الصهيونية وبال على العالم تعاطفت مع المهّجر قسرا من أرضه .. أياً كانت ديانته كمال رحيم في حواره مع محررة محيط محيط - سميرة سليمان هو ضابط شرطة. ترقى في منصبه حتى أصبح مديرا للانتربول ، ثم حصل على درجة الدكتوراه فى القانون العام من كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1986، وعمل أستاذاً للقانونين الدستورى والإدارى بأكاديمية الشرطة بسلطنة عمان. صدرت له عدة مؤلفات في القانون ، ثم تحول إلى الأدب فكتب قصصا قصيرة حتى نصحه النقاد بالتوجه إلى كتابة الرواية ليخرج علينا بروايته الأولى "قلوب منهكة" وأتبعها بجزء ثان بعنوان "أيام الشتات" الرواية الصادرة عن وكالة سفينكس. تحكي الرواية قصة جلال الشاب المسلم الذي توفي أبوه وهو صغير فتربى في كنف أسرة أمه اليهودية بمصر، وعندما رحلت إلى باريس رحل معها، حيث أقاما بحي "بارباس" أحد أحيائها الشعبية الذي يضم عدداً كبيراً من المهاجرين، جزائريين وتوانسة ومغاربة وأفارقة سود، والذين اتسعت علاقته بهم تدريجياً إضافة إلى اليهود المصريين من أصدقاء جده ممن رحلوا تباعاً من مصر متخذين من فرنسا موطناً لهم. الرواية تتحدث عن الشتات المادي والمعنوي الذي عاناه جلال, بطل العمل, وكل من أفراد أسرته, بدرجة أو بأخرى أو بسبب أو لآخر, منذ أن بدت لهم فكرة الرحيل عن مصر. يبدأ جلال في الكد لكسب العيش، فتسوقه الأحداث للارتباط برجل لبناني ويعملان في تجارة الملابس، إلى أن يقع أمران هامان في مصر، هما زيارة الرئيس السادات للقدس وحادثة إغتياله.. وقد كان لهما أثر كبير في إظهار حقيقة نفسه نحو وطنه، والتي بدت في حوارته ونقاشاته الساخنة مع هؤلاء المهاجرين، فضلاً عما لاحظه من أثر هذين الأمرين على الجالية اليهودية التي ظن بعض أفرادها وأولهم جده أن المشكلة حلت، وأنهم عائدون إلى مصر. ولقد أثر موت الجد في جلال تأثيراً كبيراً، فقد اكتشف أنه عاد يتيماً إذ كان هذا الرجل المتسامح بمثابة الأب والأم في آن واحد، بل وبدا له وكأنه كان الملاذ والوطن الذي يحتمي به في غربته، وبعد موته لم يعد له من سبيل إلا الرجوع إلى مصر بعد أعوام طوال قضاها غريباً في فرنسا. كاتب لا تملك وأنت تقرأ له إلا أن تصفق له إعجابا بسلاسته وأسلوبه البديع..روايته أشبه ببحث مصغر أو موسوعة تضم عدة معارف في آن واحد..حاورته شبكة الإعلام العربية "محيط" لتعرف منه لماذا قرر أن يخوض في حقل ألغام شائك ويتحدث عن اليهود إنه د.كمال رُحيم. غلاف الرواية الجديدة محيط: أبحرت ضد التيار في روايتك برسمك شخصية اليهودي الذي يتعاطف معه القارئ وهي شخصية "زكي الأزرع" .. حدّثنا عن بداية الفكرة ودوافعك لكتابتها؟ د.كمال: لا أظن أني أبحرت ضد التيار لأني لا أتحدث عن اليهود أو الصهاينة بشكل عام، ولكني أتحدث عن المصريين ولا تهمني ما هي ديانتهم. أتحدث عن فئة من المصريين خرجوا من مصر كرها وعاشوا في فرنسا. أتحدث عن تجربة إنسانية. ولا أسعى سوى للحقيقة أو ما أظنه حقيقة. قرأت كثيرا ما كتبه إحسان عبد القدوس عن اليهود حيث قرأت " أنا حرة" وقرأت لنعيم تكلا لكن الشخصيات اليهودية في أعمالهم كانت هامشية، حيث جاء الحديث عنها ضمن شخصيات متعددة، لكن لدي كانت الشخصية المصرية اليهودية هي جوهر الرواية. فأنا هدفي أن أخدم قيمة الحق، جربي أن تكوني خادمة لقيمة. ستشعري بلذة شديدة لا تضاهيها لذة. محيط: ألم تخشى أن تتهم بالتطبيع؟ د.كمال: إذا ظن أحد أني أرحب بالتطبيع فهو جاهل، أو بمعنى أدق لم يقرأ الرواية بعناية. لا علاقة لما اكتبه بالتطبيع مطلقا. لابد أن نفرق بين اليهودية والصهيونية. اليهودية دين سماوي وله تراث وأنبياء ورسل، ديانة كانت الوحيدة السائدة في هذا العالم لفترة طويلة. لكن الصهيونية أمر مختلف. ورأيي كان واضح في الرواية بخصوص المستوطنات الإسرائيلية غير المشروعة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة ، والقتل والاغتصاب والعدوان. والرواية لا شأن لها بالتطبيع فأنا أتحدث عن اليهود المصريين الذين لابد أن نصنفهم إلى نوعين الأول كبار السن الذين عاشوا فترة من حياتهم في مصر، ولديهم حنين قوي إليها ويريدون العودة. والثاني صغار السن الذين لا يهمهم مصر ولا تعنيهم. وفي الرواية لا أقصد تقديم نماذج مثالية ولكني أرصد ما يحدث في الواقع. محيط: الهوية قضية تلقي بظلالها الثقيلة وتجثم كهمّ ماثل يطالعنا بين صفحات الرواية .. كيف ترى قضية الهوية؟ د.كمال: الرواية تطرح أسئلة ولا تقدم إجابات. فالجد مثلا زكي الأزرع حصل على الجنسية الفرنسية وأصبح فرنسي والمفروض انه ينادي بفرنسا ويدافع عنها ولكن هذا لا يحدث. الهوية ليست جواز سفر أو ورقة أو جنسية، لكنها هي الجزء الذي أحمله بداخلي ولا يفارقني. وأبرز مثال على ما أقول هو أن الجاليات التي كانت تعيش في مصر من قبل سواء من الأرمن او اليونان لم يكونوا في بداياتهم الأولى مصريين. الهوية كانت همّ في الرواية فعلا لأنها تعبت الكثيريين من أبطال العمل. محيط: بطل الرواية "جلال" حائر دائما بين بلدين وديانتين وجنسيتين لماذا..ألم تكفي حيرة واحدة فقط؟ د.كمال: ليست مقصودة. وضعه هكذا..فهو حائر بين هويتين ومكانين وديانتين، لم يكن يعرف أن وطنه الحقيقي هو جده. أدرك ذلك بموت الجد الأمر الذي جعله يود العودة إلى مصر بأسرع ما يمكنه ذلك. محيط: هل تقصد من الرواية أن نكون أكثر تسامحا مع الآخر وتقصد به اليهود هنا؟ د.كمال: من هو الآخر؟ الآخر هنا متعدد. ما أجهل التعميم ! فعلينا أن نحدد الآخر بدقة، فإذا كان الآخر هم المصريون اليهود الذين سافروا كرها لبلاد أخرى وتركوا مصر كرها، بالتأكيد سأتعاطف معهم وأتسامح مئة بالمئة. أما إذا كان الآخر هو الصهاينة فلا أتسامح معهم إطلاقا. أنا أتعاطف مع الآخر وأتسامح معه إذا رأيت أنه يستحق. وهذا الأمر يستنتجه القارئ من الرواية. الرواية رسمت صورة أسرة يهودية مهجرة محيط: أنت ضد الصور النمطية..أليس صحيحا؟ د.كمال: قد يكون بحثي عن الحقيقة هو السبب الذي تطلب مني أن لا أتحدث عن شخصية نمطية. وأرسخ للصورة المعهودة عن اليهود. فالرواية هي التي كتبت نفسها. لم أرسم لها خط محدد سلفا. ولم أحرك الشخصية كما أريد بل جعلت الشخصيات تتنفس على الورق. أنا نفسي كنت أندهش من أني أقول هذا الكلام. بدون إعداد مسبق. الأمر به عفوية وتلقائية فما يخرج من القلب يصل إلى القلب دون حواجز. محيط: رسمت شخصيات الرواية بعمق شديد ونفذت إلى مكنوناتها كما تكشف الرواية عن تحليل قوي للنفس البشرية..هل هذا جرّاء دراسة لعلم النفس؟ د. كمال: أنا معني بعلم النفس ولكني لم أدرسه. أنا أهوى تحليل الكلام واستنباط ما ورائه دائما. ولذلك تشريح الشخصية مهم لي. فشخصية الشيخ منجي في الرواية الذي يعد ممثلا للجاليات العربية ليس من الممكن أن أعرضه بشكل مسطح وإلا كنت ظالما، ولذلك فكان مهما لدي أن أهتم بما وراء الفعل وليس الفعل نفسه. محيط: في رأيك..عن ماذا يبحث أبطال روايتك؟ د.كمال: يبحثون عن الاستقرار النفسي. هم منهكون ومتألمون. جلال يبحث عن الاستقرار النفسي بعد اضطراب لم يسع إليه وخارج عن إرادته كأنه فخ نُصب له، وهذا هو الرابط بين الشخصيات الأساسية بالرواية. محيط: كشفت الرواية عن إلمام تام باللهجات العربية المختلفة كالتونسية واللبنانية بالإضافة إلى إلمامك بالثقافة الفرنسية والعادات والتقاليد اليهودية..كيف اكتسبت هذا؟ د. كمال: ساعدني في وصف الأماكن والشوارع والأوبرا الفرنسية أني عشت هناك لفترة، أما عن الالمام باللهجات فرأيت أن الشخصية لن تعبر عن نفسها إلا إذا تحدثت بلغتها كيف يتكلم الشيخ منجي التونسي بلغة مصرية أو أبو الشوارب اللبناني بالمصرية؟. أعددت الحوار بالفصحى المصرية. وجعلت أصدقاء لي من تونس ولبنان يعدوها لي بلغتهم ودرست كثيرا العادات الخاصة بهم حتى ظهر ذلك في طقوس وفاة ابنة الشيخ منجي التونسية. وعادتهم في الزواج ووظفتها لصالح العمل. أما عن العادات اليهودية فهذا بالدراسة والبحث، فالشعر هو خواطر والقصة القصيرة مواقف أو ومضات ليست في حاجة إلى إعداد مسبق. أما الرواية فهي عمل متكامل يأخذ منك زمن ومكان وشخصيات والزمن قد يمتد لسنوات والأماكن تتعدد والشخصيات تتطور. ولذلك أعددت الرواية في ثلاث سنوات. يهود محيط: حين كتبت "قلوب منهكة" هل كنت تعرف أن لها جزءا ثان؟ د.كمال: لا إطلاقا. بعد نهاية الرواية وجدت القراء يسألونني ماذا بعد؟ هل يعود جلال إلى مصر؟ ومن ثم فكرت في عمل جزء ثان لها. لكن في بدايتي لكتابتها لم أتوقع جزء ثان للرواية. وهذا حدث معي أيضا في هذه الرواية ولذلك بدأت في كتابة الجزء الثالث منها بأحداث وتفاصيل جديدة. وهي ثلاثية أشبه بمشروع بحثي أعيشها بكل كياني. محيط: برأيك..هل ترى أن المجتمع المصري تبدلت به قيم التسامح الديني؟ د.كمال: تبدلت به قيمة التسامح بروافدها، سواء الديني أو بيننا وبين بعضنا البعض. في الماضي كنا نردد كثيرا جملة "الله يسامحك" الآن لا يحدث هذا. هذا التبدل الذي حدث ليس تحول أصاب الأشخاص ليصبحوا أكثر شراسة بل نظرا للظروف المحيطة. فالأزمة الاقتصادية طاحنة، بالإضافة إلى الدور الضعيف للتوعية في مقابل الدور القوي والشرس لدعاوى التعصب. هل تعلمي أن هناك في إسرائيل مدافعين عن حقوق الفلسطينيين. وهناك في أمريكا من اليهود من يتظاهر ضد ما يحدث في فلسطين. الصهيونية هي فكرة سياسية لا علاقة لها بالدين. تيودور هرتزل وضعها لأنه وجد أن اليهود محتقرين في العالم. كانت فكرة سياسية وبال على العالم بأكمله. محيط: الموت له جلال وهيبة فهو لغة عالمية ، وأردت التأكيد على ذلك بالرواية .. لم ؟ د.كمال: الموت يذيب كل الفوارق، ويذكرنا أن ما بيننا تفاهات. الموت أقوى من أي شئ. هو الحقيقة التي ينتظرها الإنسان فالدنيا هي ميلاد وموت وما بينهما حياة. لحظة الميلاد نحن لا نتذكرها أما الموت فنحن ننتظره دائما في أي لحظة. فالموت علاج سحري وحقيقي لكثير من المشكلات. كما أنه علاج للحالات الحرجة. وقد قمت بتجزئته على عدة فصول بشكل مؤثر. محيط: هل كان جلال بطل الرواية يعبر عنك حين رفض زيارة السادات؟ د. كمال: لعلّه يشبهني بالفعل. لا اعرف على وجه الدقة فالرواية ليست سيرة ذاتية. ولكنها تحمل جزءا من الإنسان قد يكون جانب في كل شخصية هناك الواقعي والخيالي والذاتي ولكن كيف نفصلهم مثل كوكتيل هل يمكن فصله؟ بالطبع لا. محيط: كيف نحل إشكالية العداء بين الديانات ؟ د.كمال: لابد أن نلتقي ومن ثم علينا التركيز على ما نتفق عليه أولا وننحي الباقي جانبا. اليهودي هذا يعبد رب واحد مثلنا ومؤمن بالأنبياء والله يعلم ما في الصدور ويطلع عليها. والجد لا تشغله هذه المسألة المهم أن نصل إلى الله. والله سبحانه وتعالى هو الأعلم بقلوبنا. ولذلك جاءت عبارته " كل من له نبي يصلي عليه " معبرة. محيط: كانت آخر كلمات الجد بالرواية.."إلى أن نلتقي يا ولدي في عالم أكثر رحمة من عالمنا الذي كنا نعيش فيه" هل ظُلم الجد في حياته؟ د.كمال: نعم ظلم جدا. فلتتخيلي لو انك طردت من بيتك الذي ارتبطتي به. ألن تشعري بالغبن؟ بالتأكيد لأنه انتقل إلى حياة بعيدة عنه تماما، وكان لديه أمل في العودة إلى بلده مصر، فكم عانى هذا الجد مثل شجرة اقتلعوها من جذورها هل يمكن غرسها في مكان آخر؟. هدم المنازل فوق أصحابها في فلسطين محيط: يقول جلال في الرواية "ما عاد يجدي الكلام" هل ترى أن هذه العبارة تنطبق الآن على حال القضية الفلسطينية؟ د.كمال: في رأيي..العرب هم السبب عدم حل القضية الفلسطينية وليس اليهود أو الأمريكان. فلو كان العرب أصحاب موقف واحد شديد يصر على حقه ولا يتنازل عنه في السلم والحرب لحلت القضية الفلسطينية ولما تلاعبت بهم اسرائيل كما يحدث الآن. محيط: جاء في الرواية أن جلال ووالدته يكمل كل منهما الآخر ولكن هل من الممكن أن تتقارب المسافات إلى هذا الحد بالرغم من اختلاف الديانات؟ د.كمال: والدته تشعر أنه جزء منها رغم أنه مسلم، وهو كذلك هي تراه يهوديا وهو يراها مسلمة. هذا يعني أن الإنسانية تعلو على الدين، لأن الإنسان به نفحة من روح الله سبحانه وتعالى. محيط: أتحمل مكنونات أنفسنا أشياء لا نعلم بها.. أشياء لا تفصح عن وجودها إلا عندما نستثار..كما جاء في الرواية؟ د.كمال: أرى أن بداخلنا ثلاث مناطق الأولى هي العقل الواعي الذي يحكمنا ويضبط تصرفاتنا. الثانية مخزون ذكريات نحمله بداخلنا وهناك منطقة ثالثة برأيي لا نعلم عنها شئ إلا عندما نستثار. لو فكر المجرم حين يمسك سكين ليقتل في الجزاء لن يقتل، هناك قوى كمنة بداخلنا لا نعرف قدرها ولا ماذا يمكن أن تفعل بنا، فنحن لا نستدعيها ولكنها تخرج دون تحكم منا حين نستثار أو يدفعنا الموقف لذلك. اقرأ أيضا "أيام الشتات" .. رواية الغربة النفسية وتنازع الهويات