو السياسي. 3- (أنا لا أقول رأياً ضد رأي البابا.. لا أسمح لنفسي بهذا، ولا أستطيع أن أقول أنا أرفض رأي البابا أو أعارضه أو أنني ضد البابا لأن هذه تقاليد كنيسة. ومع ذلك فإن البطريرك الأنبا أنطونيوس نجيب بطريرك الكاثوليك في مصر أصدر بياناً شرح فيه موقف الكنيسة الكاثوليكية). وفي هذا الصدد كنت أتمني أن يفصل الأنبا يوحنا قلته في كلماته بين المرجعية الروحية والدينية والمرجعية الوطنية والسياسية. ولا يعني _ في تقديري _ التمييز بينهما نوع من تغليب الواحدة علي الأخري.. بمعني أنه كان يمكن للكنيسة الكاثوليكية في مصر آلا تنتظر حتي يتأجج موضوع التصريحات، وتخرج للرأي العام ببيان مقتضب تتأسف فيه علي ما حدث، ثم تواصل بعد ذلك شرح أبعاد الموقف بعد إجراء اتصالات مباشرة مع الفاتيكان لتوضيح حقيقة الأمر. إن تغليب الانتماء الوطني علي الانتماء الديني هو الخلاص في إعادة إعلاء قيمة العقل والنهضة والتقدم. فكثيراً ما نتحدث عن أهمية الدولة المدنية من مظلة الرؤية الدينية الضيقة. 4- (إن البابا غير متعاطف مع اليهود أو مع غيرهم، وعلينا أن نفرق بين اليهودية والصهيونية، فاليهودية كدين أنت تحترمها وأنا أحترمها أما الصهيونية فهي أيديولوجية ملعونة تدمر كل القيم المسيحية والإسلامية). وهو طرح أشك فيه كثيراً فالبابا بنديكتوس السادس تحديداً هو الذي دعا في بداية توليه البابوية للتقارب المسيحي اليهودي. كما أنه شارك في المجمع الفاتيكاني الثاني الذي قام بتبرئة اليهود من دم المسيح. وبعد، إنه حوار قيم كنت أتمني أن ينشر قبل ذلك لتوضيح موقف تصريحات البابا من جانب، ولتسجيل موقف الكنيسة الكاثوليكية المصرية من جانب آخر. [email protected]