بقدر ما كان وقع الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها صحيفة دانماركية لنبي الإسلام محمد صلي الله عليه وسلم مرتدياعمامة علي شكل قنبلة تناقلته عنها صحف ومجلات أخري عديدة في أكثر من دولة أوربيةأليما شديد الوطأة علي كل مسلم غيور علي دينه وعقيدته كما كان أليما علي وكل إنسان يجل حقوق ذويه ويرفض الاساءة للمعتقدات والتعدي علي المقدسات علي إعتبار أنها ركن ركين غير منبت الصلة بحقوق الإنسان،بقدر ما يأسف المرء لبعض ردود الفعل التي صدرت من جماعات وشعوب مسلمة لا تعرف سوي العنف والتدمير آليات للتعاطي مع كل ما من شأنه أن يثير حفيظتها أو يستفز مشاعرها،علي شاكلة ما جري في منطقة الأشرفية المسيحية بلبنان والتي شهدت أعمال عنف و تخريب واسعة النطاق قبل أيام علي أيدي متظاهرين همجيين ممن يدعون الغيرة علي الإسلام ونبيه ويسعون بشكل فوضوي وعبثي إلي التعبير عن جام غضبهم وبالغ سخطهم علي من سولت له نفسه الإساءة إلي النبي الخاتم. لقد أوشكت الخروقات والإعتداءات التي صاحبت التظاهرة التي شهدتها منطقة الأشرفية، والتي كان في ثناياها إحراق المحال والكنائس والأبنية،أن تؤجج نيران الفتنة الطائفية في لبنان مجددا بعد أن خبت جذوتها أو كادت، الأمر الذي من شأنه أن يعود بهذا البلد العربي إلي عهود ظلامية يربأ كل عربي ولبناني عن إستحضارها حتي في مخيلته. من هذا المنطلق، تأتي النظرة التأملية النقدية لردود الفعل التي أطلقتها الشعوب الإسلامية علي الإساءة للنبي محمد عبر الصحف،و التي بدأت دانماركية ثم غدت أوربية،فتلك الردود التي بدت إنفعالية متشحة بسواد الاندفاع والتهوربعد أن أحاطت بها أعمال العنف الإحتجاجية، قد تأثرت- لا محالة _ بتصور ذهني نمطي قابع في مخيلة معظم مسلمي هذا الزمان مؤداه أن ثمة تربصا غربيا بالإسلام والمسلمين يعمد القائمون عليه والضالعون فيه إلي النيل من أولئك القوم وذلك الدين،ومن ثم فإن ما أقدمت عليه الصحيفة الدانماركية وما تناقلته عنها نظيراتها الأوربيات من رسومات مسيئة لنبي الإسلام الكريم إنما تأتي في سياق الحرب الغربية الضروس والأبدية ضد الإسلام والمسلمين والتي تعود بجذورها الدينية والحضارية الصريحة إلي قرون مضت ثم ما لبثت أن هدأت جذوتها حتي عادت للاشتعال مجددا علي نحو سياسي أو اقتصادي يفضي بدوره إلي صدامات ثقافية أو عسكرية علي غرار ما يأتي بجلاء في أعقاب التفجيرات التي زلزلت الولاياتالمتحدةالأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 . ولعل ما رسخ من هذا التصور الذهني النمطي، الذي يجد في بعض المحطات الفاصلة من تاريخ ومسيرة العلاقات بين الشرق والغرب شيئا مما يبرره نسبيا، هو تجاسر الصحيفة الدانماركية وكذا نظيراتها الأوربيات علي معاودة نشر ذلك الرسم الكاريكاتوري المثير ، فضلا عن ذلك الإصرار المستفز من جانب القائمين علي أمر تلك الصحف علي المضي قدما في مسلكها غير الأخلاقي،بل وكذا تمسك الحكومة الدانماركية بموقفها الرافض لفكرة تقديم أية إعتذارات رسمية مباشرة وعلنية للمسلمين جراء ما ينشرمن إهانات لنبي الإسلام بزعم إحترامها لحرية التعبير وحرص الدولة هناك علي عدم التدخل في أعمال ونشاط القطاع غير الحكومي، لاسيما ذلك الذي يزاول مهنا من المفترض أن تكون إبداعية وثقافية بالأساس،ومن ثم لا سلطان للدولة عليه ولا رقابة. علاوة علي ذلك وعلي غير ما كان متوقعا،فقد جاء جنوح المزيد من الصحف والمطبوعات الأوربية في دول أوربية أخري نحو تبني ذات التوجه المشين والغير مسؤول بالرغم من أجواء السخط العارم التي تجتاح العالم الإسلامي مصحوبة بإجراءات وردود فعل إنتقامية حادة من جانب شعوب وحكومات إسلامية علي أصعدة إقتصادية وسياسية حيال الدولة الدانماركية ليسكب المزيد من الزيت علي النار المستعرة،وكأن ردود الجهات المناصرة لذلك التطاول الممقوت علي الإسلام ونبيه تريد أن تؤكد للمسلمين أن إستجابتهم الإنفعالية العنيفة قد تمخضت عن ردود فعل سلبية ونتائج عكسية من شأنها أن تزج بالجانبين إلي دائرة مفرغة من الإساءات والإساءات المضادة بوتيرة متسارعة لا هم لها سوي تعزيز فكرة إستهداف الغرب للاسلام والمسلمين. وظني أن ما تدور رحاه هذه الأيام من حروب كلامية ومهاترات بين المسلمين من جهة ومن يظنونهم مسؤولين عن التطاول علي نبيهم من جهة أخري،ليستنكف أن يدنو إلي مستوي المواجهة الحضارية أو الصدام العقائدي بين الإسلام والغرب. وإلا فما قولنا فيما يجري من وقائع مماثلة داخل أروقة الغرب المسيحي وبين ظهرانيه عبرأقلام وفنون درامية وأخري تشكيلية لا تتواني عن الإساءة إلي المسيح والمسيحية، بل وتتطاول عليهما وتنعتهما بما يتأفف منه العاديون من البشر؟! لقد وصل الفجور والتطاول بأمثال هؤلاء أن نالوا من المسيح وأمه ووصموهما بالفسق والفجور وهما منهما براء، كما سولت لهم أنفسهم التشكيك في حقيقة المسيحية وصدق من بشر بها. وحتي الحكومات الغربية التي تأبي تصحيح ما وقع من أخطاء في حق الإسلام والمسلمين أو حمل مقترفيهاعلي التراجع والإعتذار، والتي أباحت البغاء و زواج المثليين من الرجال والنساء،هي نفسها التي أظلت أولئك المعتدين والمتطاولين علي قدسية الأديان وحرمة الأنبياء بمظلة الشرعية القانونية وأسدلت عليهم أستار حرية الرأي والتعبير في مناخ ديمقراطي وبيئة علمانية . ما كان لذلك الكابوس الذي يطبق علي عالمنا هذه الأيام أن يكون صداما بين الحضارات وإنما أراه فهما مبتورا لحرية الرأي والتعبير،وتفسيرا مشوها لما يجب أن تكون عليه علاقة الدين بالدولة، أحسبه إستنجادا بالرمضاء من النار. فالأممالغربية التي عانت طويلا من سطوة المؤسسات الدينية الكنسيةالتي ظلت لقرون تحتكر كل ما يتصل بحياة الإنسان من علم ومعرفة إلي دين وعقيدة وحتي أموره الحياتية، معتبرة نفسها المرجعية الأولي والأخيرة لأي سلوك إنساني قولا كان أو فعلا أو فكرا،ما لبثت أن تحررت من تلك القيود علي خلفية حركة الإصلاح الديني الشهيرة التي قادها كالفن في سويسرا ومارتن لوثر في ألمانيا مع نهاية العصور الوسطي الظلامية في أوروبا حتي أفرطت في مجافاة الأديان وأوغلت في محاصرة دورها في الحياة وكأنها تريد الانتقام لمعاناة عهود مضت أو الحيلولة دون عودة الماضي المؤلم مرة أخري. لقد نفضت الأمم الأوربية عن نفسها غبار التطرف لتكتسي برداء أكثر تطرفا حيال كل ما هو مقدس بوجه عام وما يتصل منه بأمور الدين والعقيدة علي وجه الخصوص حتي أضحت الفتاة الغربية تستثقل الإحتفاظ ببكارتها أو عذريتها وتعتبرها عبئا يستجدي التخلص منه في أقرب فرصة. وأوغل العقل الأوربي في تقدير ذاته وبلغ في الإعلاء من شأنه حد جنون العظمة حتي بات يتخذ منه مرجعية لكل شيء وغدا بمرور الوقت بديلا عن الدين أو المقدسات، فهو المحدد لسلوك البشر والمقرر لما يجب وما لا يجب، وإلي أبعد من ذلك هرب الأوربيون من ماضيهم ذي الخبرات المؤلمة والتجارب المريرة مع الدين والمقدسات، حيث شمروا عن سواعدهم لتأسيس حياة خالية من المقدسات الإلهية أو اللاهوتية،حتي غدا كل شيء مباحا ولا شيء يعلو فوق المصلحة الفردية . من رحم هذا المعترك الفكري والحضاري الموبوء تولد التطرف الغربي، وتحت أستار الحرية والديمقراطية والعلمانية والتحرر من سطوة الأديان والمقدسات ترعرع هذا التطرف وقويت شوكته حتي أصبحنا هذه الأيام نألف الإساءة إلي الأنبياء ونعتاد التشكيك في وجود الله عز وجل أو السخرية من الرسالات السماوية وطقوسها التعبدية. من هنا، أحسب أن وضعا حرجا كهذا الذي نحن بصدده كمسلمين إنما يستجدي التحرك لمواجهته عبر إستراتيجية عقلانية مستنيرة بمقدورها أن تربأ بالرصيد الإنساني الزاخر من التراكم الحضاري والتعايش الإنساني عن الإرتداد إلي الوراء والتخبط في غياهب الجاهلية الأولي،وأن تضيع الفرصة في ذات الوقت علي أعداء الإسلام والمتربصين به للنيل منه عبر استفزاز المتهورين من أتباعه واللعب بمشاعرالمندفعين من معتنقيه . وأحسبني لا أنأي كثيرا عن الصواب حينما أزعم أن مسلمي هذا العصر لهم في أمس الحاجة إلي خطاب إسلامي يسمو بمضمونه عن الزلات ويتجاوز بغاياته الردود الإنفعالية التي يتعالي ضجيجها لكنها سرعان ما تخبو بعد أن تأتي بنتائج عكسية وتزيد النار إضراما. فالمسلمون وسط هذا المنعطف الشديد الوطأة هم في أوج الإحتياج لتوجيه رسالة رصينة ومتماسكة إلي الآخرعن حقيقة الإسلام ونبيه الذي هو أكبر من أية إساءة وأعظم من أي تطاول . إن خطابا إسلاميا حضاريا قوامه التسامح وقبول الآخر ومجادلته بالتي هي أحسن حسبما يأمرنا ربنا وكيفما كان يتعامل نبي الإسلام مع مهاجميه والمسيئين إليه،وتساميا عن الإنزلاق إلي مهاوي الفوضوية والهمجية في التعبير عن الغضب لهما أمثل السبل للتعاطي مع ما يتعرض له الإسلام والمسلمون من إساءات بغير انجرار إلي مقارعة التطرف بالمزيد