يشبه "تمرد" الجنرالات المتقاعدين علي وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد احتجاج العسكريين ضد مراقبة المدنيين للجيش إبان حرب فيتنام، والذي أدي في الأخير إلي التغيير الذي طال علاقة الجيش الأمريكي بالمجتمع المدني الأمريكي. وقد تمثل رأي أغلبية العسكريين وقتها، كما هو الحال اليوم، في أن المدنيين في "البنتاغون" و"الساسة" في الكونغرس والبيت الأبيض حالوا دون قيام الجيش بخوض الحرب كما ينبغي، وهي حرب كان ممكناً الانتصار فيها. ويري المنتقدون أنه لا ينبغي أن تكون ثمة أهدافٌ محظورة، أو تصعيد تدريجي، أو وقف للقصف، أو مبادرات سلام. كما يرون أنه ينبغي استعمال الأسلحة النووية، إذا دعت الضرورة إلي ذلك. أما المدنيون، فستتم المناداة عليهم للتعامل مع العواقب، بعد أن تتحول فيتنام الشمالية إلي خراب تتصاعد منه أعمدة الدخان (أو تنبعث منه الإشعاعات). ولكن، ماذا عسي الجنرالات المتقاعدين أن يطلبوا اليوم في حالة العراق عدا المغادرة، وجعل العراقيين يدبرون مشكلات بلادهم؟ لا نعلم. إلا أن الجنرلات يبدون اهتماماً بما قام به رامسفيلد وجورج بوش، حتي لا ننسي، في الماضي. يقولون إنه كان ينبغي استخدام عدد أكبر من الجنود خلال غزو العراق، وتقليل الاعتماد علي التكنولوجيا، وإنه كان ينبغي التخطيط بدقة وعناية لمرحلة ما بعد الانتصار في الحرب، هذا علماً بأن المخططات كانت موجودة في وزارتي الدفاع والخارجية، إلا أن رامسفيلد غض الطرف عنها. ويقولون إنه كان ينبغي منع أعمال النهب والسرقة، وما كان ينبغي أن يتم تفكيك الجيش العراقي، ولا إخضاع جميع أعضاء حزب "البعث" للحظر. ولعل القراء قد سمعوا من قبل كل هذه الأقوال أو بعضها، وربما يتفقون معها. أنا بدوري أعتقد أنه ينبغي علي دونالد رامسفيلد أن يرحل علي خلفية الأسباب سالفة الذكر. كما أعتقد أنه يجب أن يدان علي خلفية ضلوع الجيش الأمريكي في أعمال تعذيب وفي انتهاكات لحقوق السجناء، في خرق سافر لتقاليده وقوانينه، وللالتزامات الأمريكية، والممارسات الدولية المتعارف عليها. ولعل بعض الجنرالات يرون هذا الرأي أيضاً. وبصرف النظر عن موضوع مراقبة المدنيين للجيش, فإن جيش الولاياتالمتحدة يعاني اليوم من ضعف التجهيز لخوض هذا النوع من الحروب الصغيرة. كما أنه رفض الاستفادة من دروس فيتنام، فقد كان رده حينها هو التخلي عن مثل هذه الحروب، معتمداً مقاربة تقول ب"استحالة" وقوع حرب فيتنام أخري (مقاربة باول). وتحت تأثير الحربين العالميتين الأولي والثانية والحرب الباردة، أصبح الجيش الأمريكي جيشَ حربٍ في العقلية والفرضيات الاستراتيجية والتربية الجيوسياسية. هذا ما وجهت به الحكومة الأمريكية قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وهذا ما تواصل التوجيه به اليوم، وإن بصيغة مختلفة. ولعل خير مثال علي ذلك هو "استراتيجية الأمن القومي" الأخيرة التي صدرت في مارس المنصرم، والتي ترقي إلي إعلان عن النوايا الأمريكية الرامية إلي التحكم في العالم وتغييره. تقول الوثيقة إن الولاياتالمتحدة تخوض "حرباً طويلة"، هدفها وضع حد للظلم والطغيان في كل مكان، وتحارب "اللاتسامح والقتل والإرهاب والعبودية والقمع والاضطهاد". وحسب الوثيقة، يتعين علي الولاياتالمتحدة حمل الحرب إلي "عدو جديد"، و"الحفاظ علي التفوق العالمي" ومنع ظهور "منافس ند" لها. والحقيقة أن الفريق المكلف بالتخطيط في مصلحة عسكرية لا يمكنه التعامل مع أمور مبالغ فيها وغير واقعية مثل هذه، ذلك أن مخططات أي جيش وعملياته رهينة بتجربته وتاريخه. علاوة علي ذلك، فالحربان العالميتان الأولي والثانية، والحرب الباردة، كانت جميعُها حروبا "شاملة"، كما أن المهمة لم تكن معقدة وشائكة حيث كانت تقوم علي ردع الهجوم أو تحقيق الانتصار العسكري. والحال أنه منذ ظهور الحروب الصغيرة والمعقدة سياسياً، إضافة إلي وجود أعداء مدنيين متحفزين ومنظمين سياسياً، بدا الارتباك علي الجيش الأمريكي العصري، الذي سعي إلي إدخال أمور مثل الحروب الصغيرة والوطنية والتمرد في أدبياته ومقارباته المتمثلة في حرب شاملة ضد عدو عالمي. إن ثقافة الجيش الأمريكي المتمثلة في الانتصار التام مع إصابات محدودة في صفوف الجنود بفضل التكنولوجيا المتقدمة التي يتوفر عليها جعلته غير قادر علي الاضطلاع بالمهام الموكلة إليه بفعالية ونجاح. وهو ما يمثل أحد مواضيع الصراع القائم بين المدنيين والجنرالات اليوم. لقد حدث ذلك في فيتنام، وما زال يحدث الآن. ولنتأمل المثال التالي: فقد خصصت وكالة "أسوشيتد بريس" في منتصف شهر مارس المنصرم موضوعاً للجهود الأمريكية بشأن التعامل مع "العبوات الناسفة المرتجلة"، وهو السلاح الذي تسبب في أكبر عدد من الإصابات في صفوف الجنود الأمريكيين في العراق، (والتي يطلق عليها البعض اسم قنابل حافة الطريق). ومما يجدر ذكره أنه يمكن تفجير هذه القنابل حالياً بواسطة أجهزة الهاتف المتحرك أو بإشارة كهربائية بسيطة، كتلك التي تصدر عن الجهاز اللاسلكي الذي نفتح به باب المرآب.