يصعب علي المرء أن يضحك أو يبكي عند سماعه للمهاترات الجارية بين وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد حول ما إذا كانت أمريكا قد ارتكبت أية أخطاء تكتيكية في حربها علي العراق أم لا. وكانت رايس قد أدلت بتصريح صحفي أثناء زيارتها إلي بريطانيا يوم الجمعة الماضي، جاء فيه "إني واثقة من ارتكابنا أخطاء تكتيكية، ربما تعد بالآلاف. غير أن ذلك لا يقلل مطلقاً من صحة القرار الاستراتيجي الذي اتخذناه بالإطاحة بصدام حسين، وهو ما سيؤكده مؤرخو المستقبل". ولكن سرعان ما جاء رد رامسفيلد عليها من خلال لقاء إذاعي أجرته معه محطة "WDAY" يوم الثلاثاء الماضي: "تحرياً للأمانة فإنني لست أدري عم تتحدث رايس؟" ثم مضي رامسفيلد مستطرداً وسط كم هائل من الهراء والكلمات الجوفاء الخاوية، في الحديث عن "الحاجة المستمرة لتغيير التكتيكات أثناء الحرب". وقال ضمن ذلك: إن كنا إزاء موقف حربي ثابت وساكن، ثم ارتكبنا خطأ في تصدينا لذلك الموقف، فذلك أمر يختلف كثيراً عن مواجهتنا لموقف دينامي متحول باستمرار، ولعدو يعمل فكره وذهنه ويغير خططه وتكتيكاته باستمرار. وذلك هو ما دعا قادتنا الميدانيين إلي تعديل خططهم وتكتيكاتهم باستمرار في المقابل". تعليقاً علي هذا كله، ربما يواجه المرء بصعوبة في تحديد من أين يبدأ التعليق أصلاً؟ لكن وقبل كل شيء، يجب الإقرار بخطأ "رايس" في اختزالها لما ارتكبته إدارة بوش في العراق، ب "الأخطاء التكتيكية" لا أكثر. أما في حالة وزير الدفاع، فقد كان خطأ استراتيجياًً فادحاً منه ألا ينشر ما يكفي من القوات العسكرية لتأمين الحدود العراقية من جانب، ولملء الفراغ الأمني الكبير الذي خلفه سقوط نظام صدام حسين، علماً بأنه الفراغ الذي ملأه بالإنابة عنا المجرمون، والعشرات من عصابات القتلة وجز الرءوس من المتشددين. وفيما يلي، إليكم ثمار الحقيقة المرة لما وصلنا إليه في العراق حقاً: فبعد ثلاث سنوات من الغزو، أنفقنا خلالها ما يزيد علي 300 مليار دولار، وسقط بين صفوفنا وصفوف العراقيين الآلاف، فها نحن لا نزال نفتقر إلي مجرد وجود حكومة عراقية وجيش وطني في مقدورهما الحفاظ علي تماسك البلاد، دون حاجة إلي عون أمريكي. وحتي هذه اللحظة، فإن أبرز الغائبين عن الساحة، هو العراق المستقل المتجه بذاته، صوب الحرية والتحول الديمقراطي. وهب أننا توصلنا أخيراً للإعلان عن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الجامعة، فالغائب وغير المرئي هو مدي قدرة هذه الحكومة علي وقف الانزلاق الحاصل الآن نحو الطائفية وحكم المليشيات. وكما قال ريفر بند المعلق العراقي غير المحترف الذي يكتب لموقع "صالون دوت كوم" في أحد تعليقاته عن هذا الانزلاق الخطير: فإن الحقيقة العارية، هي انتماء الكثير جداً من قوات الأمن العراقي، إلي المليشيات ذات الولاءات الطائفية الدينية والسياسية. وبالنسبة لمن يؤمن مثلي بضرورة بناء سياسات تقدمية في العراق، بل في قلب العالم العربي، فإنه يحز في نفسي جداً أن أقول هذا. ولكن كيف لنا أن نخفي حقيقة وخطورة المأزق الذي نحن فيه الآن؟ وهناك من منتقدي الحرب ممن حصروا أهدافها وغاياتها في الحصول علي النفط العراقي وحده، لا شيء غيره. فكم هي مخبولة وعرجاء هذه الفكرة، لكون أهداف الحرب أكبر وأنبل مما ظن هؤلاء بكثير! والشاهد أن منطقة الشرق الأوسط بأسرها، لم تعهد إلا شكلاً واحداً من أشكال الحوار أو الخطاب. أعني بذلك خطاب الإملاء الأحادي، النازل دوماً من قمة الهرم السياسي الاجتماعي إلي قاعدته. وقد كرست لغة الخطاب الاستعلائي هذا، القوي الاستعمارية أولاً، ثم تلاها الملوك والطغاة من كل شاكلة ولون. فهؤلاء هم المتحدثون الوحيدون في الساحة، ثم إنهم لا يفعلون ذلك إلا والعصا معهم... إلا وهم مطبقون علي قبضاتهم الحديدية الباطشة! غير أننا حاولنا أن نعكس دورة هذا الخطاب في العراق، بأن نجعله خطاباً أفقياً، ينبع من القاعدة الشعبية ليخاطب قمة الهرم السياسي. وهذا هو ما نراه الآن من حوار أفقي جار بين الأكراد والشيعة والسُنة، باعتبارها جماعات وكيانات، لم تحظ يوماً بإبرام عقدها الاجتماعي الخاص. فإما قدرة هذه الكيانات علي إبرام عقدها الاجتماعي، أو إخفاقها، ومن ثم إفساح المجال لعودة الطغاة والقبضات الحديدية مجدداً، وسيادة كل السياسات التي هبت منها عواصف 11 سبتمبر المدمرة! وقد كان ولا يزال من أهم واجباتنا فعل الشيء الصحيح في العراق: أي توفير البيئة الآمنة، التي تمكن العراقيين من إدارة حوار سلمي عقلاني أفقي فيما بينهم، علي رغم ما يحيط بهذا من مصاعب جمة، وخوف موروث من العهد الصدامي. ولكن يا لخيبتنا في القيام بهذا الواجب، بسبب عناد رامسفيلد ورفضه نشر ما يكفي من القوات، علي رغم التحذيرات التي وجهت له قبلاً. وكما حدثنا مؤلفا كتاب "كوبرا 2" فقد كان رامسفيلد علي ولع بتحويل وزارة الدفاع، أكثر مما أبدي من اهتمام بتحويل العراق. ومن الأسف أن حذا الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ومستشارته الأمنية وقتئذ كوندوليزا رايس الحذو ذاته، فكان ما كان! وإذا كانت النظرية الاستراتيجية العسكرية رقم 101 تقول إنه "ليس في الإمكان التشبث بالغاية دون الوسيلة" فما أخطر "الخطأ التكتيكي" الناجم عن تجاهل النظرية وتناسيها!