في إطار انتقادهم لوزير الدفاع "دونالد رامسفيلد" قام سبعة جنرالات أمريكيين متقاعدين بالتركيز علي الطريقة التي قام بها بإدارة الحرب في العراق. ولكن عند إمعان النظر في بعض جوانب تلك الانتقادات يتضح لنا أن الأمر يتعدي موضوع العراق، وأنه يرجع في الأساس إلي نظرة عدم الثقة التي ينظر بها العسكريون المحترفون في "البنتاجون" ممن يرتدون الزي الرسمي، إلي المسئولين المدنيين القادمين من خارج المؤسسة العسكرية مثل "رامسفيلد"، والتي تمتد جذورها إلي الحرب الفيتنامية وهي نظرة لم تختف تماماً حتي الآن. ويقول هؤلاء الجنرالات إن سبب قلقهم يرجع إلي أن الإدارة لم تسعَ فقط إلي تمرير تغييراتها الرئيسية رغم أنف العسكريين، ولكنها سعت كذلك إلي دس أنفها في شئون التكتيكات القتالية التي تجري في ميدان المعركة. وكانت حرب العراق هي التي أشعلت شرارة الانتقاد لرامسفيلد، علي اعتبار أن منتقديه يعتبرونها الدليل الأبرز علي فشل سياساته كوزير دفاع. ولم يكن قلق هؤلاء الجنرالات نابعاً من تدهور أوضاع الجيش الأمريكي هناك، ولكن من زيادة الهوة بين العسكريين المحترفين والمسئولين المدنيين في "البنتاجون". لم يكن من المألوف من قبل في أمريكا أن يقوم جنرالات متقاعدون أو عاملون بتوجيه انتقادات لوزير الدفاع، علي اعتبار أن ذلك يخالف نص الدستور الأمريكي الذي يؤكد علي السيطرة المدنية علي شئون المؤسسة العسكرية وعلي أن المدنيين هم الذين لهم دائماً الكلمة الأخيرة في تقرير هذه الشئون. وكان الذي يحدث تقليدياً هو أن يقوم العسكريون بتقديم المشورة إلي المسئولين المدنيين في الموضوعات العسكرية المتخصصة ثم الالتزام بعد ذلك بتنفيذ الأوامر التي يصدرها هؤلاء المدنيون إليهم. بعبارات أخري يمكن القول إن مهمة رسم السياسات كانت تقع علي عاتق المدنيين، أما المسائل التكتيكية والتفصيلية علي الأرض فكانت تترك للعسكريين. وعلي الرغم من أن الأسابيع الأخيرة قد شهدت أمثلة علي خرق هذه القاعدة علناً، فإنها ظلت هي القاعدة المتبعة إلي حد كبير. فعندما قام الجنرال "ماك آرثر" مثلاً بانتقاد الرئيس ترومان علناً بشأن طريقة إدارته للحرب الباردة تم إعفاؤه فوراً من منصبه. وحقيقة أن الغالبية العظمي من الجنرالات قد ظلت صامتة، ولم توجه انتقادات للمدنيين في "البنتاجون" وعلي رأسهم رامسفيلد، تثبت أن ما حدث مؤخراً من انتقادات علنية من جنرالات متقاعدين وعاملين يمثل استثناء لا قاعدة. ولكن الأمر المؤكد كذلك أن العلاقة بين المدنيين والعسكريين في "البنتاجون" قد خضعت لبعض التغييرات خلال العقود القليلة الأخيرة. حول هذه النقطة يقول "إليوت كوهين" من كلية جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة في واشنطن: "لقد كان هذا اتجاهاً واضحاً منذ أيام الحرب الفيتنامية، ففي فيتنام كانت هناك أوقات شعر فيها ضباط كثيرون بأن القيادة المدنية قد خانتهم". وكانت نتيجة ذلك مع مرور الوقت هي أن العسكريين قد أصبحوا أكثر توجساً من القيادات المدنية في "البنتاجون"، التي كانت في رأيهم تهدف إلي الزج بهم في حروب يصعب كسبها ثم تركهم بعد ذلك يواجهون مصيرهم حسبما يقول "أندرو باسيفيتش"، وهو عقيد متقاعد يعمل الآن أستاذاً بجامعة بوسطون. علي هذه الخلفية، حاول الجنرالات المتقاعدون المبادرة بالهجوم من خلال تحميل مسئولية ما يحدث في العراق للقيادة المدنية. فما حدث في الواقع هو أن هذه الإدارة علي الأقل في نظر البعض قد قامت بتغيير النظام الذي كان قائماً في الأصل: فهي لم تكتف فقط بوضع سياسة طموحة ووضع مسئولية تنفيذها علي عاتق العسكريين، ولكنها أخذت أيضاً تمارس التدخل في الأمور التكتيكية التي تعتبر من أدق اختصاصات العسكريين. والمثال الأبرز علي ذلك التدخل حسب العسكريين هو إصرار القيادة المدنية في "البنتاجون"، وعلي رأسها رامسفيلد علي خوض حرب العراق بعدد قليل من القوات سريعة الحركة بدلاً من استخدام قوات احتلال كبيرة العدد. "لم يكن الأمر سجالاً حول الذهاب إلي الحرب من عدمه، ولكنه كان سجالاً حول المسائل العملياتية ذاتها"، كما يقول "مايكل ديش"، المحلل العسكري في جامعة "آية آند إم تكساس". ولكن معظم قادة "البنتاجون" من مدنيين وعسكريين يقولون مع ذلك إن جميع القرارات التي تم اتخاذها بشأن هذه الحرب، قد تم التدقيق عليها من خلال القنوات العسكرية. وفي آخر الأسبوع الماضي اتخذ "البنتاجون" خطوة غير معتادة عندما نشر وثيقة تفيد بأن رامسفيلد قد التقي بجنرالات البنتاجون 139 مرة منذ 2005. ولكن رامسفيلد نفسه أقر بأن سياسته ونمط شخصيته سببا نوعاً من الضيق، خصوصاً داخل مؤسسة عسكرية كانت معتادة علي القيام بوضع سياساتها الخاصة بنفسها دون تدخل من أحد في عهد كلينتون. وأنه منذ أن تولي وزارة الدفاع كان حريصاً علي إثبات وخصوصاً من خلال التجربة العملية أن قوات المستقبل ستكون في جوهرها قوات قليلة العدد، قادرة علي الاحتفاظ بنفس قوة وتأثير الأعداد الكبيرة من خلال استخدام التقنيات المتقدمة. وقال رامسفيلد في إيجاز صحفي قدمه مؤخرا: "هناك الكثير من التغييرات التي تتم في الوقت الحالي. وهذه التغييرات يتقبلها البعض ويعتبرونها تحدياً في حين لا يتقبلها البعض الآخر". وفي موضع آخر من إيجازه قال رامسفيلد: "أعتقد أننا يجب أن نكون أكثر تقبلاً للآراء التي تقال في هذا الصدد". من هذه الزاوية يمكن النظر إلي السجال الدائر حالياً علي أنه سجال حول مستقبل المؤسسة العسكرية. والبعض في هذه المؤسسة مستاء من أفكار رامسفيلد ومن تصلبه الفكري. تعليقاً علي ذلك يقول البروفيسور "ديش": "لقد كان رامسفيلد مصمماً منذ اليوم الأول الذي تولي فيه منصبه علي تحدي العسكريين في موضوعات عسكرية في جوهرها وقام في إطار ذلك بإغضاب الكثير من العسكريين دون أن ينتبه". مارك سابينفيلد مراسل كريستيان ساينس مونيتور_ واشنطن "كريستيان ساينس مونيتور"