في وداع عاشق الريف صلاح طاهر.. معجزة الفن حين تقهر المرض!!
فنان تشكيلي، من أبرز فناني الجيل الثاني بعد جيل الرواد، تميز بمقدرة فائقة, قضى أكثر من خمسة وسبعين عاما يمارس التصوير حتى بلغ عدد لوحاته 18ألف لوحة ,ذلك هو الفنان الكبير صلاح طاهر بطل مصر في الملاكمة لمدة سبع سنوات, الذي رحل عن عالمنا منذ أيام قليلة لكنه مازال وسيظل موجودا بيننا بأعماله . صلاح طاهر محيط رهام محمود ولد صلاح الدين طاهر في مدينة القاهرة في 12 مايو سنة 1911 في حي العباسية, وبعد أن أنهى دراسته الثانوية التحق بمدرسة الفنون الجميلة العليا عام 1929, تتلمذ على يد الفنان الرائد أحمد صبري, وسافر لدراسة الفن في أوروبا عام 1925. تخرج من الجامعة وكان الأول على دفعته عام 1934 وفي عام 1935أقام معرضاً فنياً في مدينة المنيا حيث كان يعمل مدرساً للرسم بمدرسة المنيا الابتدائية ثم انتقل للإسكندرية وعمل مدرساً ثانوياً وأقام معرضه الثاني عام 1939, وفي 1941 انتقل إلى القاهرة ليعمل مدرساً للرسم بمدرسة فاروق الأول, ثم عين مدرساً للتصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة, واستاذا للدراسات العليا عام 1944 . وفي 1954 تولي منصب مدير متحف الفن الحديث, كما عين مديرا لمكتب وزير الثقافة "كان وقتها ثروت عكاشة", ثم عين مديراً للمتاحف الفنية بوزارة الثقافة, وفي عام 1961أصبح مديراً لإدارة الفنون الجميلة بوزارة الثقافة, وانتقل بعد ذلك لتولى إدارة دار الأوبرا المصرية منذ عام 1962 حتى عام 1966, عين مستشارا فنيا لمؤسسة الأهرام الصحفية وظل في منصبه هذا حتى وفاته, ومن أهم انجازاته بالصحيفة تكوين أول متحف لمؤسسة أهلية بالأهرام. ساهم صلاح طاهر بنشر الثقافة الفنية من خلال عمله كأستاذ بمعهد السينما من1961حتى 1965 حيث شملت محاضراته موضوعات ثقافية عامة " كفلسفة الفن, وسيكولوجية الإبداع, جنازة صلاح طاهر والتذوق الفني" , انتخب رئيسا لجمعية محبي الفنون الجميلة عام 1984 التي ظل يرئسها حتى الآن, اعتمدته الإزاعة ضمن المتحدثين المتميزين الذين يتقاضون جنيها واحدا عن كل دقيقة ازاعة, وفي 1983 عين مقررا لشعبة الفنون التشكيلية في المجالس القومية المتخصصة. كان معروفا عن الفنان صلاح طاهر ممارسة اليوجا طوال خمسين عاما, وقد اقام أكثر من ثمانين معرضاً محلياً وعالمياً منذ عام1932, أشترك في حوالي 67 معرضاً جماعيا, وتعددت الجوائز التي نالها وكان أهمها جائزة جوجنهاين العالمية عام 1961, وجائزة الدولة التقديرية عام1974 مع وسام الاستحقاق, كما منح وسام الجمهورية من الطبقة الثالثة عام 1975، وآخرها جائزة مبارك للفنون التي حصل عليها عام 1988. يعد صلاح طاهر أول فنان تشكيلي تقام له جمعية في حياته وهي جمعية محبي فن صلاح طاهر التي أنشأها المهندس ياسر سيف عام 1998, لتكون ملتقى للمحبين لفن صلاح طاهر والعمل على تكريمه وتخليده ، إلى جانب نشر الفن التشكيلي والوعي الفني ، وهي أول جمعية توثق الأعمال الفنية الخاصة به . نال صلاح طاهر شهرة واسعة في تصوير المشاهد الريفية منذ تخرجه حتى عام 1956, حيث برع في تصوير المناظر الريفية والفلاحة المصرية بثيابها الساخنة الألوان والشال والمنديل الأحمر, وهو تميز بإظهار جماليات الطبيعة, وعندما تحول إلى الإتجاه التجريدي بعد رحلة قضاها في أمريكا اصبح من أعلام هذا الإتجاة, وقد ظهرت الفلاحة أيضا في لوحاته التجريدية مستلهمة من الريف بثيابها كتل مموجة موحية بشكل الفتاة, دون أي تفاصيل أو خطوط محددة, وفي مرحلة هامة في حياته الفنية اتجه إلى الحروفية برؤيته الخاصة, ورسم أكثر من 500 لوحة مكونة من حرفين فقط وهما الهاء والواو يرمزا إلى لفظ الجلالة "وهو الله". توفي صلاح طاهر في 6 فبراير 2007, وشيع جثمانه من مسجد الحصري بمدينة6 أكتوبر, حيث حضر التشييع عدد كبير من رجال الدولة البارزين تقدمهم اللواء عاطف مطر مندوبا عن الرئيس حسني مبارك, لوحة لصلاح طاهر والفنان فاروق حسني وزير الثقافة, ومحسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية, وصلاح المليجي رئيس الإدارة المركزية للمتاحف والمعارض, والفنان سمير الجندي, واتجه المشيعون بجثمان الراحل إلي مدافن6 أكتوبر, وقد أخذ أبنة الفنان أيمن صلاح طاهر عزاءه بمسجد عمر مكرم. صرح الفنان فاروق حسني وزير الثقافة عقب وفاة صلاح طاهر بأنه سيتم إطلاق اسم الراحل علي قاعة الفنون بالأوبرا تخليدا لاسمه وإبداعاته الفنية باعتباره قيمة مؤثرة فنيا, وأثري العمل الفني لفترة طويلة من العمر, كما كان أيضا عضوا في المجلس الأعلي للثقافة, كما قال الوزير إن صلاح طاهر علامة مميزة في تاريخ الفن التشكيلي المصري المعاصر, اسلوبه واضح وقد شق له طريقا خاصا به, وكانت ثقافته ليست تشكيلية فقط بل موسيقية وتاريخية ورياضية كاملة فهو بطلا في الملاكمة. واضاف هو صلاح طاهر بكل المعايير أحد الرموز التي سوف تبقى مثلما بقي محمود مختار ومحمود سعيد وراغب عياد . أما مصطفى حسين نقيب التشكيليين يقول: إن حصوله في سن مبكرة على جائزة جوجنهاين هو أكبر دليل على علاميته في الفن, وهو من أعظم الرواد في الجيل الثاني ومن أكبر رواد التجريدية في مصر, حيث اقتحمها بجرأة وشجاعة بعد أن كان أكاديميا بحتا . كما قال الفنان محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية: انني قابلت الفنان صلاح طاهر منذ حوالي خمسة أشهر فقط في منزله بالجيزة, وقد رافقني في تلك الزيارة الزملاء وأعضاء اللجنة الدائمة لمتحف الفن المصري الحديث "مصطفى الرزاز, حلمي التوني, أحمد فؤاد سليم" يومها حملنا له معنى الفرشاة الذهبية رمز الوفاء والعطاء في مسيرة فناني مصر, والتي اختارتها اللجنة لتمنح برموزها في سماء الابداع الفني . واضاف: لم يكن يومها فناننا الكبير هزمه المرض, فهو الملاكم الصمود وقبيل الفن العتيد, وتحدث صلاح طاهر معنا عن ذكرياته مع مشاهير جيله "أم كلثوم, توفيق الحكيم, العقاد", كما اعلن رئيس القطاع لقد اخترنا صلاح طاهر رئيسا شرفيا لبينالي القاهرة الدولي العاشر . وقد قال مكرم حنين المستشار الفني للأهرام: الفنان صلاح طاهر كان مقبل على الحياة.. ضحوكا.. بشوشا واسع المعرفة في ايامه الأخيرة كان ينتج أعمالا ويمشي في صحوة وحيوية, فالعمل يكسبه طاقة إلهية تدفعه للحياة والاندماج في العالم الفني كما قال صلاح طاهر "الرسم يجعل الإنسان يتخطى المرض". واضاف حنين: انا عرفته ذات مرة في كتالوج معرض له سنة 2001 فقلت اذا اصغينا إلى لوحاته وموسيقاه الفنية فنظرنا بين الخطوط والألوان فأننا سنجد دائما طلع المراة, وان استدارة القباب وترانيم الكنائس وشموخ المآذن يجمع بينهما معزوفة لونية وفي صوفي لمحب إيقاع الوطن هذا هو صلاح طاهر . من اعمال صلاح طاهر اما الناقد الكبير كمال الجويلي فقد افصح عن اسراره مع كمال طاهر حيث قال : كنت من أشد المعجبين بلوحات الفنان صلاح طاهر عن الريف وجماليات الألوان التي كان يعبر بهما عن الفلاحة المصرية وغنائية الألوان في ثيابها وحركتها المتناغمة وهي تعمل وتحمل جرة المياه فوق رأسها ما كان يذكرني بلون من التؤمة بينه وبين الفنان الخالد محمود مختار وهو ينحت تكوينات الفلاحة المصرية في جميع حركاتها الإنسيابية والتي تذكر براقصات الباليه. ثم عقب ذلك الإعجاب الشديد فوجئت بمعرض للفنان طاهر عقب عودته من أمريكا سنة 1956 وقد تغير تماما وتحول إلى التجريد, وكنت ذلك الوقت شابا ناقدا بصحيفة الأهرام حين هاجمت هذا التغير في اعماله وابديت دهشة ان يحدث لفنان هذا التحول السريع, وبلغ الفنان ما كتبت, فأقسم ان يحطم رأسي, ولأني كنت أعلم أنه بطل في الملاكمة هربت منه خمسة سنوات, ثم فوجئت ذات يوم وانا جالس في احد المسارح اشاهد عرضا لفرقة رضا الإستعراضية أن رضا وقف امامي وتحدث إلى شخصا يجلس خلفي مباشرا فإذا بهذا الشخص يضع يده على كتفي دون أن أراه يقول لرضا إذا احضرت معك هذا الرجل ستجد التصميم الفني للعرض القادم جاهزا عندي فالتفت نحوه وإذا به الفنان صلاح طاهر وقفت وتعانقنا سويا وظللنا متقاربين إلى أقصى الحدود حتى وفاته, وكنت أحد الحضور في عيد ميلاده الأخير الخامس والتسعين مع أسرته وأصدقائه المقربين حيث طلب مني قبل ان نطفيء الشموع ان أقص على الحاضرين قصة العلقة التي لم أحصل عليها . ومنذ عام فقط وفي جلسة فنية بيني وبين الناقد الكبير مختار العطار والفنان صلاح طاهر ونجله أيمن الفنان الفوتوغرافي, طلب طاهر احضار لوحة قد رسمها ووجدناها لفلاحة مصرية وقال لنا ما رأيكم فدهشنا أنه يعود إلى أكاديميته, واحسست أن الفنان الكبير يقول لي اني لم أتخلى عن القيم الجمالية الكلاسيكية التي كنت تعجب بها في الماضي جنبا إلى جنب مع أعمالي التجريدية التي أثرات أعجابك مؤخرا أيضا . ثم أفصح ولاول مرة بعد طول هذه السنين عن كيفية تحوله إلى التجريد فقال: في يوم عودتي من زيارة أمريكا وفي جيبي تذكرة الطائرة, انتظرني صديقا ليصحبني لمعرض هام ففوجئت بمعرض فنان تجريدي كبير ووقفت أتأمل لوحاته واستغرقني هذا واحسست بأن هذا الفنان يذكرني باعمال عصر النهضة بالرغم من أنه تجريدي بحت لكنه يطفي على اعماله طاقة إبداعية مشعة تحرك الخيال وتثير التأمل الخلاق, ووجدت نفسي اتردد على على هذا المعرض رأربعة أيام متواصلة بعد أن أجلت سفري للعودة إلى الوطن, وحين عدت ظللت أفكر في هذا الإتجاه ولم أتمالك نفسي من اقتحامه . وهنا أدرك كمال الجويلي بعد طول هذه السنين أن تغير اتجاه صلاح طاهر كان من بدايته مبني على اساس من القناعة الكاملة .