أصبحت الصورة واضحة .. حيث يستطيع كل ذي عينين ان يري ان المقاومة الوطنية اللبنانية، وفي مقدمتها حزب الله بقيادة حسن نصر الله، ليست مجرد "ميليشيا مسلحة". صحيح أن الكفاح المسلح هو أبرز ملامح حزب الله، وصحيح ان هذا الحزب استطاع ان يحقق علي طريق هذا الكفاح المسلح إنجازات كبيرة ومبهرة أهمها حتي الآن النجاح في تحرير لبنان عام 2000 وإجبار الاحتلال الإسرائيلي علي الانسحاب دون تفاوض ودون قيد أو شرط، ثم النجاح مؤخرا في إجهاض العدوان الثلاثي الثاني الذي استهدف تغيير "قواعد اللعبة" في المنطقة وبناء شرق أوسط "جديد"، منزوع من المقاومة، يضمن دخول جميع دوله إلي بيت الطاعة الأمريكي والتطبيع الاسرائيلي بعد تحطيم آخر خطوط "الممانعة". كل هذا صحيح .. لكنه ليس الا ضلعا واحدا من "ثلاثية" متكاملة تتبلور أمام أعيننا يوما بعد آخر. فإذا كان الكفاح المسلح هو أحد أضلاع هذه الثلاثية، أو بالأحري "ضلع القاعدة" .. فإن الضلع الثاني الذي لا يقل أهمية عن معركة السلاح هو "معركة البناء". فقد رأينا ان حسن نصر الله في أول خطبه بعد وقف المعارك يقود هذه المعركة المدنية، فلا يترك المليون نازح في العراء، أو يغض الطرف عن معاناتهم، أو يجعلهم يقفون في الطوابير الطويلة أمام الشبابيك والأبواب الحكومية ويمدون أيديهم بالسؤال والطلبات والتوسلات لصغار كبار وكبار صغار الموظفين. وإنما توجه إليهم علي الفور، وبسرعة لم نألفها من أية حكومة عربية - حتي في الظروف العادية - وكشف النقاب عن خطة لإعادة إعمار البيوت والمنازل التي دمرتها الهمجية الإسرائيلية، وكأنها خطة مدروسة وموضوعية سلفا بتفاصيلها وحساباتها. فبموجب هذه الخطة .. وعد حسن نصر الله بأن كل شخص تعرض بيته للتدمير ستصله في غضون 24 ساعة (!) مساعدة مالية لتأجير منزل لمدة سنة وتكاليف تأثيث هذا المنزل المستأجر. ووجه نداء إلي الجميع بالتطوع للمشاركة في معركة إعادة البناء، سواء بأيام أو ساعات من العمل من كل قادر علي ذلك. كما وجه نداء إلي الجميع داخل لبنان وخارجها بالتبرع المالي من اجل هذا الهدف.. هذه المعركة، نعني معركة إعادة البناء، تعكس دلالات متعددة. منها احترام الناس وتثمين تضحياتهم، ومثلما يتم اللجوء الي الناس وقت الحاجة والشدائد، فإنه لا يجدر نسيانهم بعد ان تصمت المدافع. هذا يعكس فكرة الاعتماد علي الجماهير، والثقة فيها، والتعويل عليها، والالتحام بها. كما يعكس مسألة لا تقل أهمية هي الاستفادة من معركة إعادة البناء لتدعيم الوحدة الوطنية التي تتهددها أخطار كثيرة ويراهن الإسرائيليون وأعداء لبنان علي تفتيتها، بل وإشعال فتيل حرب أهلية إن امكن. فبدعوة الجميع للمشاركة دون تمييز بين طائفة وأخري، في إعادة إعمار القري والبلدات والمناطق المدمرة، دون تمييز بين منطقة شيعية وأخري سنية أو مسيحية .. يتم ري شجرة الوحدة الوطنية وتحويلها من نقطة ضعف إلي نقطة قوة. وبالأمور السابقة مجتمعة.. تتعزز العلاقة بين "الحزب" و"الجماهير" والضلع الأخير لهذا المثلث هو العمل السياسي. ورغم إن هذا هو "الوجه الأول" - إذا جاز التعبير - لحسن نصر الله، فإن الصورة الشائعة عنه وعن حزبه تبرز "الوجه العسكري" والكفاح المسلح وتضعه في الصدارة، في حين ان هذا الكفاح المسلح ليس سوي أحد "الآليات" لتطبيق "خط سياسي" ورؤية سياسية وتصور استراتيجي، يستخدم كثيرا من الأدوات والوسائط، مثل الانتخابات المحلية والبلدية، والانتخابات النيابية، والتواجد داخل الحكومة.. وغيرها. ولعل المعركة السياسية الحالية التي يخوضها حسن نصر الله تقدم نموذجا علي مدي حصافته السياسية. والمعركة التي نقصدها هي إثارة بعض الأطراف اللبنانية مسألة نزع سلاح حزب الله بدعوي ان الدولة - أي دولة - هي المحتكرة - حصريا - لحق امتلاك السلاح واستخدامه، وأن القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن يقتضي ذلك أيضا، ثم جاء القرار 1701 ليطلب نفس المطلب وإن كان بطريقة غير مباشرة. هنا نجد حسن نصر الله يتعامل مع هذا الجدل بحكمة وحسم في نفس الوقت، فيذكر الناسين، أو المتناسين، بأن المعركة لم تنته بعد. وأن الحقوق اللبنانية المغتصبة لم يتم تلبيتها، سواء ما يتعلق بمزارع شبعا أو الأسري اللبنانيين. وأن وضع "الدولة" اللبنانية، يتميز بخصوصية ينبغي مراعاتها، والعمل علي أن تكون هناك دولة قوية وعادلة وديموقراطية وممثلة تمثيلاً نزيهاً وصادقاً لجميع اللبنانيين. ومن ثم النظر إلي قضية سلاح حزب الله من هذه الزاوية: هل يؤدي نزع هذا السلاح إلي تقوية الدولة أم إضعافها وزيادتها وهنا علي وهن وبالتالي جعلها اكثر انكشافاً أمام اعتداءات إسرائيلية جديدة غير مستبعدة. ثم من يستطيع أن يقوم بمهمة نزع سلاح حزب الله بعد أن فشلت إسرائيل في ذلك؟! والأعجب أن يطالب بذلك - الآن - بعض اللبنانيين، والعرب، بينما الأمريكيون والإسرائيليون توقفوا عن ترديد هذا المطلب .. رسمياً علي الأقل؟! والمهم .. ان حسن نصر الله .. لم يجعل كل هذه التساؤلات والملاحظات السابقة سبباً في المصادرة علي مناقشة الموضوع او جعله في عداد "المحظورات" بل إنه طرحها في سياق أن تلك المناقشة يجب أن تتم بين الأطراف المعنية بجدية ومسئولية داخل الغرف المغلقة، وليس علي شاشات الفضائيات. ثم أن تتم في التوقيت الملائم.. وبالقطع .. فان الوقت الحالي الذي ينشغل فيه الجميع بتضميد الجراح وعودة النازحين وحل مشاكلهم التي هي أكثر من الهم علي القلب، بالضرورة، لا يمكن أن يكون هو المناسب نفسيا وعاطفياً ومعنوياً. وعلي أي حال فإن مسألة سلاح حزب الله، هي واحدة من عشرات البنود المدرجة علي الأجندة، التي هي بالفعل أجندة سياسية حافلة، تبين للجميع مدي المهارة السياسية لحسن نصر الله في التعامل معها، وإن كان هذا لا يمنع من القول بأن بعض هذه المعالجات السياسية ليست فوق مستوي الجدال، ومنها علي سبيل المثال التقدير السياسي للموقف إبان اختطاف الأسيرين وتوقع شكل ومدي ردود الأفعال الإسرائيلية والأمريكية .. بل والعربية. ولعل المهارة الأكبر هي في التكامل بين مكونات هذه الثلاثية: الكفاح المسلح، والعمل الجماهيري ، والعمل السياسي. والتساند الوظيفي بينها، والانطلاق من تحقيق إنجاز علي صعيد أحدها لتحقيق اختراق علي صعيد مكون آخر. وكل هذا في إطار حسابات معقدة، وتقديرات تفصيلية للمعادلة الدولية والوضع الاقليمي والخريطة السياسية اللبنانية، وبناء تحالفات قصيرة الأمد أو علي المدي المتوسط او علي مدي أبعد مع هذه أو تلك من القوي المحلية والاقليمية .. بل وحتي الدولية، الأمر الذي جعل من حزب الله "الحاضر الغائب" علي مائدة اجتماعات مجلس الأمن، ناهيك عن دهاليز وبلاط الحكم في العالم العربي من المحيط إلي الخليج.. واذا كان لما سبق من معني .. فإن هذا المعني هو ان حزب الله إذا لم يكن دولة فانه بالتأكيد أكبر من مجرد "ميليشيا مسلحة". وأن الدور المهم الذي يلعبه حزب الله علي الصعيد السياسي، وعلي صعيد إعادة إعمار لبنان .. يدعو النخب الحاكمة العربية إلي إعادة تقييم مواقفها التي اتخذتها في بداية العدوان الإسرائيلي علي بلاد الأرز . وهذا يجعلنا ندعو هذه الحكومات العربية إلي التخلي عن السلبية إزاء معركة إعادة بناء لبنان، أو اعتبارها شأنا لبنانيا بحتا، أو مسألة تخص حزب الله. بل يجب أن تكون هناك مبادرات عربية كبيرة وملموسة بهذا الصدد، لعلها تجعل اللبنانيين أن ينسوا شعورهم بالمرارة من العجز السياسي العربي المشجع للعدوان الاسرائيلي.. وحسنا فعلت لجنة الصناعة في مجلس الشعب المصري، برئاسة النائب محمد أبو العينين، عندما قررت وضع هذه المسألة علي جدول الأعمال من أجل وضع سياسة رشيدة للاسهام في تضميد جراح لبنان. ولا يقل أهمية عن ذلك أن تكون هناك مبادرات "أهلية"، غير حكومية، من كل منظمات المجتمع المدني .. للعمل بعيداً عن مظلة الحكومات وحساباتها.. فالتضامن الشعبي هو الأهم.. والأبقي. وفي السياسة تستطيع الحكومات العربية أن تلعب دوراً مساعداً في حث الفصائل اللبنانية المختلفة علي مناقشة خلافاتها بعيداً عن أجواء الاثارة والتحريض، حتي لا تحقق اسرائيل بسياسة "فرق تسد" ما عجزت عن تحقيقه بقوة السلاح.. ولعل الدور الأهم الذي يمكن ان تلعبه الحكومات العربية بهذا الصدد هو أن تبذل مساعٍ "مخلصة" لدي الأطراف الدولية - وبالذات لدي الإدارة الأمريكية - لاقناعها بالتروي ومراعاة تعقيد مسألة سلاح حزب الله، لأنه ليس مجرد ميليشيا مسلحة- كما قلنا- وإنما هو جزء أصيل من النسيج الوطني اللبناني. [email protected]