في عام 73 كان عمري 8 سنوات، وحين قامت حرب السادس من أكتوبر– العاشر من رمضان، لم أكن أعي من دلائلها غير الخوف على شقيقي الذي قالت لي أمي أنه على الجبهة يحارب إسرائيل التي تريد أن تقتلنا. في هذا الوقت كنا لا نزال نعيش أياماً قاسية بعد وفاة والدي الذي تركنا صغاراً أنا وإخوتي، أكبرُ مَن فينا هو مَن ذهب لأداء الواجب الوطني.
منذ اللحظات الأولى للإعلان عن قيام القوات المسلحة المصرية بعبور قناة السويس واقتحام خط بارليف لم تنقطع دموع أمي المسكينة، فالطائرات تحلق في السماء والراديو يذيع أسماء الشهداء، وأنا وإخوتي وعدد من أقاربنا نجلس في نصف دائرة نُصغي الآذان لصوت المذيع. وبإحساسي الصغير كنت أتبين ما يحدث من خلال ردود الأفعال البادية على الوجوه التي تكسوها فرحة الانتصار وتمتزج بها مشاعر الخوف من عواقب ما يمكن أن يحدث من الجانب الإسرائيلي.. الأحاديث التي يتبادلها الكبار غامضة ويصعب فهمها على طفل في سن الثامنة؛ لذا كنت أبكي حين تبكي أمي وأفرح حين تفرح، فهي إن سمعت كلاماً عن قرب نهاية الحرب وعودة قواتنا من الجبهة ترتسم الابتسامةُ على وجهها وتبدو في غاية السعادة، خاصة أنها لم تسمع بعد اسم أخي بين أسماء الشهداء.
أما إذا جاء فاعل خير وأخبرها بتزايد عدد المصابين والجرحى وأفتى بعدم قدرة سيارات الإسعاف على نقل المصابين بإصابات خطيرة نتيجة ضعف الإمكانيات ينقلب حالها ونقضي ليلة سوداء حالكة السواد إلى أن يأتيها شخص آخر بنبأ جديد يطمئنها ويهون عليها.
وإزاء هذا الاضطراب والتباين في الأخبار كان خالي الأخ الوحيد الشقيق لأمي يقوم بدور المحلل السياسي والعسكري محاولاً التخفيف عنها وعنا بأخبار وأقوال غالباً ما تكون من صنعه، ولكن أمي بفطرتها كانت تميز بين الصدق والكذب فيما يأتي به خالي العزيز. ولكي تجنبنا الرعب كانت تتظاهر بالاقتناع وعندما ينصرف شقيقها تذهب لتتقصى بقية الأخبار من مصادرها المختلفة، أعمامي وأولاد أعمامي وإخوتها الآخرون، حيث لأمي إحدى عشر أخاً وثلاثة عشر أختاً من أمها وزوجات أبيها الأربعة، فجدي قد تزوج أربعة غير أمها، بعد وفاة إحدي زوجاته.
ولحُسن حظ أمي أن جدتي التي هي والدتها كانت آخر من تزوج جدي .. فتاة إسكندرانية جميلة كانت مسك الختام.. هكذا قالت لي رحمة الله عليها.
من هنا كان لأمي الحبيبة مصادر إطلاع كثيرة يمكن من خلالها الحصول على الخبر اليقين من وجهة نظرها فيما يتعلق بشأن الحرب وعدد المصابين.. طالت المدة وتم وقف إطلاق النار وهدأت الجبهة وعاد الكثيرون من الضباط والجنود إلا أخي لم يعد هو وخمسة من أقاربنا، حيث تردد أنهم وقعوا أسرى في يد العدو.
جاء الخبر كالصاعقة على رأس أمي وأُعلنت حالة الحداد الرسمي في بيتنا والبيوت المجاورة وأصبح منزلنا مصب لكل الزوار والوافدين من العائلة، وبات الهلع عنوان كل شيء، فما إن سمعنا صوت سيارة نهرع إلى الخارج ظانين أنها واحدة من السيارات "الميري" جاءت تحمل إلينا نبأً ساراً أو ضاراً. وظللنا على هذه الحال أكثر من ثلاثة أشهر إلى أن بدأت الأفواج الجديدة من المقاتلين في العودة فتبدل حديث الأسر بحديث الحصار وعرفت وأنا طفل صغير أن الحصار أهون بكثير من الأسر لأن الأسر معناه- حسبما فهمت وقتها- أن روح أخي الأكبر وأولاد أعمامي وأخوالي وأقاربي في يد الصهاينة الذين لا يرحمون، فبمجرد ضغطة واحدة على زناد البندقية يصبحون في خبر كان ويتحولون من محاربين أُسُود إلى شهداء.
أما الحصار فهو مرهون بوقت معين ويمكن التغلب عليه بعدة وسائل تجنباً للموت، سمعت من بينها امتصاص الزلط بوضعه تحت اللسان للتخفيف من الإحساس الشديد بالعطش، كما سمعت أيضاً كلاماً ما زال محفوراً في ذاكرتي إلى الآن عن الجنود الذين يأكلون الحشرات والحيوانات البرية الضالة.. المهم أن خلاصة القول كانت تترجم الأمل في بقاء المحاصرين على قيد الحياة وإمكانية عودتهم سالمين ولو طال الأمد.
وقد يبدو الفارق الآن للقارئ العزيز طفيفاً، حيث الاثنان ، الأسير والمحاصر في حكم الموتى، ولكن هذا بعد مرور 38 سنة، أما في وقت الأزمة فالفارق كان يعني المقارنة بين الحياة والموت.
مضت الأيام والشهور ثقيلة مريرة تحلت خلالها أمي بالصبر ولهجت بالدعاء ليل نهار إلى الله طالبة منه فك الحصار وعودة فلذة كبدها إلى وطنه وبيته ليهل عليها هلته المعتادة فتحتضنه وتقبله في جبهته وأكتافه. وبينما هي تسبح في خيالها وترسم صوراً مختلفة لابنها تسمع الزغاريد تنطلق من الشرفات وتخترق الجدران الصامتة فتهرول إلى الشارع وقلبها يحدّثها بأن العائد هذه المرة هو الابن الذي انتظرته طويلاً فتجهش بالبكاء وتبحث بعينيها عن فتاها البطل، وقبل أن ينطق لسانها بالسؤال عنه يُقبل عليها وينحني على يدها فتسقط مغشيا عليها من الفرحة.
تلك اللحظات لا أنساها أبداً وأنقلها بدوري لمن لم يعيشوا أيام الحرب من الأجيال الجديدة، وينظرون الآن إلى الانتصار باعتباره حدثاً تاريخياً قديماً.
أقول لهم إن دقيقة واحدة من الأيام المجيدة تساوي العمر كله.