اليوم.. مجلس النواب يستأنف عقد جلسته العامة    بعد تخطي عيار 21 قيمة 3150 جنيه.. سعر الذهب اليوم 20 مايو 2024 ببداية التعاملات    الاثنين 20 مايو 2024.. البنك المركزي يطرح سندات خزانة ب4 مليارات جنيه    الأمم المتحدة تحتفي باليوم العالمي للنحل لإذكاء الوعي    مصر تنعى رئيس إيران إبراهيم رئيسي (نص البيان)    بدأت بسبب مؤتمر صحفي واستمرت إلى ملف الأسرى.. أبرز الخلافات بين جانتس ونتنياهو؟    السوداني يؤكد تضامن العراق مع إيران بوفاة رئيسها    السيسي: مصر تتضامن مع القيادة والشعب الإيراني في مصابهم الجلل    تداول امتحان العلوم للشهادة الإعدادية في القاهرة.. والتعليم ترد    اليوم.. محاكمة طبيب نساء بتهمة إجراء عمليات إجهاض داخل عيادته    اليوم.. الذكرى الثالثة على رحيل صانع البهجة سمير غانم    دعاء النبي للتخفيف من الحرارة المرتفعة    الرعاية الصحية تعلن حصول مستشفى الرمد ببورسعيد على الاعتراف الدولي من شبكة المستشفيات العالمية الخضراء    زد يسعى لمواصلة صحوته أمام الاتحاد السكندري بالدوري اليوم    باكستان تعلن يوما للحداد على الرئيس الإيرانى ووزير خارجيته عقب تحطم المروحية    التأخيرات المتوقعة اليوم فى حركة قطارات السكة الحديد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 20-5-2024    مجلس الوزراء الإيرانى: سيتم إدارة شئون البلاد بالشكل الأمثل دون أدنى خلل عقب مصرع إبراهيم رئيسي    تفاصيل الحالة المرورية اليوم الإثنين 20 مايو 2024    الشعباني يلوم الحظ والتحكيم على خسارة الكونفيدرالية    استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري قبل اجتماع البنك المركزي    استقرار أسعار الفراخ عند 82 جنيها فى المزرعة .. اعرف التفاصيل    السيطرة على حريق بمنفذ لبيع اللحوم فى الدقهلية    اليوم.. أولى جلسات استئناف المتسبب في وفاة الفنان أشرف عبدالغفور    اليوم.. محاكمة 13 متهمًا بتهمة قتل شقيقين واستعراض القوة ببولاق الدكرور    جوميز: هذا هو سر الفوز بالكونفدرالية.. ومباراة الأهلي والترجي لا تشغلني    رحل مع رئيسي.. من هو عبداللهيان عميد الدبلوماسية الإيرانية؟    نجمات العالم في حفل غداء Kering Women in Motion بمهرجان كان (فيديو)    عمر كمال الشناوي: مقارنتي بجدي «ظالمة»    تسنيم: قرارات جديدة لتسريع البحث عن مروحية رئيسي بعد بيانات وصور وفيديوهات الطائرة التركية    أول صورة لحطام مروحية الرئيس الإيراني    ما حكم سرقة الأفكار والإبداع؟.. «الإفتاء» تجيب    فلسطين.. شهداء وحرجى في سلسلة غارات إسرائيلية على قطاع غزة    فاروق جعفر: نثق في فوز الأهلي بدوري أبطال إفريقيا    معوض: نتيجة الذهاب سبب تتويج الزمالك بالكونفدرالية    خلال أيام.. موعد إعلان نتيجة الصف السادس الابتدائي الترم الثاني (الرابط والخطوات)    محمد عادل إمام يروج لفيلم «اللعب مع العيال»    سمير صبري ل قصواء الخلالي: مصر أنفقت 10 تريليونات جنيه على البنية التحتية منذ 2014    الأميرة رشا يسري ل«بين السطور»: دور مصر بشأن السلام في المنطقة يثمنه العالم    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    اتحاد الصناعات: وثيقة سياسة الملكية ستحول الدولة من مشغل ومنافس إلى منظم ومراقب للاقتصاد    استعدادات عيد الأضحى في قطر 2024: تواريخ الإجازة وتقاليد الاحتفال    مصدر أمني يكشف حقيقة حدوث سرقات بالمطارات المصرية    الإعلامية ريهام عياد تعلن طلاقها    قبل إغلاقها.. منح دراسية في الخارج للطلاب المصريين في اليابان وألمانيا 2024    ملف يلا كورة.. الكونفدرالية زملكاوية    الشماريخ تعرض 6 لاعبين بالزمالك للمساءلة القانونية عقب نهائي الكونفدرالية    أول رد رسمي من الزمالك على التهنئة المقدمة من الأهلي    استشهاد رائد الحوسبة العربية الحاج "صادق الشرقاوي "بمعتقله نتيجة القتل الطبي    تعرف على أهمية تناول الكالسيوم وفوائدة للصحة العامة    كلية التربية النوعية بطنطا تختتم فعاليات مشروعات التخرج للطلاب    الصحة: طبيب الأسرة ركيزة أساسية في نظام الرعاية الصحية الأولية    نقيب الأطباء: قانون إدارة المنشآت الصحية يتيح الاستغناء عن 75% من العاملين    حتى يكون لها ظهير صناعي.. "تعليم النواب" توصي بعدم إنشاء أي جامعات تكنولوجية جديدة    عالم بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة    أيمن محسب: قانون إدارة المنشآت الصحية لن يمس حقوق منتفعى التأمين الصحى الشامل    تقديم الخدمات الطبية ل1528مواطناً بقافلة مجانية بقلين فى كفر الشيخ    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللسان الناجي
نشر في أخبار الأدب يوم 29 - 01 - 2012

هنا فصول من السيرة الذاتية للكاتب الألماني الشهير إلياس كانيتي (1905- 1994) والتي صدرت بالألمانية في ثلاثة مجلدات. ويعتبر كانيتي من أهم الكتاب الذين تنوعت كتاباتهم ما بين الشعر والمسرح والرواية والنقد السياسي والأدبي. حتي أنه حصل علي جائزة نوبل وأشارت لجنة الجائزة في حيثياتها إلي كتابه الهام " الجماهير والسلطة " الذي لم يترجم بعد إلي العربية..بينما ترجم له ثلاثة كتب أخري " شذرات" ، " أصوات مراكش"، " كافكا في المحاكمة الأخري".
أولي ذكرياتي
أولي ذكرياتي غارقة في الأحمر. أخرجُ من أحد الأبواب علي ذراع فتاة: الأرضية أمامي حمراء وعلي الجهة اليسري ثمة درج هابط وهو بدوره أحمر أيضا. في الجهة المقابلة ينفتح باب ويخرج منه رجل باسم، يتوجه إليّ بود. يقترب مني ويقف ويقول لي: "أرني لسانك!". أُخرج لساني، ثم يضع هو يده في جيبه ويخرج مدية جيب ويفتحها، ويمرر حدها بالقرب جدا من لساني ويقول: "الآن نقطع له لسانه." لا أجرؤ علي سحب لساني، فيما يقترب هو مني أكثر ويكون علي وشك أن يمس لساني بحد المدية. في آخر لحظة يسحب المدية ويقول: "ليس اليوم، سنفعل ذلك غدا". ثم يغلق المدية ويضعها في جيبه.
كل يوم نخرج من الباب إلي الدهليز الأحمر وينفتح الباب ويظهر الرجل الباسم. أعرف ما سيقوله وانتظر أمره بإخراج لساني. أعرف أنه سيقطعه ويزداد خوفي في كل مرة. يبدأ اليوم بهذا الأمر ويتكرر مرارا.
احتفظت بسر هذه الذكري لنفسي وبعد سنوات عديدة سألت أمي عن ذلك. من حديثي عن اللون الأحمر المنتشر في أرجاء المكان تعرفت أمي علي بنسيون في كارلسباد قضينا فيه مع والدي صيف عام 1907 ولرعايتي كطفل عمره سنتان ونصف أخذ والداي معهما مربية من بلغاريا لم تكد تبلغ الخامسة عشرة من عمرها. وقد اعتادت أن تخرج في الصباح الباكر حاملة الطفل علي ذراعها، ورغم أنها لا تتكلم سوي البلغارية كانت تتحرك بسهولة ويسر في أنحاء المدينة المزدحمة وتعود دائما كل يوم في الموعد المحدد بالضبط. في أحد الأيام شوهدت مع شاب غريب في الشارع ولم تعرف ماذا تقول عنه، فقالت إنها عرفته بالصدفة. بعد بضعة أسابيع تبين أن الشاب يسكن الغرفة المقابلة لنا في الجهة المقابلة من الدور. والفتاة كانت تهرع إليه أحيانا في الليل. شعر والداي بمسؤوليتهما تجاهها وأرسلاها علي الفور إلي بلغاريا.
كلاهما، الفتاة والشاب كانا يخرجان مبكرا جدا من البنسيون ولا بد أنهما تعارفا علي هذا النحو. التهديد بالمدية ترك أثره، إذ تكتم الطفل علي الأمر لعشر سنوات.
فخر العائلة
روتشوك الواقعة علي الدانوب الأسفل، حيث وُلدت، كانت مدينة رائعة بالنسبة لي كطفل، وعندما أقول أنها تقع في بلغاريا، فإنني أعطي من خلال ذلك تصورا قاصرا عنها، إذ عاش هناك أناس من أجناس وأصول مختلفة، وخلال يوم واحد كان بإمكان المرء سماع سبع أو ثماني لغات. فبالإضافة إلي البلغار، القادمين من الريف كان هناك الكثير من الأتراك الذين كانوا يسكنون حيا خاصا بهم وإلي جوارهم كان هناك حي اليهود السفارديم، أي حينا. كما كان هناك يونانيون وألبان وأرمن وغجر. من الضفة الأخري من النهر جاء الرومانيون، مرضعتي التي لا أتذكرها كانت رومانية. كما كان هناك أيضا عدد قليل من الروس.
لم أكن أفطن كطفل لهذا التنوع، لكنني كنت استشعر تأثيراته باستمرار. بعض الشخصيات ظلت باقية في ذاكرتي لأنها كانت تنتمي لجماعة ما وكانت تتميز عن الآخرين من خلال زيها التقليدي. من بين الخدم الذين كانوا لدينا في البيت خلال تلك السنوات الست، كان ثمة رجل شركسي ومن بعده جاء خادم أرميني. أفضل صديقات أمي كانت أولغا الروسية. كان الغجر يأتون مرة كل أسبوع إلي فناء بيتنا، كانوا كثيرين جدا ويبدون وكأنهم شعب بأكمله. سوف أحكي فيما بعد عن الرعب الذي كان يتملكني منهم.
كانت روتشوك ميناء قديما علي نهر الدانوب ومن هنا اكتسبت أهميتها. فقد جذب الميناء الكثير من الناس من مختلف الأنحاء. الدانوب كان دائما محور الأحاديث. ثمة قصص كثيرة، خصوصا عن تلك الفترة التي تجمد فيها النهر، قصص عن رحلات بالزلاجات علي الجليد إلي رومانيا وقصص عن ذئاب جائعة كانت تتعقب الجياد التي تجر الزلاجات.
كانت الذئاب أولي الحيوانات البرية التي سمعت قصصا عنها، ففي الحكايات التي كانت ترويها لي الفلاحات البلغاريات تظهر شخصيات مستذئبة، وفي إحدي الليالي أفزعني أبي بارتدائه قناع ذئب.
لن أتمكن بسهولة من وصف هذا الثراء اللوني الذي اتسمت به سنواتي الأولي في روتشوك، وأن أنقل تصورا عن المباهج والأهوال التي صبغتها. كل ما عايشته لاحقا، كان قد حدث ذات مرة في روتشوك. بقية العالم كان يُطلق عليها هناك أوروبا، وعند سفر أحدهم عبر الدانواب إلي فيينا، كانوا يقولون إنه ذهب إلي أوروبا، فأوروبا كانت تبدأ حيث تنتهي السلطنة العثمانية. معظم اليهود السفارديم كانوا مواطنين أتراك، فأحوالهم في ظل حكم الأتراك كانت دائما جيدة، أفضل من حكم المسيحيين السلافيين. ولكن لأن كثيرا من اليهود السفارديم كانوا تجارا أغنياء فقد أقام نظام الحكم الجديد في بلغاريا علاقات معهم واعتبر الملك فرديناند الذي حكم لفترة طويلة، صديقا لليهود.
كانت ولاءات اليهود السفارديم معقدة بعض الشيء، فقد كانوا يهودا متدينين يولون أهمية لطائفتهم، التي كانت بلا مبالغة مركز وجودهم. لكنهم كانوا يعتبرون أنفسهم يهودا من نوع خاص وهذا مرتبط بتراثهم الإسباني. فعبر القرون التي مرت منذ طردهم من إسبانيا لم تطرأ علي لغتهم الإسبانية سوي تغييرات قليلة جدا. لقد دخلت بعض الكلمات التركية إلي اللغة، لكنها كانت معروفة، وكان لها في الأغلب مرادف إسباني. أولي أغاني الأطفال التي سمعتها كانت بالإسبانية، كما سمعت قصائد "الرومانس" الإسبانية القديمة، لكن الشيء الأقوي تأثيرا والذي لم يستطع الطفل مقاومته، كان هذا الاعتزاز الشديد بالأصل الإسباني. كان اليهود السفارديم ينظرون بترفع ساذج إلي اليهود الآخرين، وكانت كلمة Todesco التي تعني يهودي ألمانيا أو إشكنازيا محملة دائما بالاحتقار، فلم يكن من المتخيل الزواج من امرأة Todesca ، ولم تشهد أوساط العائلات التي كنت في طفولتي أستمع لأحاديثها أو أعرفها، أي زواج مختلط من هذا النوع. لم يكن عمري يتعدي السادسة عندما حذرني جدي من مثل هذا الزواج المختلط في المستقبل. لكن الأمر لم ينته عند هذا التمييز العمومي، فبين اليهود السفارديم كانت هناك أيضا "العائلات الجيدة" والمقصود هنا الغنية منذ زمن بعيد. " Es de buena famiglia " أي إنه من عائلة جيدة كانت هي أكثر عبارات الفخر والاعتزاز التي يمكن أن تقال عن شخص ما. كم من مرة ولحد السأم سمعت هذه العبارة من أمي. عندما كانت تهيم بمسرح بورغ في فيينا وتقرأ لي مسرحيات شكسبير، وبعد ذلك بكثير عندما كانت تقرأ لي من أعمال ستريندبرغ الذي أصبح كاتبها الأثير، لم تتورع عن القول عن نفسها بأنها تنتمي لعائلة جيدة ولا توجد أفضل من عائلتها. ومع أنها جعلت من أدب وثقافة اللغات التي كانت تتقنها، مضمونا فعليا لحياتها، لكنها لم تجد تناقضا بين هذا الولع بالانفتاح علي العالم وبين هذا الافتخار المتكبر بالعائلة الذي ظلت تغذيه باستمرار.
في الفترة التي كنت مازلت متعلقا بها تماما، وفتحت لي هي كل أبواب الثقافة، لاحظت هذا التناقض الذي آلمني وأزعجني وخلال محادثاتنا التي لا تحصي في كل فترة من فترات صباي، كنت أتحدث معها عن هذا التناقض وانتقدها، لكن ذلك لم يترك أدني تأثير عليها. فكبرياؤها شق منذ الصغر القنوات التي يسير فيها دون أن يحيد عنها. منذ الصغر جعلني هذا العناد الذي لم أتفهمه لديها، اتخذ موقفا ضد أي اعتزاز بالأصل. لا أستطيع أن أتعامل بجدية مع أناس يتباهون بأي نوع من أنواع الفخر الطبقي، وأنظر إليهم باعتبارهم حيوانات إكزوتية سخيفة بعض الشيء. كثيرا ما أضبط نفسي متلبسا بأحكام مسبقة ضد هؤلاء الذين يرون قيمة ما في انتمائهم لطبقات عليا. لذا اضطررت لمراقبة إن كان الأرستقراطيون القلائل الذين صادقتهم يتحدثون عن هذا الموضوع أم لا. ولو كانوا يعلمون أي جهد كلفني هذا الأمر، لاستغنوا عن صداقتي. الأحكام المسبقة تحددها أحكام مسبقة أخري، وأغلبها هي تلك المشتقة من أضدادها.
يضاف إلي ذلك أن الطبقة التي تحسب أمي نفسها عليها كانت تمتلك بالإضافة إلي أصولها الإسبانية مالا. في عائلتي وخصوصا
من طرف أمي رأيت ماذا كان يفعل المال بالناس. وأسوأهم من وهب حياته طواعية له. تعرفت علي كل مراحل التحول من الجشع إلي البارانويا. رأيت أشقاء دمروا بسبب الطمع بعضهم البعض في محاكمات وقضايا استمرت لسنوات عدة وبعضهم واصل رفع الدعاوي رغم ذهاب الأموال. وكان هؤلاء من العائلة "الجيدة" نفسها التي كانت أمي فخورة بها. لقد رأت ذلك أيضا نصب عينيها وتحدثنا كثيرا عن الأمر. كان تفكيرها ثاقبا، وتشكلت معرفتها بالنفس البشرية من خلال أعمال الأدب العالمي الكبري، بالإضافة أيضا إلي خبرتها الحياتية. لقد تعرفتْ علي دوافع التدمير العبثي للذات الذي خاضته عائلتها. وكان بإمكانها أن تكتب رواية عن ذلك: لكن اعتزازها بهذه العائلة نفسها ظل ثابتا لا يتزعزع. كنت سأتفهم ذلك أكثر، لو كان الحب هو مصدر اعتزازها. لكنها لم تحب الكثير من أبطال هذه الحكايات العائلية، بل كانت حانقة علي بعضهم وكانت تحتقر البعض الآخر، أما تجاه العائلة فكانت تشعر بالفخر فحسب.
فيما بعد أدركت أنني مثلها تماما في تأملي للعلاقات البشرية ولكن علي نطاق أوسع. لقد قضيت أفضل أوقات حياتي في تتبع ظهور الإنسان في الحضارات التاريخية. لقد قمت بلا هوادة بتحليل السلطة وتفكيك عناصرها مثلما فعلت أمي مع قضايا عائلتها. وبذا لم يتبق الكثير من الأشياء السيئة التي كان بإمكاني قولها عن البشر والبشرية. ومع ذلك فإن فخري بهم لا يزال كبيرا جدا بحيث لا يوجد سوي شيء واحد فقط أكرهه فعليا، وهو عدوهم الموت.
"كاكّو، كاكّو الدجاجة!"
الذئاب والمستذئبون
"لابوتييكا" كلمة ذات وقع حماسي ولطيف في الوقت ذاته، اعتدت علي سماعها كثيرا. هكذا كانوا يسمون الدكان أو المحل الذي كان جدي وأبناؤه يقضون اليوم كله فيه. ونادرا ما كانوا يأخذونني إلي هناك، لأنني كنت صغيرا جدا. موقعه كان في شارع ينحدر بشكل مستقيم من منطقة أحياء الأغنياء في روتشوك ليصب في الميناء. وفي هذا الشارع توجد كل المحال الكبيرة، ومحل جدي كان في بيت من ثلاثة طوابق، بدا لي ضخما وعاليا، لا سيما وأن المساكن المبنية فوق التل كانت من طابق واحد فقط. المحل كان لبيع مواد البقالة بالجملة، وكان واسعا وتفوح منه روائح رائعة. علي الأرض رقدت زكائب ضخمة مفتوحة بها أنواع مختلفة من الحبوب، كالدخن والشعير والأرز. وكانوا يسمحون لي بإدخال يدي في الزكائب وتحسس الحبوب، لو كانت يداي نظيفتين. كان إحساسا جميلا، وكنت أملأ يدي بالحبوب وأقربها إلي وجهي وأشمها ثم أتركها تنساب ثانية داخل الزكيبة. كنت أفعل ذلك كثيرا، ورغم وجود أشياء كثيرة مثيرة ولافتة في المحل، كانت تلك لعبتي المفضلة وكان من الصعب إبعادي عن الزكائب. الشاي والقهوة والشوكولاتة بالأخص، كلها كانت موجودة بكميات كبيرة وفي عبوات جميلة، ولا يتم بيعها بالتجزئة كما هي الحال في المتاجر العادية. بالأخص حازت الزكائب المفتوحة علي إعجابي أكثر من غيرها لأنها لم تكن عالية بالنسبة لي وكان باستطاعتي عند إدخال يدي فيها تحسس ملمس الحبوب الكثيرة.
معظم الأشياء الموجودة بالمحل كانت صالحة للأكل، لكن ليس كلها. فقد كانت هناك أعواد ثقاب وصابون وشموع وأيضا سكاكين ومقصات وأحجار لشحذ السكاكين والمناجل والمحشات. كان فلاحو القري يجيئون للتسوق ويقفون طويلا أمام هذه البضائع ويختبرون بأصابعهم مدي حدة أنصالها. كنت أنظر لهم باهتمام وببعض الخوف، فقد كان محظورا علي أن ألمس أي سكين. ذات مرة أمسك فلاح، سرته ملامح وجهي، إبهامي ووضعه إلي جانب إبهامه وبيَّن لي كم خشنة هي بشرته. إلا أنني لم أحصل أبدا علي شوكولاتة كهدية، فجدي الجالس خلف المكتب كان صارما في العمل ولا يتعامل إلا بالجملة. لكنه كان يقدم برهان حبه لي في البيت، لأنني أحمل اسم العائلة وقد سُميت أيضا علي اسمه. لكنه لم يحب رؤيتي في المحل ولم يسمح لي بالبقاء طويلا هناك. عندما كان يعطي أمرا، يهرع الموظف المأمور لتنفيذ الأمر وأحيانا كان منهم من يغادر المحل حاملا طرودا من البضائع. أكثر الموظفين المحببين إليّ كان رجلا نحيفا وعجوزا بعض الشيء يرتدي ملابس رثة، ويبتسم دائما وكأنه في عالم آخر. كانت له حركات مميزة وينفعل عندما يقول جدي شيئا. كان يبدو حالما ومختلفا عن جميع من رأيتهم في المحل، وكان يتحدث إلي دائما بلطف. حديثه كان عائما بحيث لم أفهمه، لكنني كنت أحس أنه يعني شيئا طيبا. اسمه تشيليبون، وقد تم تشغيله من باب العطف عليه، لأنه من أقربائنا الفقراء الميئوس من نجاحهم. كنت أسمعهم ينادونه وكأنه خادم، وهكذا احتفظت به في ذاكرتي وعرفت بعد ذلك بكثير أنه أخو جدي.
الشارع الذي تطل عليه بوابة حوش منزلنا كان هادئا ومتربا. وعند هطول الأمطار بغزارة، كان يتحول إلي طين تخلف فيه دواليب العربات آثارا عميقة. لم يسمح لي باللعب في الشارع، ففي حوش منزلنا الكبير كان ثمة مكان كاف للعب وكان آمنا. لكنني كنت أسمع أحيانا قوقأة حادة تزداد علوا وانفعالا. ولا يستغرق الأمر وقتا طويلا حتي يقتحم البوابة رجل بملابس سوداء ممزقة وهو يرتعد من الخوف، هاربا من أطفال الشارع الذين كانوا يلاحقونه صائحين "كاكو! كاكو!" ويقوقئون مثل الدجاج. كانوا يطاردونه لأنه يخاف من الدجاج، ويتقدمهم ببضع خطوات وقد تحول هو نفسه في نظري إلي دجاجة. يجري متقطع الأنفاس ليصعد درجات بيت جدي لكنه لم يكن يجرؤ علي الدخول ويقفز هابطا من الناحية الأخري ويبقي راقدا بلا حراك. فيما يواصل الأطفال قوقأتهم أمام بوابة الفناء، إذ لا يُسمح لهم بالدخول. وعندما كان يرقد هكذا مثل الميت، كانوا يشعرون ببعض الخوف ويلوذون بالفرار. لكنهم يؤكدون بعد ذلك بقليل انتصارهم صائحين "كاكو كاكو! كاكو الدجاجة". وطالما أن صوتهم لا يزال مسموعا، يظل كاكو راقدا في مكانه لا يحرك ساكنا. وبمجرد أن تغيب أصواتهم يقف ويتحسس نفسه بحذر ويصيخ السمع بوجل بعض الوقت ثم ينسحب من الفناء محني الظهر وفي هدوء تام. الآن لم يعد دجاجة ولم يعد يرفرف ويقوقئ، بل رجع كما كان عبيطَ الحي المنكسر.
أحيانا، كانت اللعبة الفظيعة تتكرر، عندما يتربص له الأطفال غير بعيد في الشارع ثانية. وغالبا ما تنتقل المطاردة إلي شارع آخر فلا أتمكن من متابعة ما يجري. ربما كنت أشعر بالشفقة علي كاكو وكنت أفزع دائما عندما يقفز، لكن الأمر الذي لم أكن أمل أبدا من رؤيته في كل مرة وبالتشوق ذاته، كان تحوله إلي دجاجة ضخمة سوداء. لم أفهم سبب مطاردة الأطفال له. وعندما كان يرقد علي الأرض ساكنا بعد قفزته، كنت أخشي من ألا يتمكن من القيام مرة أخري ومن التحول مجددا إلي دجاجة.
يتميز نهر الدانوب في مجراه البلغاري بالاتساع الشديد. مدينة جورجو الواقعة علي الضفة الأخري تابعة لرومانيا. ويقال إن المربية التي أرضعتني، جاءت من تلك المدينة وأنها كانت فلاحة قوية بصحة جيدة وقامت أيضا بإرضاع طفلها الذي جلبته معها. سمعت دائما الكثير من المديح والإشادة بها وبرغم أنني لا أستطيع تذكرها، فقد احتفظت بسببها بوقع دافئ لكلمة "روماني".
في بعض السنوات القليلة النادرة كان نهر الدانوب يتجمد في الشتاء وهناك حكايات مثيرة عن تلك الفترات. في صباها كانت أمي تذهب كثيرا إلي رومانيا باستخدام الزلاجات الجليدية وقد أرتني معاطف الفراء الدافئة التي كانت ترتديها. وعند اشتداد البرودة كثيرا، كانت الذئاب تهبط من الجبال جائعة وتنقض علي الخيول التي تجر الزلاجات. وكان الحوذي يحاول إبعادها بضربات السياط، ولكن دون جدوي. وكان من الضروري إطلاق النار عليها. وفي إحدي هذه الرحلات اكتشفوا أنهم لم يأخذوا معهم سلاحا ناريا، إذ كان من المفترض أن يأتي معهم خادم شركسي مسلح، لكنه غاب وانطلق الحوذي بدونه. وقد لاقوا صعوبة كبيرة في التصدي للذئاب وكانوا في خطر كبير. ولولا أن جاءت بالصدفة من الاتجاه الآخر زلاجة أخري بها رجلان تمكنوا بإطلاقهم الرصاص من قتل أحد الذئاب وإبعاد البقية، لكان من الممكن أن تكون النهاية سيئة. وقد انتاب أمي خوف شديد ووصفت لي منظر ألسنة الذئاب الحمراء التي اقتربت منها كثيرا، لدرجة أنها ظلت تحلم بها في سنوات لاحقة.
كثيرا ما رجوتها أن تقص علي الحكاية
أولي ذكرياتي
أولي ذكرياتي غارقة في الأحمر. أخرجُ من أحد الأبواب علي ذراع فتاة: الأرضية أمامي حمراء وعلي الجهة اليسري ثمة درج هابط وهو بدوره أحمر أيضا. في الجهة المقابلة ينفتح باب ويخرج منه رجل باسم، يتوجه إليّ بود. يقترب مني ويقف ويقول لي: "أرني لسانك!". أُخرج لساني، ثم يضع هو يده في جيبه ويخرج مدية جيب ويفتحها، ويمرر حدها بالقرب جدا من لساني ويقول: "الآن نقطع له لسانه." لا أجرؤ علي سحب لساني، فيما يقترب هو مني أكثر ويكون علي وشك أن يمس لساني بحد المدية. في آخر لحظة يسحب المدية ويقول: "ليس اليوم، سنفعل ذلك غدا". ثم يغلق المدية ويضعها في جيبه.
كل يوم نخرج من الباب إلي الدهليز الأحمر وينفتح الباب ويظهر الرجل الباسم. أعرف ما سيقوله وانتظر أمره بإخراج لساني. أعرف أنه سيقطعه ويزداد خوفي في كل مرة. يبدأ اليوم بهذا الأمر ويتكرر مرارا.
احتفظت بسر هذه الذكري لنفسي وبعد سنوات عديدة سألت أمي عن ذلك. من حديثي عن اللون الأحمر المنتشر في أرجاء المكان تعرفت أمي علي بنسيون في كارلسباد قضينا فيه مع والدي صيف عام 1907 ولرعايتي كطفل عمره سنتان ونصف أخذ والداي معهما مربية من بلغاريا لم تكد تبلغ الخامسة عشرة من عمرها. وقد اعتادت أن تخرج في الصباح الباكر حاملة الطفل علي ذراعها، ورغم أنها لا تتكلم سوي البلغارية كانت تتحرك بسهولة ويسر في أنحاء المدينة المزدحمة وتعود دائما كل يوم في الموعد المحدد بالضبط. في أحد الأيام شوهدت مع شاب غريب في الشارع ولم تعرف ماذا تقول عنه، فقالت إنها عرفته بالصدفة. بعد بضعة أسابيع تبين أن الشاب يسكن الغرفة المقابلة لنا في الجهة المقابلة من الدور. والفتاة كانت تهرع إليه أحيانا في الليل. شعر والداي بمسؤوليتهما تجاهها وأرسلاها علي الفور إلي بلغاريا.
كلاهما، الفتاة والشاب كانا يخرجان مبكرا جدا من البنسيون ولا بد أنهما تعارفا علي هذا النحو. التهديد بالمدية ترك أثره، إذ تكتم الطفل علي الأمر لعشر سنوات.
فخر العائلة
روتشوك الواقعة علي الدانوب الأسفل، حيث وُلدت، كانت مدينة رائعة بالنسبة لي كطفل، وعندما أقول أنها تقع في بلغاريا، فإنني أعطي من خلال ذلك تصورا قاصرا عنها، إذ عاش هناك أناس من أجناس وأصول مختلفة، وخلال يوم واحد كان بإمكان المرء سماع سبع أو ثماني لغات. فبالإضافة إلي البلغار، القادمين من الريف كان هناك الكثير من الأتراك الذين كانوا يسكنون حيا خاصا بهم وإلي جوارهم كان هناك حي اليهود السفارديم، أي حينا. كما كان هناك يونانيون وألبان وأرمن وغجر. من الضفة الأخري من النهر جاء الرومانيون، مرضعتي التي لا أتذكرها كانت رومانية. كما كان هناك أيضا عدد قليل من الروس.
لم أكن أفطن كطفل لهذا التنوع، لكنني كنت استشعر تأثيراته باستمرار. بعض الشخصيات ظلت باقية في ذاكرتي لأنها كانت تنتمي لجماعة ما وكانت تتميز عن الآخرين من خلال زيها التقليدي. من بين الخدم الذين كانوا لدينا في البيت خلال تلك السنوات الست، كان ثمة رجل شركسي ومن بعده جاء خادم أرميني. أفضل صديقات أمي كانت أولغا الروسية. كان الغجر يأتون مرة كل أسبوع إلي فناء بيتنا، كانوا كثيرين جدا ويبدون وكأنهم شعب بأكمله. سوف أحكي فيما بعد عن الرعب الذي كان يتملكني منهم.
كانت روتشوك ميناء قديما علي نهر الدانوب ومن هنا اكتسبت أهميتها. فقد جذب الميناء الكثير من الناس من مختلف الأنحاء. الدانوب كان دائما محور الأحاديث. ثمة قصص كثيرة، خصوصا عن تلك الفترة التي تجمد فيها النهر، قصص عن رحلات بالزلاجات علي الجليد إلي رومانيا وقصص عن ذئاب جائعة كانت تتعقب الجياد التي تجر الزلاجات.
كانت الذئاب أولي الحيوانات البرية التي سمعت قصصا عنها، ففي الحكايات التي كانت ترويها لي الفلاحات البلغاريات تظهر شخصيات مستذئبة، وفي إحدي الليالي أفزعني أبي بارتدائه قناع ذئب.
لن أتمكن بسهولة من وصف هذا الثراء اللوني الذي اتسمت به سنواتي الأولي في روتشوك، وأن أنقل تصورا عن المباهج والأهوال التي صبغتها. كل ما عايشته لاحقا، كان قد حدث ذات مرة في روتشوك. بقية العالم كان يُطلق عليها هناك أوروبا، وعند سفر أحدهم عبر الدانواب إلي فيينا، كانوا يقولون إنه ذهب إلي أوروبا، فأوروبا كانت تبدأ حيث تنتهي السلطنة العثمانية. معظم اليهود السفارديم كانوا مواطنين أتراك، فأحوالهم في ظل حكم الأتراك كانت دائما جيدة، أفضل من حكم المسيحيين السلافيين. ولكن لأن كثيرا من اليهود السفارديم كانوا تجارا أغنياء فقد أقام نظام الحكم الجديد في بلغاريا علاقات معهم واعتبر الملك فرديناند الذي حكم لفترة طويلة، صديقا لليهود.
كانت ولاءات اليهود السفارديم معقدة بعض الشيء، فقد كانوا يهودا متدينين يولون أهمية لطائفتهم، التي كانت بلا مبالغة مركز وجودهم. لكنهم كانوا يعتبرون أنفسهم يهودا من نوع خاص وهذا مرتبط بتراثهم الإسباني. فعبر القرون التي مرت منذ طردهم من إسبانيا لم تطرأ علي لغتهم الإسبانية سوي تغييرات قليلة جدا. لقد دخلت بعض الكلمات التركية إلي اللغة، لكنها كانت معروفة، وكان لها في الأغلب مرادف إسباني. أولي أغاني الأطفال التي سمعتها كانت بالإسبانية، كما سمعت قصائد "الرومانس" الإسبانية القديمة، لكن الشيء الأقوي تأثيرا والذي لم يستطع الطفل مقاومته، كان هذا الاعتزاز الشديد بالأصل الإسباني. كان اليهود السفارديم ينظرون بترفع ساذج إلي اليهود الآخرين، وكانت كلمة Todesco التي تعني يهودي ألمانيا أو إشكنازيا محملة دائما بالاحتقار، فلم يكن من المتخيل الزواج من امرأة Todesca ، ولم تشهد أوساط العائلات التي كنت في طفولتي أستمع لأحاديثها أو أعرفها، أي زواج مختلط من هذا النوع. لم يكن عمري يتعدي السادسة عندما حذرني جدي من مثل هذا الزواج المختلط في المستقبل. لكن الأمر لم ينته عند هذا التمييز العمومي، فبين اليهود السفارديم كانت هناك أيضا "العائلات الجيدة" والمقصود هنا الغنية منذ زمن بعيد. " Es de buena famiglia " أي إنه من عائلة جيدة كانت هي أكثر عبارات الفخر والاعتزاز التي يمكن أن تقال عن شخص ما. كم من مرة ولحد السأم سمعت هذه العبارة من أمي. عندما كانت تهيم بمسرح بورغ في فيينا وتقرأ لي مسرحيات شكسبير، وبعد ذلك بكثير عندما كانت تقرأ لي من أعمال ستريندبرغ الذي أصبح كاتبها الأثير، لم تتورع عن القول عن نفسها بأنها تنتمي لعائلة جيدة ولا توجد أفضل من عائلتها. ومع أنها جعلت من أدب وثقافة اللغات التي كانت تتقنها، مضمونا فعليا لحياتها، لكنها لم تجد تناقضا بين هذا الولع بالانفتاح علي العالم وبين هذا الافتخار المتكبر بالعائلة الذي ظلت تغذيه باستمرار.
في الفترة التي كنت مازلت متعلقا بها تماما، وفتحت لي هي كل أبواب الثقافة، لاحظت هذا التناقض الذي آلمني وأزعجني وخلال محادثاتنا التي لا تحصي في كل فترة من فترات صباي، كنت أتحدث معها عن هذا التناقض وانتقدها، لكن ذلك لم يترك أدني تأثير عليها. فكبرياؤها شق منذ الصغر القنوات التي يسير فيها دون أن يحيد عنها. منذ الصغر جعلني هذا العناد الذي لم أتفهمه لديها، اتخذ موقفا ضد أي اعتزاز بالأصل. لا أستطيع أن أتعامل بجدية مع أناس يتباهون بأي نوع من أنواع الفخر الطبقي، وأنظر إليهم باعتبارهم حيوانات إكزوتية سخيفة بعض الشيء. كثيرا ما أضبط نفسي متلبسا بأحكام مسبقة ضد هؤلاء الذين يرون قيمة ما في انتمائهم لطبقات عليا. لذا اضطررت لمراقبة إن كان الأرستقراطيون القلائل الذين صادقتهم يتحدثون عن هذا الموضوع أم لا. ولو كانوا يعلمون أي جهد كلفني هذا الأمر، لاستغنوا عن صداقتي. الأحكام المسبقة تحددها أحكام مسبقة أخري، وأغلبها هي تلك المشتقة من أضدادها.
يضاف إلي ذلك أن الطبقة التي تحسب أمي نفسها عليها كانت تمتلك بالإضافة إلي أصولها الإسبانية مالا. في عائلتي وخصوصا من طرف أمي رأيت ماذا كان يفعل المال بالناس. وأسوأهم من وهب حياته طواعية له. تعرفت علي كل مراحل التحول من الجشع إلي البارانويا. رأيت أشقاء دمروا بسبب الطمع بعضهم البعض في محاكمات وقضايا استمرت لسنوات عدة وبعضهم واصل رفع الدعاوي رغم ذهاب الأموال. وكان هؤلاء من العائلة "الجيدة" نفسها التي كانت أمي فخورة بها. لقد رأت ذلك أيضا نصب عينيها وتحدثنا كثيرا عن الأمر. كان تفكيرها ثاقبا، وتشكلت معرفتها بالنفس البشرية من خلال أعمال الأدب العالمي الكبري، بالإضافة أيضا إلي خبرتها الحياتية. لقد تعرفتْ علي دوافع التدمير العبثي للذات الذي خاضته عائلتها. وكان بإمكانها أن تكتب رواية عن ذلك: لكن اعتزازها بهذه العائلة نفسها ظل ثابتا لا يتزعزع. كنت سأتفهم ذلك أكثر، لو كان الحب هو مصدر اعتزازها. لكنها لم تحب الكثير من أبطال هذه الحكايات العائلية، بل كانت حانقة علي بعضهم وكانت تحتقر البعض الآخر، أما تجاه العائلة فكانت تشعر بالفخر فحسب.
فيما بعد أدركت أنني مثلها تماما في تأملي للعلاقات البشرية ولكن علي نطاق أوسع. لقد قضيت أفضل أوقات حياتي في تتبع ظهور الإنسان في الحضارات التاريخية. لقد قمت بلا هوادة بتحليل السلطة وتفكيك عناصرها مثلما فعلت أمي مع قضايا عائلتها. وبذا لم يتبق الكثير من الأشياء السيئة التي كان بإمكاني قولها عن البشر والبشرية. ومع ذلك فإن فخري بهم لا يزال كبيرا جدا بحيث لا يوجد سوي شيء واحد فقط أكرهه فعليا، وهو عدوهم الموت.
"كاكّو، كاكّو الدجاجة!"
الذئاب والمستذئبون
"لابوتييكا" كلمة ذات وقع حماسي ولطيف في الوقت ذاته، اعتدت علي سماعها كثيرا. هكذا كانوا يسمون الدكان أو المحل الذي كان جدي وأبناؤه يقضون اليوم كله فيه. ونادرا ما كانوا يأخذونني إلي هناك، لأنني كنت صغيرا جدا. موقعه كان في شارع ينحدر بشكل مستقيم من منطقة أحياء الأغنياء في روتشوك ليصب في الميناء. وفي هذا الشارع توجد كل المحال الكبيرة، ومحل جدي كان في بيت من ثلاثة طوابق، بدا لي ضخما وعاليا، لا سيما وأن المساكن المبنية فوق التل كانت من طابق واحد فقط. المحل كان لبيع مواد البقالة بالجملة، وكان واسعا وتفوح منه روائح رائعة. علي الأرض رقدت زكائب ضخمة مفتوحة بها أنواع مختلفة من الحبوب، كالدخن والشعير والأرز. وكانوا يسمحون لي بإدخال يدي في الزكائب وتحسس الحبوب، لو كانت يداي نظيفتين. كان إحساسا جميلا، وكنت أملأ يدي بالحبوب وأقربها إلي وجهي وأشمها ثم أتركها تنساب ثانية داخل الزكيبة. كنت أفعل ذلك كثيرا، ورغم وجود أشياء كثيرة مثيرة ولافتة في المحل، كانت تلك لعبتي المفضلة وكان من الصعب إبعادي عن الزكائب. الشاي والقهوة والشوكولاتة بالأخص، كلها كانت موجودة بكميات كبيرة وفي عبوات جميلة، ولا يتم بيعها بالتجزئة كما هي الحال في المتاجر العادية. بالأخص حازت الزكائب المفتوحة علي إعجابي أكثر من غيرها لأنها لم تكن عالية بالنسبة لي وكان باستطاعتي عند إدخال يدي فيها تحسس ملمس الحبوب الكثيرة.
معظم الأشياء الموجودة بالمحل كانت صالحة للأكل، لكن ليس كلها. فقد كانت هناك أعواد ثقاب وصابون وشموع وأيضا سكاكين ومقصات وأحجار لشحذ السكاكين والمناجل والمحشات. كان فلاحو القري يجيئون للتسوق ويقفون طويلا أمام هذه البضائع ويختبرون بأصابعهم مدي حدة أنصالها. كنت أنظر لهم باهتمام وببعض الخوف، فقد كان محظورا علي أن ألمس أي سكين. ذات مرة أمسك فلاح، سرته ملامح وجهي، إبهامي ووضعه إلي جانب إبهامه وبيَّن لي كم خشنة هي بشرته. إلا أنني لم أحصل أبدا علي شوكولاتة كهدية، فجدي الجالس خلف المكتب كان صارما في العمل ولا يتعامل إلا بالجملة. لكنه كان يقدم برهان حبه لي في البيت، لأنني أحمل اسم العائلة وقد سُميت أيضا علي اسمه. لكنه لم يحب رؤيتي في المحل ولم يسمح لي بالبقاء طويلا هناك. عندما كان يعطي أمرا، يهرع الموظف المأمور لتنفيذ الأمر وأحيانا كان منهم من يغادر المحل حاملا طرودا من البضائع. أكثر الموظفين المحببين إليّ كان رجلا نحيفا وعجوزا بعض الشيء يرتدي ملابس رثة، ويبتسم دائما وكأنه في عالم آخر. كانت له حركات مميزة وينفعل عندما يقول جدي شيئا. كان يبدو حالما ومختلفا عن جميع من رأيتهم في المحل، وكان يتحدث إلي دائما بلطف. حديثه كان عائما بحيث لم أفهمه، لكنني كنت أحس أنه يعني شيئا طيبا. اسمه تشيليبون، وقد تم تشغيله من باب العطف عليه، لأنه من أقربائنا الفقراء الميئوس من نجاحهم. كنت أسمعهم ينادونه وكأنه خادم، وهكذا احتفظت به في ذاكرتي وعرفت بعد ذلك بكثير أنه أخو جدي.
الشارع الذي تطل عليه بوابة حوش منزلنا كان هادئا ومتربا. وعند هطول الأمطار بغزارة، كان يتحول إلي طين تخلف فيه دواليب العربات آثارا عميقة. لم يسمح لي باللعب في الشارع، ففي حوش منزلنا الكبير كان ثمة مكان كاف للعب وكان آمنا. لكنني كنت أسمع أحيانا قوقأة حادة تزداد علوا وانفعالا. ولا يستغرق الأمر وقتا طويلا حتي يقتحم البوابة رجل بملابس سوداء ممزقة وهو يرتعد من الخوف، هاربا من أطفال الشارع الذين كانوا يلاحقونه صائحين "كاكو! كاكو!" ويقوقئون مثل الدجاج. كانوا يطاردونه لأنه يخاف من الدجاج، ويتقدمهم ببضع خطوات وقد تحول هو نفسه في نظري إلي دجاجة. يجري متقطع الأنفاس ليصعد درجات بيت جدي لكنه لم يكن يجرؤ علي الدخول ويقفز هابطا من الناحية الأخري ويبقي راقدا بلا حراك. فيما يواصل الأطفال قوقأتهم أمام بوابة الفناء، إذ لا يُسمح لهم بالدخول. وعندما كان يرقد هكذا مثل الميت، كانوا يشعرون ببعض الخوف ويلوذون بالفرار. لكنهم يؤكدون بعد ذلك بقليل انتصارهم صائحين "كاكو كاكو! كاكو الدجاجة". وطالما أن صوتهم لا يزال مسموعا، يظل كاكو راقدا في مكانه لا يحرك ساكنا. وبمجرد أن تغيب أصواتهم يقف ويتحسس نفسه بحذر ويصيخ السمع بوجل بعض الوقت ثم ينسحب من الفناء محني الظهر وفي هدوء تام. الآن لم يعد دجاجة ولم يعد يرفرف ويقوقئ، بل رجع كما كان عبيطَ الحي المنكسر.
أحيانا، كانت اللعبة الفظيعة تتكرر، عندما يتربص له الأطفال غير بعيد في الشارع ثانية. وغالبا ما تنتقل المطاردة إلي شارع آخر فلا أتمكن من متابعة ما يجري. ربما كنت أشعر بالشفقة علي كاكو وكنت أفزع دائما عندما يقفز، لكن الأمر الذي لم أكن أمل أبدا من رؤيته في كل مرة وبالتشوق ذاته، كان تحوله إلي دجاجة ضخمة سوداء. لم أفهم سبب مطاردة الأطفال له. وعندما كان يرقد علي الأرض ساكنا بعد قفزته، كنت أخشي من ألا يتمكن من القيام مرة أخري ومن التحول مجددا إلي دجاجة.
يتميز نهر الدانوب في مجراه البلغاري بالاتساع الشديد. مدينة جورجو الواقعة علي الضفة الأخري تابعة لرومانيا. ويقال إن المربية التي أرضعتني، جاءت من تلك المدينة وأنها كانت فلاحة قوية بصحة جيدة وقامت أيضا بإرضاع طفلها الذي جلبته معها. سمعت دائما الكثير من المديح والإشادة بها وبرغم أنني لا أستطيع تذكرها، فقد احتفظت بسببها بوقع دافئ لكلمة "روماني".
في بعض السنوات القليلة النادرة كان نهر الدانوب يتجمد في الشتاء وهناك حكايات مثيرة عن تلك الفترات. في صباها كانت أمي تذهب كثيرا إلي رومانيا باستخدام الزلاجات الجليدية وقد أرتني معاطف الفراء الدافئة التي كانت ترتديها. وعند اشتداد البرودة كثيرا، كانت الذئاب تهبط من الجبال جائعة وتنقض علي الخيول التي تجر الزلاجات. وكان الحوذي يحاول إبعادها بضربات السياط، ولكن دون جدوي. وكان من الضروري إطلاق النار عليها. وفي إحدي هذه الرحلات اكتشفوا أنهم لم يأخذوا معهم سلاحا ناريا، إذ كان من المفترض أن يأتي معهم خادم شركسي مسلح، لكنه غاب وانطلق الحوذي بدونه. وقد لاقوا صعوبة كبيرة في التصدي للذئاب وكانوا في خطر كبير. ولولا أن جاءت بالصدفة من الاتجاه الآخر زلاجة أخري بها رجلان تمكنوا بإطلاقهم الرصاص من قتل أحد الذئاب وإبعاد البقية، لكان من الممكن أن تكون النهاية سيئة. وقد انتاب أمي خوف شديد ووصفت لي منظر ألسنة الذئاب الحمراء التي اقتربت منها كثيرا، لدرجة أنها ظلت تحلم بها في سنوات لاحقة.
كثيرا ما رجوتها أن تقص علي الحكاية مجددا، وكانت تفعل ذلك عن طيب خاطر. وهكذا أصبحت الذئاب هي أولي الحيوانات البرية التي هيمنت علي مخيلتي. وقد تغذي هلعي منها علي الحكايات التي سمعتها من الفتيات الريفيات البلغاريات. فخمس أو ست منهن كن يعشن لدينا بشكل دائم. أعمارهن كانت تتراوح بين عشرة واثني عشر عاما وقد تم جلبهن من القري حيث تعيش عائلاتهن إلي المدينة ليعملن كخادمات في بيوت أهل المدينة. كن يسرن حافيات في المنزل ويتمتعن دائما بمزاج رائق، فلم يتوجب عليهن عمل الكثير من الأشياء وكن يقمن بعمل كل شيء سويا وقد صرن أولي رفيقاتي في اللعب.
في المساء وعندما يخرج والداي كنت أبقي معهن. بطول جدران غرفة المعيشة الكبيرة كانت هناك كنبات تركية واطئة وحسبما أتذكر شكلت تلك الكنبات إلي جانب السجاجيد المفروشة علي الأرض وبعض الموائد الصغيرة كل أثاث الغرفة. عند حلول الظلام كان الخوف يتلبس الفتيات وكنا نتجمع ملتصقين ببعضنا علي إحدي الكنبات الموجودة أسفل النافذة ويأخذنني في وسطهن ويبدأن في حكي قصص عن المستذئبين ومصاصي الدماء. وما يكدن ينتهين من إحدي هذه القصص حتي يبدأن علي الفور في قصة جديدة، كان أمرا مرعبا لكنني كنت أشعر براحة وانسجام لالتصاق الفتيات بي من كل جانب. كنا نشعر بخوف شديد لدرجة أن أحدا منا لم يكن يتجرأ علي القيام من مكانه، وعند عودة والديّ إلي المنزل كانا يجداننا متلاصقين ككومة لحم ترتجف.
لم يتبق في ذاكرتي سوي الفتيات اللواتي كن يحكين قصصا عن المستذئبين ومصاصي الدماء، وربما لم تكن هناك قصص أخري. ولا يمكنني أن أمسك بأي كتاب عن حكايات البلقان الشعبية دون أن أتذكر بعض هذه الحكايات علي الفور. إنني أستحضرها بكل التفاصيل ولكن ليس باللغة التي سمعتها بها، لقد سمعتها بالبلغارية، لكنني أعرفها بالألمانية. عملية الترجمة الغامضة تلك هي ربما أغرب قصة وقعت لي في صباي. ونظرا لأن المصير اللغوي لأغلب الأطفال يتخذ مسارا مختلفا، ينبغي علي ربما أن أحكي عن هذا الأمر.
كان أبواي يتحادثان بالألمانية مع بعضهما البعض ومعنا نحن الأطفال ومع جميع الأقارب كانا يتكلمان الإسبانية، التي كانت لغتنا الدارجة، لكنها كانت إسبانية قديمة، وقد اعتدت علي سماعها لاحقا ولم أنساها أبدا. الفتيات الريفيات في منزلنا كن يتحدثن البلغارية فقط، وأغلب الظن أنني تعلمتها أيضا. ولكن نظرا لأنني لم أذهب إلي مدرسة بلغارية ولكوني غادرت روتشوك في سن السادسة، فقد نسيت هذه اللغة تماما خلال فترة وجيزة. كل أحداث سنواتي الأولي جرت بالإسبانية والبلغارية. ولاحقا ترجمت معظم هذه الأحداث نفسها في داخلي إلي الألمانية. الأحداث المأساوية وحدها كالقتل مثلا والتجارب المرعبة حُفرت في ذاكرتي بالإسبانية بدقة شديدة بحيث لا يمكن لها أن تفني. أما البقية الباقية أي غالبية الأحداث، وكل ما كان بالبلغارية كالحكايات، فقد أصبح في رأسي بالألمانية.
لا أعرف بالضبط كيف حدث هذا الأمر. لا أعرف متي وبأية مناسبة تُرجم هذا الحدث أو ذاك داخلي إلي الألمانية. ولم أحاول تقصي هذا الأمر، ربما لخشيتي من تدمير أنفس شيء تحتفظ به ذاكرتي، من خلال اتباع طرق ومبادئ صارمة في استقصاء حقيقة الأمر: فأحداث تلك السنوات حاضرة لدي بكل قوتها وطزاجتها. لقد تغذيت علي هذه الأحداث لأكثر من ستين سنة، لكنها في أغلبها مرتبطة بكلمات لم أكن أعرفها آنذاك. ومع ذلك يبدو لي طبيعيا أن أكتبها الآن دون أن يتسلل إلي شعور بأنني أغير فيها شيئا أو أشوهها. لا يشبه الأمر الترجمة الأدبية لكتاب من لغة إلي أخري، إنها ترجمة تمت تلقائيا في "اللاوعي"، ونظرا لأنني عادة ما أتجنب وأمقت استخدام هذه الكلمة التي فقدت من فرط استخدامها معناها، فأرجو التساهل والتسامح معي في استعمالها في هذه المرة وفي هذه الحالة فقط.
بلطة الأرميني
الغجر
الاستمتاع بالوصف الطوبوغرافي الذي كان ستندال ينغمس فيه بسهولة في كتابه "هنري برولار" ليس متاحا لي وللأسف كنت دائما رساما سيئا. وهكذا علي أن أصف بإيجاز موقع البيوت المحيطة بفناء الحديقة في منزلنا في روتشوك.
لو دخلت من الشارع عبر البوابة الكبيرة، فسيكون علي يمينك مباشرة بيت الجد كانيتي، وكان يبدو أضخم من البيوت الأخري، لقد كان أعلي منها أيضا. لكنني لا أستطيع الجزم إن كان به طابق علوي، في مقابل البيتين الآخرين المكونين من طابق واحد فقط. لكنه كان علي أية حال يعطي الانطباع بأنه أكبر لأن عدد درجات السلم المؤدية إليه كانت أعلي، وكان لونه أفتح من البيتين الآخرين. ربما كان أيضا مطليا بلون فاتح.
وفي مقابل بيت جدي علي يسار الفناء كان البيت الذي تقطنه عمتي صوفي، الأخت الكبري لأبي، مع زوجها العم ناتان. وكان يُلقب بإيلياكيم، وهو اسم لم ارتاح له أبدا، ربما كان غريبا علي، لأن وقعه لم يكن إسبانيا مثل الأسماء الأخري. وكان لديهما ثلاثة أطفال هم ريجينا وجاك ولاوريكا. هذه الأخيرة هي أصغرهم، لكنها مع ذلك كانت تكبرني بأربع سنوات، وقد كان لفارق السن هذا عواقب وخيمة.
وإلي جانب هذا البيت وعلي الناحية اليسري أيضا من الفناء كان بيتنا، الذي بدا شبيها ببيت العم. تقود بضع درجات إلي مدخل كلا البيتين وتفضي إلي بسطة واسعة بعرض البيتين.
كان فناء الحديقة بين البيوت الثلاثة كبيرا جدا. في مقابل بيتنا، ليس في الوسط مباشرة ولكن إلي الجنب قليلا كانت هناك بئر ماء، لكن ماءها لم يكن وفيرا، ومعظم المياه كانت تأتي إلينا من نهر الدانوب في براميل ضخمة محملة علي ظهر الحمير. استخدام ماء الدانوب لم يكن ممكنا قبل غليه في قدور كبيرة، كانت تترك بعد ذلك لتبرد علي البسطة أمام البيت.
خلف البئر كانت حديقة الفواكه التي يفصلها سياج عن الفناء. لم تكن ذات جمال لافت، لكنها كانت مرتبة، ربما لم تكن قديمة بما يكفي. لقد رأيت حدائق فواكه أكثر روعة لدي أقرباء أمي.
واجهة بيتنا التي تطل علي الفناء كانت تمثل الجهة الأضيق من المبني، الذي كان يمتد بعمق إلي الخلف، ورغم أنه كان مكونا من طابق واحد فقد ظل واسعا جدا في ذاكرتي. كان بالإمكان السير بمحاذاة سور الفناء والدوران حول المنزل كله، وكان السير بمحاذاة الجانب الطولي من الفناء يفضي إلي فناء أصغر يقود إلي المطبخ. في هذا الفناء كان هناك حطب للتقطيع وكانت الدجاجات والإوز تجري هنا وهناك، في المطبخ المفتوح سادت حركة دائمة، كانت الطاهية تخرج أشياء وتدخل أشياء أخري ونصف دستة الفتيات يتقافزن في حركة ونشاط.
في فناء المطبخ هذا، كان هناك خادم يقوم بتقطيع الحطب، وكان من أكثر من احتفظت بهم ذاكرتي، إنه صديقي الأرميني الحزين. كان يردد أثناء تقطيع الخشب أغاني لا أفهمها، لكنها كانت تقطع قلبي. وعندما سألت أمي لماذا هو حزين هكذا، قالت لي إن ثمة أناسا أشرارا في اسطنبول يريدون قتل كل الأرمينيين، وإنه فقد كل عائلته هناك. وقد رأي وهو مختبئ مقتل أخته أمام عينيه. ثم فر بعد ذلك إلي بلغاريا وقام جدي بتشغيله في منزلنا شفقة عليه. وعندما كان يقطع الحطب كان دائما ما يتذكر أخته ولذلك كان يغني هذه الأغاني الحزينة.
كنت أكن له حبا عميقا. عندما كان يقطع الحطب كنت أقف علي كنبة في نهاية غرفة المعيشة حيث تطل النافذة علي فناء المطبخ، ثم أنحني لأطل من النافذة وأشاهده، وعندما يغني كنت أتذكر أخته وأتمني أن تكون لي أخت صغيرة. كان له شارب أسود كبير وشعره كان أسود فاحما. وقد بدا لي ضخما جدا، وربما يعود ذلك إلي أنني كنت أراه وهو يرفع يديه بالبلطة عاليا. كنت أحبه أكثر من خادم المحل تشيليبون الذي لم أكن أراه إلا نادرا. تحدثنا سويا ولكنه كان حديثا مختصرا جدا، بضع كلمات قليلة فقط، قليلة جدا ولا أذكر بأية لغة. لكنه لم يكن يبدأ عمله قبل أن يراني، وبمجرد أن يراني كان يبتسم قليلا ثم يرفع بلطته، وكان من المفزع رؤية الغضب الذي كان ينهال به علي الحطب. يصبح وجهه أكثر قتامة ويبدأ في ترديد أغانيه. وعندما كان يترك البلطة كان يبتسم لي مجددا وأنا بدوري كنت أنتظر ابتسامته كما كان ينتظرني، هو، اللاجئ الأول في حياتي.
كل جمعة كان الغجر يأتون إلينا، ففي البيوت اليهودية يجري الإعداد يوم الجمعة لعطلة السبت، فيجري تنظيف البيت تنظيفا شاملا، وتنطلق الفتيات البلغاريات هنا وهناك في حركة دائبة، ويكون العمل في المطبخ علي قدم وساق. لم يكن ثمة أحد لديه وقت لي. وحيدا تماما كنت أنتظر، خلف نافذة غرفة المعيشة الضخمة المطلة علي فناء الحديقة، قدوم الغجر. كان ينتابني هلع فظيع منهم. وأعتقد أن ذلك نابع من حكايات الفتيات عنهم في تلك الأماسي الطويلة المظلمة التي قضيناها علي الكنبة. كنت أظن أنهم يخطفون الأطفال وأنهم وضعوني نصب أعينهم.
لكن ورغم هذا الخوف لم أكن أفوت علي نفسي مرآهم. فقد كان مشهد مجيئهم رائعا. بوابة الفناء كانت تُفتح لهم عن آخرها، لأنهم كانوا يحتاجون إلي المكان. كانوا يأتون مثل قبيلة كاملة يتوسطهم رجل كبير أعمي، يقال إنه جدهم الأكبر. كان شيخا جميلا بشعر أبيض، يمشي بتؤدة مستندا من اليمين واليسار علي اثنين من أحفاده الكبار، وقد ارتدي خرقا ملونة. وكان يتزاحم حوله من جميع الجوانب غجر من مختلف الأعمار، رجال قليلون، الغالبية نساء وأعداد غفيرة من الأطفال، الرضع تحملهن الأمهات علي أذرعهن، والآخرون يتقافزون ولكن ليس بعيدا عن الشيخ الوقور. كان لهذا الموكب كثافة غير عادية، فلم يصادف أبدأ أن رأيت مثل هذا الجمع من البشر الذي يحافظ طوال حركته علي بقائه متماسكا. وقد كان في هذه المدينة الغنية بالألوان هو الأزهي والأكثر لونية. الخرق التي قاموا بترقيع ملابسهم بها كانت من جميع الألوان، لكن الأحمر كان هو الأبرز. علي أكتاف كثيرين منهم تأرجحت أجولة، لم أتمكن من تأملها دون تخيل أن بداخلها أطفالا مسروقين.
كان يبدو لي أن عدد هؤلاء الغجر لا يحصي، لكن لو حاولت الآن تقدير عددهم، فعلي ما أعتقد لن يزيد عددهم علي ثلاثين أو أربعين. لكنني لم أر بخلافهم مثل هذا الكم من البشر في الفناء الكبير. ولأنهم يمشون الهويني بسبب الرجل الكبير، فقد تراءي لي أنهم ملئوا الفناء عن آخره. لكنهم لم يبقوا في مكانهم بل داروا حول البيت ليصلوا إلي الفناء الصغير أمام المطبخ حيث تراصت قطع الحطب، وهناك حطوا الرحال.
وقد اعتدت انتظار اللحظة التي يظهرون فيها أولا أمام بوابة الفناء، وبمجرد أن ألمح الشيخ الأعمي كنت أجري عبر غرفة المعيشة الممتدة والدهليز الأطول المؤدي إلي المطبخ صائحا بصوت عال " الغجر الغجر!". وهناك كانت أمي تقف وتعطي التعليمات لأطعمة يوم السبت، بل وكانت تعد بنفسها بعض الأطباق الشهية جدا. لم أكن انتبه للفتيات الصغيرات اللاتي كن يقابلنني في طريقي، لأنني كنت أواصل الصراخ بصوت مدو إلي أن أقف بجانب أمي التي كانت تقول لي شيئا يهدئ من روعي. لكن بدلا من أبقي بجانبها، كنت أعاود قطع الطريق الطويل عائدا إلي غرفة المعيشة حيث كنت ألقي نظرة من النافذة علي مدي تقدم موكب الغجر، وفي الأثناء لا يكونون قد تقدموا كثيرا، ثم أرجع لأبلغ عن ذلك في المطبخ. كنت أرغب في رؤيتهم، لقد كنت مهووسا بهم، لكن بمجرد أن أراهم كان يتلبسني الخوف مجددا من أنهم يريدون خطفي، وأجري هربا منهم وأنا أصرخ. كان رواحي وغدوي يستمر لبعض الوقت، وأظن أنني لذلك ظللت محتفظا بالإحساس الجارف باتساع رقعة البيت ما بين الفناءين.
وبمجرد أن يصلوا إلي هدفهم أمام المطبخ، كان الشيخ يجلس والآخرون يتجمعون حوله، كانت الأجولة تُفتح والنساء يأخذن دون تنازع أو شجار بينهن كل العطايا التي تقدم لهن. كانوا يحصلون علي قطع الحطب من الكومة المرصوصة وهو شيء كانوا يسعدون به كثيرا، كما كانوا يحصلون علي الكثير من الأطعمة، ومن كل الأصناف التي أعدت للطعام. فإطعامهم من البقايا لم يكن واردا. ارتحت عندما رأيت أنه لا يوجد أطفال في أجولتهم، وفي حمي أمي نزلت لأسير بينهم، وتأملتهم أكثر عن قرب، لكنني حرصت علي عدم الدنو كثيرا من النساء اللائي كن يرغبن في مداعبتي. أكل الشيخ الأعمي بهدوء من وعاء أمامه، ثم استراح لقدر كاف من الوقت. الآخرون لم يمسوا طعامهم، بل دسوا كل شيء في الأجولة الكبيرة. الأطفال وحدهم كانوا يقضمون من الحلوي التي قُدمت لهم. وقد تعجبت من اللطف الذي يعاملون به أطفالهم، إذ لم يكونوا بتاتا أشرارا كخاطفي الأطفال. مع ذلك ظل رعبي منهم كما هو. بعد وقت بدا لي طويلا جدا هموا بالانصراف، وكانت حركة الموكب في الرحيل أسرع من حركته لدي مجيئهم. رأيتهم من النافذة ذاتها وهم يختفون وراء البوابة. عندها جريت للمرة الأخيرة إلي المطبخ صائحا "لقد انصرف الغجر". خادمنا أخذني من يدي وقادني إلي البوابة وأغلقها وقال " الآن لن يعودا ثانية". في العادة تظل البوابة طوال اليوم مفتوحة لكن في أيام الجمع هذه، تبقي مغلقة وبذا يتضح لأي مجموعة من الغجر تأتي ربما لاحقا أن أهلهم كانوا هنا وبالتالي يواصلون مسيرتهم.
مولد الأخ
عندما كنت لا أزال صغيرا جدا، كنت أجلس محشورا في كرسي عال مخصص للأطفال، وكانت الأرض تبدو لي بعيدة جدا مما كان يجعلني أخاف السقوط منه. جاء عمي بوكّو، الأخ الأكبر لأبي، لزيارتنا وأخرجني من الكرسي ووضعني علي الأرض، ثم اغتبط وجهه ووضع كفه علي رأسي وقال لي بلفظ واضح قوي "إنني أباركك يا إلياس الصغير. آمين!"، أعجبتني هذه النبرة الاحتفالية وأعتقد أنني شعرت حينها بأنني صرت أكبر عندما باركني. لكنه كان مهرجا وسارع بالضحك، وأحسست أنه يستهزئ بي وأن لحظة البركة العظيمة التي انخدعت بها مرارا، كانت تفضي دائما إلي الخزي.
هذا العم كان يكرر كل أفعاله عددا لا يحصي من المرات. علمني الكثير من الأغاني ولم يهدأ له بال حتي صرت قادرا علي غنائها بنفسي. وعندما كان يعود لزيارتنا كان يسألني عنها. وكان يدربني علي أدائها أمام الكبار. كنت أنتظر دائما بركته، رغم أنه كان يفسدها دائما علي الفور. ولولا إفساده للأمر دائما لكان أحب أعمامي إلي. كان يعيش في فارنا حيث يدير فرعا لمحل جدي ويأتي إلي روتشوك في أيام الأعياد وفي المناسبات الخاصة. وكان أفراد العائلة يتحدثون معه باحترام كبير لأنه ال "بوكّو" أو البِكري، وهو لقب شرفي لأول ولد في العائلة. ولو كنت بقيت في روتشوك لأصبحت أنا أيضا "بوكّو".
طوال أربع سنوات ظللت طفلا وحيدا وكنت أرتدي تنورات كالبنات. كنت أتمني أن ارتدي بناطيل مثل الأولاد، وكانوا يعدونني بأن ذلك سيحدث لاحقا. ثم أبصر أخي نِسيم نور العالم وجاءت المناسبة التي أرتدي فيها أول بنطلون. شهدت كل وقائع هذه المناسبة بفخر شديد وأنا أرتدي البنطلون ولهذا السبب غالبا تذكرت كل تفاصيلها.
كثيرون كانوا في بيتنا، ورأيت وجوها فزعة. لم يكن مسموحا لي أن أذهب إلي أمي في غرفة النوم، حيث كان سريري الصغير، وظللت ألف وأدور أمام الباب كي أتمكن من الظفر بنظرة خاطفة عليها عندما يدخل أحدهم إلي الغرفة. لكنهم كانوا يغلقون الباب بسرعة بحيث لا أتمكن من رؤيتها. سمعت صوت عويل لم أتعرف عليه وعندما سألت عن صاحب هذا الصوت، أمروني بأن ابتعد. لم يسبق لي مطلقا أن رأيت الكبار علي هذه الدرجة من الخوف ولم يهتم أحد بي وهو أمر لم يكن مألوفا بالنسبة لي. (وكما عرفت لاحقا، فقد كانت ولادة مرهقة طويلة وشاقة، وكانوا يخشون علي حياة أمي). د. مناخموف، الطبيب صاحب اللحية السوداء الطويلة، كان موجودا. وحتي هو الذي كان في العادة لطيفا جدا معي وكان يسمح لي بأن أردد له أغنية يمتدحني عليها، لم يلتفت لي إطلاقا ولا خاطبني بكلمة واحدة، بل ونظر لي نظرة غاضبة، عندما رفضت الابتعاد عن الباب. اشتد العويل وسمعت من يقول
madre mia querida! Madre mia querida
يا إلهي يا عزيزتي، يا إلهي يا عزيزتي!"
ضغطت رأسي علي الباب وعندما انفتح، تملكني فزع من شدة الأنين. وفجأة أدركت أن أمي كانت هي مصدر هذا الأنين الذي كان مخيفا لدرجة أنني لم أعد أرغب في رؤيتها.
أخيرا سُمح لي بدخول غرفة النوم. الجميع كانوا يبتسمون، أبي كان يضحك، ثم جعلوني أري أخي الصغير. رقدت أمي في السرير شاحبة لا تحرك ساكنا. قال د. مناخموف "إنها تحتاج إلي الراحة!". لكن الأجواء حولها لم تكن هادئة إطلاقا. نساء غريبات كن يتحركن في الغرفة. الآن انتبه لي الجميع مرة أخري ورفعوا من معنوياتي. الجدة أرديتّي التي نادرا ما كانت تأتي إلي بيتنا قالت: "الآن هي في حال أفضل"، أما أمي فلم تقل شيئا. خفت منها وجريت خارج الغرفة ولم أبق عند الباب. لفترة طويلة بعدها ظلت أمي غريبة عني واستغرق الأمر شهورا حتي استعدت ثقتي بها.
ثم كان حفل الختان هو الحدث التالي الذي شهدته عيناي. جاء أناس كثيرون إلي البيت. وسُمح لي برؤية عملية الختان. وتولد لدي انطباع بأنهم تعمدوا جلبي لمشاهدتها، كل الأبواب كانت مفتوحة وباب البيت أيضا. في غرفة المعيشة كانت هناك مائدة طويلة أُعدت للضيوف وفي غرفة أخري جرت عملية الختان. كل الموجودين فيها كانوا رجالا وكلهم كانوا واقفين. أمسكوا بأخي الصغير الضئيل فوق وعاء ثم رأيت السكين، ورأيت دما كثيرا جدا يتقاطر في الوعاء.
سُمي أخي "نِسيم" علي اسم جدي لأمي، وقد أوضحوا لي أنني الابن الأكبر ولهذا سُميت علي اسم جدي لأبي. لقد حظيت مكانة الابن الأكبر بالكثير من الثناء والمديح بحيث أصبحتُ من لحظة عملية الختان هذه شديد الوعي بها، ولم يفارقني الفخر والاعتزاز بهذه المكانة أبدا.
علي المائدة سادت أجواء مرحة، وقمت أنا بعمل جولة ببنطلوني، ولم أهدأ حتي لاحظ كل الضيوف ارتدائي له. وعندما كان يأتي ضيوف جدد كنت أهرع إليهم عند الباب وأقف أمامهم وكلي ترقب. لقد كانت هناك حركة كثيفة من الرواح والغدو، وعندما أصبح الجميع موجودين، لاحظنا غياب ابن عمتي جاك. قال أحدهم إنه "إنه خرج بدراجته"، وقد قوبل تصرفه هذا باستهجان. وبعد الطعام عاد جاك مغبر الملابس. لقد رأيته عندما قفز من فوق دراجته أمام المنزل ، كان يكبرني بثمانية أعوام ويرتدي زي المدرسة الثانوية. وقد أبلغني بالخبر الرائع الجديد وهو أنه حصل علي هذه الدراجة أمس كهدية. ثم حاول أن يتسلل بين الضيوف إلي البيت دون أن يلحظه أحد، فاندفعت قائلا إنني أريد أيضا دراجة، حينها انقضت عليه أمه، عمتي صوفيا، وأخذته معها للصلاة، أما هو فأشار لي بإصبعه مهددا واختفي ثانية.
في هذا اليوم أدركت أيضا أنه يتوجب علي المرء أن يأكل بفم مغلق. ريجينا، أخت مالك الدراجة كانت تأكل نُقلا ووقفت أنا أمامها مشدودا لكونها تمضغ بفم مغلق. لقد استغرق ذلك وقتا طويلا وعندما انتهت قالت لي إن علي أن أفعل ذلك أيضا وإلا سيجعلونني أعود لارتداء التنورات. ولا بد أنني تعلمت ذلك بسرعة شديدة، لأنني لم أكن أرغب، لأي سبب كان، في التخلي مجددا عن بنطلوني.
بيت الأتراك
كلا الجدين
أحيانا كانوا يأخذونني إلي بيت جدي كانيتي أثناء وجوده في المحل، لكي أزور جدتي. كانت تجلس علي أريكة تركية وتدخن وتشرب القهوة السوداء. كانت دائما في البيت ولم تخرج أبدا، ولا أذكر أنني رأيتها آنذاك لو لمرة واحدة خارج المنزل. كان اسمها لاورا وأصلها كان مثل جدي من أدريانوبل. وهو كان يسميها "أورو"، أي ذهب، ولم أفهم أبدا سر هذه التسمية. من بين كل أقربائي ظلت هي الأكثر احتفاظا بالطابع التركي. لم تكن تقوم من جلستها علي الأريكة ولا أعرف كيف وصلت إليها، فأنا لم أرها تمشي قط. وكانت تتنهد بين الحين والآخر وتشرب قدحا آخر من القهوة وتدخن. كانت تستقبلني بصوت شاك ثم تصرفني بالأنين نفسه دون أن تقول لي شيئا، فيما كانت تفضي للشخص الذي يقوم بجلبي بكلام يملؤه الأسي. ربما كانت تعتبر نفسها مريضة أو أنها كانت مريضة فعلا، لكن المؤكد أنها كانت كسولة جدا علي الطريقة الشرقية، وكانت تعاني بالتأكيد من حيوية جدي الملعونة.
ما لم أعرفه آنذاك هو أنه كان دائما في بؤرة الاهتمام أينما حل، كان مرهوب الجانب في عائلته. طاغية قادراً علي ذرف الدموع الساخنة لو طاب له ذلك، وكان أكثر شيء يطيب له هو البقاء مع أحفاده الذين يحملون اسمه. أما بين أصدقائه ومعارفه فكان محبوبا لصوته الجميل الذي كان يأسر النساء علي وجه الخصوص. عندما كان يدعي إلي مكان ما، كان لا يصطحب جدتي معه، فقد كان يعتبر غباءها ونحيبها الدائم حملا ثقيلا عليه. كثيرا ما كان الناس يلتفون حوله في حلقة كبيرة وكان يحكي لهم قصصا كان له فيها أدوار كثيرة، وفي مناسبات معينة كان يدفع الحضور إلي مطالبته بالغناء.
بخلاف الجدة كانيتي، كانت في روتشوك أشياء كثيرة تركية الطابع. أغنية الطفولة الأولي التي تعلمتها
Manzanicas colora das, las que vienen de Stambol (التفاحات الحمراء تأتي من اسطنبول) كانت تنتهي باسم المدينة التي كنت أسمع أنها ضخمة جدا وكنت أربطها دائما بالأتراك الذين كنت أراهم عندنا. كان ذكر "إدرين"- وهو الاسم التركي لأدريانوبل- التي ينتمي إليها جدي وجدتي يتردد كثيرا. كان جدي ينشد أغاني تركية لا نهاية لها، وكان ذلك مرتبطا بإطالة ترديد بعض المقاطع. بالنسبة لي كنت أفضل الأغاني الإسبانية التي تتميز بحماسة وسرعة أكبر.
غير بعيد عنا، كانت بيوت الأتراك الأثرياء، وكنا نميزها من القضبان الموجودة أمام النوافذ والتي تستخدم لحماية النساء. أول جريمة قتل أسمع بها كانت بسبب الغيرة وارتكبها تركي. في طريقنا لبيت جدي أرديتّي مرت بي أمي علي البيت الذي ارتكبت فيه الجريمة وأشارت إلي قضبان نافذة بأعلي وقالت لي إن تركية وقفت أمام النافذة ونظرت إلي رجل بلغاري عابر، فجاء زوجها التركي، وطعنها. لا أعتقد أنني قد فهمت ساعتها معني كلمة قتيل. لكنني عرفت بالأمر خلال هذه التمشية مع أمي. وقد سألتها إن كانت المرأة التركية التي عُثر عليها غارقة في بركة من دمائها، قد صحت ثانية. فأجابت "أبدا، لم تصح أبدا فقد كانت ميتة، هل تفهم ذلك؟" سمعتها لكنني لم أفهم وسألتها مجددا. وهكذا أرغمتها علي تكرار إجابتها عدة مرات، حتي بدأ صبرها ينفد وتحدثت عن موضوع آخر. لم تكن فقط القتيلة الغارقة في بركة دمائها هي الشيء الوحيد الذي ترك أثره لدي في هذه القصة، بل أثارتني أيضا غيرة الرجل التي دفعته للقتل. لقد أعجبني شيء في هذا الأمر وبقدر رفضي الشديد لمسألة موت المرأة نهائيا، بقدر ما تغلغلت الغيرة في نفسي دون أية مقاومة.
وقد شعرت بها في داخلي في نهاية هذه التمشية، عندما وصلنا إلي بيت الجد أرديتّي. كنا نزوره مرة في الأسبوع، كل يوم سبت. وكان يسكن في بيت فسيح محمر اللون. كنا ندخل من بوابة جانبية صغيرة علي يسار البيت إلي حديقة قديمة، أجمل كثيرا من حديقتنا. كان بها شجرة توت بأفرع دانية، يمكن تسلقها بسهولة لم يكن مسموحا لي بتسلقها. لكن أمي لم تمر أبدا من هناك دون أن تشير لي إلي أعلي حيث الفرع الذي كان مخبئها في طفولتها وحيث اعتادت أن تجلس عندما لم تكن ترغب في أن يزعجها أحد وهي تقرأ. كانت تنسحب بكتابها وتجلس في هدوء شديد، وكانت من الحذق بمكان بحيث لم يتمكن أحد من رؤيتها من أسفل ولم تكن تسمع عندما يناديها أحد، لأن الكتاب كان قد استحوذ علي إعجابها. لقد قرأت كل كتبها هناك. غير بعيد عن شجرة التوت توجد درجات السلم التي تقود إلي البيت، بُنيت غرفه علي ارتفاع أعلي من غرف بيتنا لكن ردهاته كانت مظلمة. وكنا نعبر غرفا كثيرة حتي نصل إلي آخر غرفة حيث يجلس جدي علي كرسي بمسندين، رجل قصير شاحب يلف نفسه دائما بشالات أو عباءات، لقد كان دائما عليلا.
تقول أمي:
Li beso las manos Seor Padre أي "إنني أقبل يديك أيها السيد الوالد"، ثم تدفعني أمامها، لم أكن أحبه، لكنني كنت مضطرا لتقبيل يده. لم يكن أبدا مرحا أو غاضبا أو لطيفا أو حازما، مثل جدي الآخر الذي أحمل اسمه. كان دائما علي الحال ذاتها، جالسا في كرسيه ذي المسندين ولم يكن يتحرك ولم يكن يتحدث إلي أو يهديني أي شيء، كان فقط يتبادل بعض العبارات مع أمي. وبعدها نأتي لختام الزيارة وهو الشيء الذي كنت أمقته لأنه كان يتكرر دائما بالوتيرة نفسها. كان ينظر إلي بابتسامة ماكرة ويسألني "من تحب أكثر، جدك أرديتّي أم جدك كانيتي؟" كان يعرف الإجابة، كل الناس، صغارهم وكبارهم، كانوا مغرمين بالجد كانيتي، أما هو فلم يكن هناك من يحبه. لكنه كان يريد إرغامي علي قول الحقيقة ويضعني بذلك في حيرة محرجة جدا، وكان يستمتع بهذا الأمر لأنه كان يتكرر كل سبت. كنت لا أقول شيئا في البداية وأنظر إليه بلا حول ولا قوة، ثم يعيد طرح السؤال حتي أصبح قادرا علي الكذب وأرد قائلا "كلاهما". حينها كان يرفع إصبعه مهددا ويصيح Fálsuأي إجابة خاطئة، وذلك بنبرة عالية وممدودة توحي بالتهديد والشكوي في الوقت ذاته، ولا زلت احتفظ بوقع هذه الكلمة في أذني وكأنني كنت بالأمس عنده.
في طريق الخروج عبر الغرف الكثيرة والردهات كنت أشعر بالذنب لأنني كذبت وكنت أشعر بحزن شديد. أما أمي وبرغم ارتباطها الوطيد بأسرتها وأنها ما كانت أبدا لتقطع زيارة يوم السبت، إلا أنها كنت تشعر ببعض الذنب لأنها كانت تعرضني دائما لهذا الاتهام الموجه بالأساس لجدي الآخر، والذي كنت أواجهه أنا بمفردي. وللتسرية عني كانت تأخذني بعد ذلك إلي حديقة الفواكه والورود الواقعة خلف المنزل، وتطلعني علي زهورها المفضلة عندما كانت طفلة، وتستنشق عطرها بعمق، كانت فتحتا أنفها واسعتين وكانتا تهتزان دائما. كانت ترفعني عاليا كي أتمكن أنا أيضا من شم رائحة الظهور وكانت تقطف لي بعض الفاكهة عندما تكون هناك بعض الثمار الناضجة، وهو أمر يجب ألا يعلم جدي عنه شيئا، لأن اليوم هو السبت. كانت تلك أروع حديقة أتذكرها، لم يكن معتني بها جيدا، بحيث تشابكت وتلاحمت أشجارها قليلا. ولا بد أن إقدام أمي- إرضاء لخاطري- علي فعل شيء ممنوع يجب ألا يعلم جدي شيئا عنه قد أزال شعوري بالذنب، ففي طريق العودة إلي بيتنا كنت أعود لنشاطي وحيويتي وأعاود طرح الأسئلة عليها.
في البيت عرفت من لاوريكا إن جدي أرديتّي يغار كثيرا لأن كل أحفاده يحبون جدهم الآخر أكثر منه، وأطلعتني علي ما اعتبرته السر الأعظم الكامن وراء هذه الغيرة، وهو أنه بخيل، لكنها قالت لي إنه ينبغي ألا أخبر أمي بذلك.
عيد المساخر
المذنَّب
رغم صغر سننا وعدم مشاركتنا فيه، كان عيد المساخر هو أكثر الأعياد التي كنا نحن الأطفال نستشعر صخبها بقوة. كان عيدا للفرحة، يذكر بإنقاذ اليهود من هامان الشرير الذي كان يلاحقهم. كانت شخصية هامان معروفة للجميع واسمه دخل أيضا إلي اللغة الدارجة، فقبل أن أعرف أنه كان رجلا حيا وأنه دبر أشياء فظيعة، عرفت اسمه كشتيمة. فعندما كنت أعذب الكبار طويلا بأسئلتي أو عندما كنت لا أرغب في الذهاب للنوم أو إذا لم أنفذ ما يريدونه مني كنت أسمع زفرة حادة مصحوبة ب"هامان"، عندئذ كنت أعرف أنه لا مجال للمزاح وأنني قد وصلت إلي نهاية عبثي. "هامان" كانت الكلمة الأخيرة، زفرة حادة وفي الوقت ذاته مسبة. كنت مندهشا جدا عندما أوضحوا لي بعدها بفترة بأن هامان كان رجلا شريرا يرغب في قتل كل اليهود. لكن مخططه فشل بفضل موردخاي والملكة إستر ولفرحهم بذلك يحتفل اليهود بعيد المساخر.
كان الكبار يتنكرون ويخرجون وكنا نسمع جلبة في الشوارع، أقنعة تظهر في بيتنا ولا أعرف من كان هؤلاء الذين يرتدونها، كما في الحكايات الخيالية، وفي الليل يبقي الوالدان لفترة طويلة خارج البيت. وكانا ينقلان إلينا هذا الإحساس العام بالإثارة المصاحب للعيد. كنت أرقد في سريري الطفولي متيقظا وأرهف السمع. أحيانا كان والداي يدخلان مقنعين ثم يكشفان عن أقنعتهما، وكان هذا أمرا ممتعا لكنني كنت أفضل أكثر ألا يزيلا القناع.
في إحدي الليالي وبعد أن كنت قد نعست، أيقظني ذئب ضخم مال علي سريري الصغير. وتدلي من فمه لسان طويل أحمر وكان يهسهس بشكل مرعب. صرخت بكل ما أوتيت من قوة: "ذئب!ذئب!". لم يسمعني أحد ولم يأت أحد لنجدتي، تعالي صراخي وأخذت أبكي. امتدت يد وأمسكت بالذئب من أذنيه وأنزلت رأسه لأسفل ووراءه وقف أبي يضحك. واصلت صراخي: "ذئب!ذئب!". وأردت أن يقوم أبي بإبعاده. أظهر لي قناع الذئب في يده، لكنني لم أصدقه ولم تكن ثمة جدوي من قوله "أتري، لقد كنت أنا ذلك، لم يكن ذئبا حقيقيا" إذ لم يكن من الممكن تهدئتي فواصلت النحيب والبكاء.
وهكذا أصبحت حكاية المستذئب، فأبي لم يكن ليعرف ماذا كانت الفتيات الصغير يحكين لي دائما، عندما كنا نتكوم سويا في الظلام. لقد لامت أمي نفسها بسبب القصة التي روتها لي عن الزلاجات، واتهمت أبي بأن لديه رغبة جامحة في التنكر. وأنه لا يرغب في عمل شيء آخر سوي التمثيل. أثناء ذهابه للمدرسة في فيينا، كانت أمنيته أن يصبح ممثلا. لكنه دُفع بلا هوادة في روتشوك إلي الانخراط في أعمال والده. ورغم وجود مسرح للهواة فيها، كان يشارك فيه بالتمثيل هو وأمي، لكن ذلك لم يكن شيئا يذكر مقارنة بأحلامه الفينياوية القديمة.وقد قالت أمي بأنه كان يتحرر فعليا من كل القيود في عيد المساخر، وأنه كان يبدل الأقنعة عدة مرات فيفاجئ الكثير من المعارف بمظهره الغريب ويلقي الرعب في قلوبهم.
ظل رعبي من الذئب قائما لوقت طويل وظللت ليلة بعد أخري أحلم بكوابيس، وأوقظ والديّ اللذين أنام معهما في الغرفة نفسها. كان أبي يقوم بتهدئتي حتي أتمكن من النوم، لكن الذئب كان يعاود الظهور في الحلم ولم نتخلص منه بسرعة. مذاك الحين اعتبرت طفلا في وضع خطر ولا يجب استثارة خياله أكثر من اللازم وكانت النتيجة هي أنني لم أستمع خلال أشهر عديدة إلا لقصص مملة نسيتها كلها.
الحدث الكبير التالي كان هو المذنَّب الكبير، ولأنني لم أفكر مذاك الحين في أحد الحدثين دون أن أفكر في الآخر، فلا شك أن ثمة سياقاً مشتركاً بين الأمرين. أعتقد أن ظهور المذنَّب قد حررني من الذئب، لقد ذاب هلعي الطفولي في الهلع العام الذي ساد تلك الأيام، فلم يسبق لي أن رأيت الناس في مثل هذه الحالة من الإثارة مثلما كانت الحال في فترة المذنَّب. كما أن كلا الحدثين، الذئب والمذنَّب قد وقعا ليلا وهو سبب آخر لتلاصقهما في ذاكرتي.
تحدث الجميع عن المذنَّب قبل أن أراه، وقد سمعت أن نهاية العالم قد حانت. لكنني لم أستطع تكوين أي تصور عما يعنيه ذلك، لكنني لاحظت أن الناس قد تغيروا وبدءوا في التهامس عند اقترابي منهم وكانوا ينظرون لي بعطف. لكن الفتيات البلغاريات لم يتهامسن، بل أفصحن عن كل شيء ومنهن عرفت بطريقتهن السوقية أن نهاية العالم قد حانت. كان هذا هو الاعتقاد عموما في المدينة ولا بد أنه قد ساد لفترة طويلة، لأنه قد ترك أثرا عميقا لدي دون أن أستشعر الخوف من شيء بعينه. ليس باستطاعتي التحدث عن مدي تأثر والدي كشخصين مثقفين بهذا الأمر، لكنني متأكد من أنهما لم يعارضا هذا الاعتقاد السائد، وإلا لقاما كما في حالات سابقة بعمل شيء من أجل توعيتي، لكنهما لم يفعلا.
في إحدي الليالي قيل لي إن المذنَّب موجود حاليا وأنه سيسقط علي الأرض. لم يذهبوني للنوم. وسمعت أحدهم يقول، لن يجدي ذلك نفعا الآن، ينبغي أن نحضر الأطفال إلي الحديقة. في فناء الحديقة الكبير تجمع أناس كثيرون، لم أر مثل هذا الجمع الغفير من قبل. كان الأطفال من بيتنا والبيوت المجاورة يقفون بين الكبار. والجميع صغارا وكبارا يحدقون في السماء حيث برز المذنَّب عملاقا ومضيئا. أراه ممتدا فوق نصف السماء وأشعر بالشد والتوتر في قفاي الذي حاولت بالاستعانة به تتبع طول المذنَّب. ربما يكون قد طال في ذاكرتي وربما لم يستحوذ علي نصف السماء بل علي جزء صغير منها. لا بد أن أترك الإجابة علي هذا السؤال لآخرين كانوا راشدين في تلك الفترة ولم ينتبهم الخوف.لكن الضوء كان قويا جدا كما في النهار تقريبا وكنت أعرف تماما أن الوقت لا بد أن يكون ليلا، لأن هذه هي المرة الأولي التي لم أكن فيها في السرير في مثل هذا الوقت، وفي الحقيقة كان هذا هو الحدث بالنسبة لي. وقف الجميع في فناء الحديقة ونظروا إلي السماء وانتظروا. لم يتحرك الكبار من أماكنهم تقريبا وساد هدوء غريب، فلم يتحدثوا إلا بصوت خافت، فيما كانت الحركة أكثر لدي الأطفال الذين لم يهتم الآخرون بهم كثيرا. في ظل هذا الترقب شعرت بشيء من الخوف الذي شمل الجميع، ولإزالة هذا الخوف، أعطاني أحدهم فرع شجرة مليء بالكرز. كانت في فمي كرزة ورفعت رأسي عاليا، من أجل أن أتتبع بعينيّ المذنَّب العملاق ونتيجة لهذا المجهود وربما أيضا بسبب الجمال الخلاب للمذنَّب نسيت الكرزة وبلعت بذرتها.
استغرق الأمر فترة طويلة، ولم ينل التعب من أحد، الجميع وقفوا سويا متلاصقين. لا أري أبي ولا أمي وحيدين، لا أري أحدا ممن شكلوا حياتي يقف وحيدا. لا أراهم كلهم إلا ضمن الجماعة، ولولا استخدامي لهذه الكلمة كثيرا في وقت لاحق لكنت سأقول إنني أراهم حشدا: إنه حشد الترقب المضطرب.
اللغة السحرية
النار
كانت عملية التنظيف الكبري للبيت تتم قبل عيد الفصح اليهودي، فينقلب البيت رأسا علي عقب ولا يبقي شيء في مكانه. ونظرا لأن عملية التنظيف هذه تبدأ مبكرا- وكانت تستغرق علي ما أعتقد نحو أسبوعين- فقد كانت تلك هي فترة الفوضي الكبري. لم يكن هناك من لديه وقت لي، ودائما ما كنت أقف عقبة في الطريق ويضطر الآخرون لإزاحتي جانبا أو إبعادي عن المكان. وفي المطبخ كان يتم التحضير لأشياء مثيرة، ولم يكن مسموحا لي سوي بإلقاء نظرة سريعة عليها. كان البيض البني الذي تم سلقه لأيام في القهوة هو الشيء المفضل لدي.
في ليلة العيد "ليل هسيدر" تبسط المائدة الطويلة في غرفة المعيشة وربما يجب أن تتميز الغرفة الخاصة بهذه المناسبة بالطول، لأن المائدة تستوعب عددا كبيرا من الضيوف. كانت العائلة كلها تتجمع في هذه الليلة التي يتم الاحتفال بها في بيتنا. وكان من بين العادات دعوة شخصين أو ثلاثة أشخاص غرباء من المارة في الشارع للمشاركة في المائدة الاحتفالية وفي كل الاحتفالات.
كان جدي يجلس علي رأس المائدة ويقرأ من "الهغاداه" أي قصة خروج اليهود من مصر. كانت تلك هي أكثر اللحظات التي يفتخر بها، ليس فقط لأنه يترأس أبناءه وأزواج بناته الذين أظهروا تبجيلهم له واتبعوا كل تعليماته، فهو، الأكبر سنا، برأسه الحاد الذي يشبه رأس طير جارح كان أكثرهم توهجا، ولم يفته أي شيء، وكان أثناء ترتيله ، يلاحظ أقل حركة علي المائدة. ويعمل علي استعادة النظام بنظرة أو بحركة يد غير لافتة. كان كل شيء دافئا وكثيفا، إنها أجواء الحكاية القديمة جدا التي يجري عرضها بدقة وإتقان شديدين. كان جدي يستحوذ كثيرا علي إعجابي في "ليالي الهسيدر"، وحتي أبناؤه الذين لم تكن علاقتهم معه سهلة، كانوا يبدون منسجمين ورائقي المزاج.
وبوصفي أصغر أفراد العائلة، كانت توكل إلي مهمة ليست بالتافهة وهي غناء ترنيمة "مانشتانا" أي "كيف تختلف"، إذ عادة ما يتم سرد قصة الخروج من مصر عبر طرح أسئلة عن مناسبة العيد. ففي مستهل الاحتفال يسأل أصغر الحاضرين مباشرة عن معني كل هذه الطقوس: الفطير غير المخمر والأعشاب المرة وكل الأشياء غير المعتادة الموجودة علي المائدة. ويجيب الراوي، وهو في هذه الحالة جدي، علي السؤال بأن يحكي قصة الخروج من مصر باستفاضة. وبدون سؤالي الذي كنت أردده عن ظهر قلب، رغم إنني كنت أمسك بالكتاب وأتظاهر بقراءته، ما كان للحكاية أن تبدأ. كانت تفاصيل القصة معروفة لي، فقد شُرحت لي كثيرا، رغم ذلك لم يفارقني الشعور بأن جدي كان يجيب أثناء روايته للقصة علي سؤالي. لذا فقد كانت تلك ليلة عظيمة لي أنا أيضا، وكنت أحس بأهميتي وبأنه لا غني عني فيها، ولحسن الحظ لم يكن هناك من أبناء العمومة من يصغرني سنا وإلا لكان بإمكانه إن ينتزع مني هذه المكانة.
لكن رغم متابعتي لكل كلمة وكل حركة تصدر عن جدي، فقد كنت أتوق طوال فترة التراتيل للنهاية، فعندها كان يأتي أجمل ما في الحفل، إذ يقف الرجال فجأة ويرقصون سويا ويغنون "هاد غديا، هاد غديا!" أي "حمل صغير، حمل صغير!" كانت أغنية مرحة وكنت أعرفها جيدا، ومع ذلك كان من المعتاد أن يلوح لي أحد أعمامي بمجرد انتهاء الأغنية ويطلب مني ترجمة أبياتها بيتا بيتا إلي الإسبانية.
عندما كان أبي يعود من العمل، كان ينخرط مباشرة في حديث مع أمي. كانا يحبان بعضهما جدا في هذه الفترة وكانت بينهما لغة مشتركة خاصة لم أكن أفهمها، كانا يتكلمان بالألمانية، لغة الفترة السعيدة التي ذهبا خلالها إلي المدرسة في فيينا. وكان مسرح بورغ هو موضوع حديثهما الأثير، ففيه شاهدا، قبل تعارفهما، المسرحيات نفسها والممثلين عينهم، ولم يتوقف سيل ذكرياتهما عن تلك الفترة أبدا. وقد عرفت لاحقا أنهما قد وقعا في غرام بعضهما البعض عبر أحاديث كهذه. ورغم أن أيا منهما لم يستطع تحقيق حلمه- كلاهما كان يتمني أن يصبح ممثلا- فقد تمكنا من إتمام زواجهما رغم وجود اعتراضات كثيرة عليه.
عارض جدي أرديتّي الذي ينحدر من سلالة واحدة من أقدم وأغني عائلات اليهود السفارديم في بلغاريا، زواج أصغر بناته وأحبهن إلي قلبه بابن أحد الوافدين من أدريانوبل. كان الجد كانيتي رجلا عصاميا، بدأ حياته كطفل يتيم مخدوع، واجه الحياة في الشوارع في سن صغيرة، ورغم تمكنه من تحقيق الثروة، إلا أنه ظل في نظر الجد الآخر مهرجا وكذابا. Es mentiroso أي "إنه كذاب"، سمعته يقول ذلك ذات مرة، وكان غير مدرك بأنني أصغي لكلامه. لكن الجد كانيتي لم يأبه لعنجهية آل أرديتي تجاهه، فقد كان بإمكان ابنه أن يتزوج بأي فتاة يرغب بها، ولم تكن ثمة ضرورة لأن يتزوج بالذات من ابنة هذه العائلة. لذلك بقيت علاقة والداي في البداية سرية، وفقط بالتدريج وبصعوبة شديدة وعبر الدعم الفعال للإخوة الكبار والأقرباء ذوي النوايا الطيبة، أمكن لهما الاقتراب من تحقيق أمنيتهما. وفي نهاية المطاف استسلم كبيرا العائلتين، لكن التوتر بينهما ظل قائما و أبدالم يستطع أيا منهما تحمل الآخر. وخلال الفترة السرية للعلاقة بين الشاب والفتاة تغذي حبهما باستمرار علي هذه الأحاديث الألمانية، وربما يمكننا أن نتخيل الدور الذي لعبته ثنائيات العشق المسرحي في هذه الأحاديث.
لذلك فقد كانت لدي أسباب كافية للشعور بالإقصاء عندما كان والداي يبدآن أحاديثهما تلك. ومعها كانا يصبحان أكثر حيوية ومرحا وكنت أربط هذا التحول بوقع اللغة الألمانية. كنت أصغي إليهما بتوثب شديد وأسألهما عن معني هذه الكلمة أو تلك. وكانا يضحكان ويقولان إنه من المبكر جدا أن يشرحا لي ذلك، إنها أشياء سأتمكن فيما بعد من فهمها. وقد كان كافيا جدا أن أفصحا لي عن معني كلمة واحدة وهي Wien أي فيينا. كنت أظن أنه لا بد أن ثمة أشياء رائعة لا يمكن قولها إلا بهذه اللغة. وعندما كان إلحاحي يطول دون جدوي، كنت أهرع غاضبا إلي غرفة أخري يندر استخدامها وأردد لنفسي بدقة تامة الجمل التي سمعتها منهم، وكأنها عبارات سحرية، ظللت أتدرب عليها كثيرا، وبمجرد أن أصبح وحيدا كنت أطلق العنان لترديد كل الجمل وأيضا الكلمات المفردة التي تعلمتها واحدة تلو الأخري، بسرعة كبيرة بحيث أضمن ألا يفهمني أحد. وكنت أحرص علي ألا يلاحظ والداي أي شيء من ذلك وهكذا جعلت سري مقابلا لسرهم.
وقد اكتشفت أن أبي كان يحتفظ باسم لأمي لا يستخدمه إلا عند حديثهما بالألمانية. كان اسمها ماتيلدا وكان يسميها "ميدي". ذات مرة وقفت في الحديقة وغيرت صوتي بقدر المستطاع وأخذت أنادي "ميدي! ميدي!". هكذا كان يناديها أبي من فناء الحديقة عند عودته إلي البيت. ثم جريت بسرعة وطفت حول البيت ثم اختفيت بعض الوقت وعدت مجددا بسحنتي البريئة. وقفت أمي حائرة وسألتني إن كنت قد رأيت أبي. كان ظنها بأن صوتي هو صوت أبي بمثابة انتصار لي، وقد كنت من القوة بمكان بحيث احتفظت لنفسي بسر الحكاية التي وصفتها أمي لأبي بأنها غير مفهومة.
لم يخطر ببالهما أن يشكا في، لكن فهم ما يقولانه بلغتهما السرية كان من الأمنيات الملحة الكثيرة لدي في تلك الفترة. لا يمكنني أن أفهم لماذا لم أغضب من والدي بسبب ذلك، واحتفظت بالأحري بغضب دفين علي أمي، لم تزل غشاوته إلا بعد سنوات عدة من وفاة والدي عندما بدأت هي بنفسها في تعليمي الألمانية.
في أحد الأيام غطي الدخان فناء الحديقة، وأسرع بعض من خادماتنا الصغيرات إلي الشارع وعدن بسرعة منفعلات وهن يحملن النبأ بأن بيتا مجاورا يحترق وأن النيران اشتعلت في كامل أنحائه، وأن الحريق دمره تماما. وعلي الفور خلت البيوت الثلاثة المحيطة بفنائنا من سكانها، فباستثناء الجدة الأم التي لم تغادر كنبتها أبدا هرع الجميع إلي خارج البيت. حدث ذلك بسرعة شديدة لدرجة أنهم نسوني. شعرت بقليل من الخوف وأنا وحدي تماما.
معنوياتي. الجدة أرديتّي التي نادرا ما كانت تأتي إلي بيتنا قالت: "الآن هي في حال أفضل"، أما أمي فلم تقل شيئا. خفت منها وجريت خارج الغرفة ولم أبق عند الباب. لفترة طويلة بعدها ظلت أمي غريبة عني واستغرق الأمر شهورا حتي استعدت ثقتي بها.
ثم كان حفل الختان هو الحدث التالي الذي شهدته عيناي. جاء أناس كثيرون إلي البيت. وسُمح لي برؤية عملية الختان. وتولد لدي انطباع بأنهم تعمدوا جلبي لمشاهدتها، كل الأبواب كانت مفتوحة وباب البيت أيضا. في غرفة المعيشة كانت هناك مائدة طويلة أُعدت للضيوف وفي غرفة أخري جرت عملية الختان. كل الموجودين فيها كانوا رجالا وكلهم كانوا واقفين. أمسكوا بأخي الصغير الضئيل فوق وعاء ثم رأيت السكين، ورأيت دما كثيرا جدا يتقاطر في الوعاء.
سُمي أخي "نِسيم" علي اسم جدي لأمي، وقد أوضحوا لي أنني الابن الأكبر ولهذا سُميت علي اسم جدي لأبي. لقد حظيت مكانة الابن الأكبر بالكثير من الثناء والمديح بحيث أصبحتُ من لحظة عملية الختان هذه شديد الوعي بها، ولم يفارقني الفخر والاعتزاز بهذه المكانة أبدا.
علي المائدة سادت أجواء مرحة، وقمت أنا بعمل جولة ببنطلوني، ولم أهدأ حتي لاحظ كل الضيوف ارتدائي له. وعندما كان يأتي ضيوف جدد كنت أهرع إليهم عند الباب وأقف أمامهم وكلي ترقب. لقد كانت هناك حركة كثيفة من الرواح والغدو، وعندما أصبح الجميع موجودين، لاحظنا غياب ابن عمتي جاك. قال أحدهم إنه "إنه خرج بدراجته"، وقد قوبل تصرفه هذا باستهجان. وبعد الطعام عاد جاك مغبر الملابس. لقد رأيته عندما قفز من فوق دراجته أمام المنزل ، كان يكبرني بثمانية أعوام ويرتدي زي المدرسة الثانوية. وقد أبلغني بالخبر الرائع الجديد وهو أنه حصل علي هذه الدراجة أمس كهدية. ثم حاول أن يتسلل بين الضيوف إلي البيت دون أن يلحظه أحد، فاندفعت قائلا إنني أريد أيضا دراجة، حينها انقضت عليه أمه، عمتي صوفيا، وأخذته معها للصلاة، أما هو فأشار لي بإصبعه مهددا واختفي ثانية.
في هذا اليوم أدركت أيضا أنه يتوجب علي المرء أن يأكل بفم مغلق. ريجينا، أخت مالك الدراجة كانت تأكل نُقلا ووقفت أنا أمامها مشدودا لكونها تمضغ بفم مغلق. لقد استغرق ذلك وقتا طويلا وعندما انتهت قالت لي إن علي أن أفعل ذلك أيضا وإلا سيجعلونني أعود لارتداء التنورات. ولا بد أنني تعلمت ذلك بسرعة شديدة، لأنني لم أكن أرغب، لأي سبب كان، في التخلي مجددا عن بنطلوني.
بيت الأتراك
كلا الجدين
أحيانا كانوا يأخذونني إلي بيت جدي كانيتي أثناء وجوده في المحل، لكي أزور جدتي. كانت تجلس علي أريكة تركية وتدخن وتشرب القهوة السوداء. كانت دائما في البيت ولم تخرج أبدا، ولا أذكر أنني رأيتها آنذاك لو لمرة واحدة خارج المنزل. كان اسمها لاورا وأصلها كان مثل جدي من أدريانوبل. وهو كان يسميها "أورو"، أي ذهب، ولم أفهم أبدا سر هذه التسمية. من بين كل أقربائي ظلت هي الأكثر احتفاظا بالطابع التركي. لم تكن تقوم من جلستها علي الأريكة ولا أعرف كيف وصلت إليها، فأنا لم أرها تمشي قط. وكانت تتنهد بين الحين والآخر وتشرب قدحا آخر من القهوة وتدخن. كانت تستقبلني بصوت شاك ثم تصرفني بالأنين نفسه دون أن تقول لي شيئا، فيما كانت تفضي للشخص الذي يقوم بجلبي بكلام يملؤه الأسي. ربما كانت تعتبر نفسها مريضة أو أنها كانت مريضة فعلا، لكن المؤكد أنها كانت كسولة جدا علي الطريقة الشرقية، وكانت تعاني بالتأكيد من حيوية جدي الملعونة.
ما لم أعرفه آنذاك هو أنه كان دائما في بؤرة الاهتمام أينما حل، كان مرهوب الجانب في عائلته. طاغية قادراً علي ذرف الدموع الساخنة لو طاب له ذلك، وكان أكثر شيء يطيب له هو البقاء مع أحفاده الذين يحملون اسمه. أما بين أصدقائه ومعارفه فكان محبوبا لصوته الجميل الذي كان يأسر النساء علي وجه الخصوص. عندما كان يدعي إلي مكان ما، كان لا يصطحب جدتي معه، فقد كان يعتبر غباءها ونحيبها الدائم حملا ثقيلا عليه. كثيرا ما كان الناس يلتفون حوله في حلقة كبيرة وكان يحكي لهم قصصا كان له فيها أدوار كثيرة، وفي مناسبات معينة كان يدفع الحضور إلي مطالبته بالغناء.
بخلاف الجدة كانيتي، كانت في روتشوك أشياء كثيرة تركية الطابع. أغنية الطفولة الأولي التي تعلمتها
Manzanicas colora das, las que vienen de Stambol (التفاحات الحمراء تأتي من اسطنبول) كانت تنتهي باسم المدينة التي كنت أسمع أنها ضخمة جدا وكنت أربطها دائما بالأتراك الذين كنت أراهم عندنا. كان ذكر "إدرين"- وهو الاسم التركي لأدريانوبل- التي ينتمي إليها جدي وجدتي يتردد كثيرا. كان جدي ينشد أغاني تركية لا نهاية لها، وكان ذلك مرتبطا بإطالة ترديد بعض المقاطع. بالنسبة لي كنت أفضل الأغاني الإسبانية التي تتميز بحماسة وسرعة أكبر.
غير بعيد عنا، كانت بيوت الأتراك الأثرياء، وكنا نميزها من القضبان الموجودة أمام النوافذ والتي تستخدم لحماية النساء. أول جريمة قتل أسمع بها كانت بسبب الغيرة وارتكبها تركي. في طريقنا لبيت جدي أرديتّي مرت بي أمي علي البيت الذي ارتكبت فيه الجريمة وأشارت إلي قضبان نافذة بأعلي وقالت لي إن تركية وقفت أمام النافذة ونظرت إلي رجل بلغاري عابر، فجاء زوجها التركي، وطعنها. لا أعتقد أنني قد فهمت ساعتها معني كلمة قتيل. لكنني عرفت بالأمر خلال هذه التمشية مع أمي. وقد سألتها إن كانت المرأة التركية التي عُثر عليها غارقة في بركة من دمائها، قد صحت ثانية. فأجابت "أبدا، لم تصح أبدا فقد كانت ميتة، هل تفهم ذلك؟" سمعتها لكنني لم أفهم وسألتها مجددا. وهكذا أرغمتها علي تكرار إجابتها عدة مرات، حتي بدأ صبرها ينفد وتحدثت عن موضوع آخر. لم تكن فقط القتيلة الغارقة في بركة دمائها هي الشيء الوحيد الذي ترك أثره لدي في هذه القصة، بل أثارتني أيضا غيرة الرجل التي دفعته للقتل. لقد أعجبني شيء في هذا الأمر وبقدر رفضي الشديد لمسألة موت المرأة نهائيا، بقدر ما تغلغلت الغيرة في نفسي دون أية مقاومة.
وقد شعرت بها في داخلي في نهاية هذه التمشية، عندما وصلنا إلي بيت الجد أرديتّي. كنا نزوره مرة في الأسبوع، كل يوم سبت. وكان يسكن في بيت فسيح محمر اللون. كنا ندخل من بوابة جانبية صغيرة علي يسار البيت إلي حديقة قديمة، أجمل كثيرا من حديقتنا. كان بها شجرة توت بأفرع دانية، يمكن تسلقها بسهولة لم يكن مسموحا لي بتسلقها. لكن أمي لم تمر أبدا من هناك دون أن تشير لي إلي أعلي حيث الفرع الذي كان مخبئها في طفولتها وحيث اعتادت أن تجلس عندما لم تكن ترغب في أن يزعجها أحد وهي تقرأ. كانت تنسحب بكتابها وتجلس في هدوء شديد، وكانت من الحذق بمكان بحيث لم يتمكن أحد من رؤيتها من أسفل ولم تكن تسمع عندما يناديها أحد، لأن الكتاب كان قد استحوذ علي إعجابها. لقد قرأت كل كتبها هناك. غير بعيد عن شجرة التوت توجد درجات السلم التي تقود إلي البيت، بُنيت غرفه علي ارتفاع أعلي من غرف بيتنا لكن ردهاته كانت مظلمة. وكنا نعبر غرفا كثيرة حتي نصل إلي آخر غرفة حيث يجلس جدي علي كرسي بمسندين، رجل قصير شاحب يلف نفسه دائما بشالات أو عباءات، لقد كان دائما عليلا.
تقول أمي:
Li beso las manos Seor Padre أي "إنني أقبل يديك أيها السيد الوالد"، ثم تدفعني أمامها، لم أكن أحبه، لكنني كنت مضطرا لتقبيل يده. لم يكن أبدا مرحا أو غاضبا أو لطيفا أو حازما، مثل جدي الآخر الذي أحمل اسمه. كان دائما علي الحال ذاتها، جالسا في كرسيه ذي المسندين ولم يكن يتحرك ولم يكن يتحدث إلي أو يهديني أي شيء، كان فقط يتبادل بعض العبارات مع أمي. وبعدها نأتي لختام الزيارة وهو الشيء الذي كنت أمقته لأنه كان يتكرر دائما بالوتيرة نفسها. كان ينظر إلي بابتسامة ماكرة ويسألني "من تحب أكثر، جدك أرديتّي أم جدك كانيتي؟" كان يعرف الإجابة، كل الناس، صغارهم وكبارهم، كانوا مغرمين بالجد كانيتي، أما هو فلم يكن هناك من يحبه. لكنه كان يريد إرغامي علي قول الحقيقة ويضعني بذلك في حيرة محرجة جدا، وكان يستمتع بهذا الأمر لأنه كان يتكرر كل سبت. كنت لا أقول شيئا في البداية وأنظر إليه بلا حول ولا قوة، ثم يعيد طرح السؤال حتي أصبح قادرا علي الكذب وأرد قائلا
"كلاهما". حينها كان يرفع إصبعه مهددا ويصيح Fálsuأي إجابة خاطئة، وذلك بنبرة عالية وممدودة توحي بالتهديد والشكوي في الوقت ذاته، ولا زلت احتفظ بوقع هذه الكلمة في أذني وكأنني كنت بالأمس عنده.
في طريق الخروج عبر الغرف الكثيرة والردهات كنت أشعر بالذنب لأنني كذبت وكنت أشعر بحزن شديد. أما أمي وبرغم ارتباطها الوطيد بأسرتها وأنها ما كانت أبدا لتقطع زيارة يوم السبت، إلا أنها كنت تشعر ببعض الذنب لأنها كانت تعرضني دائما لهذا الاتهام الموجه بالأساس لجدي الآخر، والذي كنت أواجهه أنا بمفردي. وللتسرية عني كانت تأخذني بعد ذلك إلي حديقة الفواكه والورود الواقعة خلف المنزل، وتطلعني علي زهورها المفضلة عندما كانت طفلة، وتستنشق عطرها بعمق، كانت فتحتا أنفها واسعتين وكانتا تهتزان دائما. كانت ترفعني عاليا كي أتمكن أنا أيضا من شم رائحة الظهور وكانت تقطف لي بعض الفاكهة عندما تكون هناك بعض الثمار الناضجة، وهو أمر يجب ألا يعلم جدي عنه شيئا، لأن اليوم هو السبت. كانت تلك أروع حديقة أتذكرها، لم يكن معتني بها جيدا، بحيث تشابكت وتلاحمت أشجارها قليلا. ولا بد أن إقدام أمي- إرضاء لخاطري- علي فعل شيء ممنوع يجب ألا يعلم جدي شيئا عنه قد أزال شعوري بالذنب، ففي طريق العودة إلي بيتنا كنت أعود لنشاطي وحيويتي وأعاود طرح الأسئلة عليها.
في البيت عرفت من لاوريكا إن جدي أرديتّي يغار كثيرا لأن كل أحفاده يحبون جدهم الآخر أكثر منه، وأطلعتني علي ما اعتبرته السر الأعظم الكامن وراء هذه الغيرة، وهو أنه بخيل، لكنها قالت لي إنه ينبغي ألا أخبر أمي بذلك.
عيد المساخر
المذنَّب
رغم صغر سننا وعدم مشاركتنا فيه، كان عيد المساخر هو أكثر الأعياد التي كنا نحن الأطفال نستشعر صخبها بقوة. كان عيدا للفرحة، يذكر بإنقاذ اليهود من هامان الشرير الذي كان يلاحقهم. كانت شخصية هامان معروفة للجميع واسمه دخل أيضا إلي اللغة الدارجة، فقبل أن أعرف أنه كان رجلا حيا وأنه دبر أشياء فظيعة، عرفت اسمه كشتيمة. فعندما كنت أعذب الكبار طويلا بأسئلتي أو عندما كنت لا أرغب في الذهاب للنوم أو إذا لم أنفذ ما يريدونه مني كنت أسمع زفرة حادة مصحوبة ب"هامان"، عندئذ كنت أعرف أنه لا مجال للمزاح وأنني قد وصلت إلي نهاية عبثي. "هامان" كانت الكلمة الأخيرة، زفرة حادة وفي الوقت ذاته مسبة. كنت مندهشا جدا عندما أوضحوا لي بعدها بفترة بأن هامان كان رجلا شريرا يرغب في قتل كل اليهود. لكن مخططه فشل بفضل موردخاي والملكة إستر ولفرحهم بذلك يحتفل اليهود بعيد المساخر.
كان الكبار يتنكرون ويخرجون وكنا نسمع جلبة في الشوارع، أقنعة تظهر في بيتنا ولا أعرف من كان هؤلاء الذين يرتدونها، كما في الحكايات الخيالية، وفي الليل يبقي الوالدان لفترة طويلة خارج البيت. وكانا ينقلان إلينا هذا الإحساس العام بالإثارة المصاحب للعيد. كنت أرقد في سريري الطفولي متيقظا وأرهف السمع. أحيانا كان والداي يدخلان مقنعين ثم يكشفان عن أقنعتهما، وكان هذا أمرا ممتعا لكنني كنت أفضل أكثر ألا يزيلا القناع.
في إحدي الليالي وبعد أن كنت قد نعست، أيقظني ذئب ضخم مال علي سريري الصغير. وتدلي من فمه لسان طويل أحمر وكان يهسهس بشكل مرعب. صرخت بكل ما أوتيت من قوة: "ذئب!ذئب!". لم يسمعني أحد ولم يأت أحد لنجدتي، تعالي صراخي وأخذت أبكي. امتدت يد وأمسكت بالذئب من أذنيه وأنزلت رأسه لأسفل ووراءه وقف أبي يضحك. واصلت صراخي: "ذئب!ذئب!". وأردت أن يقوم أبي بإبعاده. أظهر لي قناع الذئب في يده، لكنني لم أصدقه ولم تكن ثمة جدوي من قوله "أتري، لقد كنت أنا ذلك، لم يكن ذئبا حقيقيا" إذ لم يكن من الممكن تهدئتي فواصلت النحيب والبكاء.
وهكذا أصبحت حكاية المستذئب، فأبي لم يكن ليعرف ماذا كانت الفتيات الصغير يحكين لي دائما، عندما كنا نتكوم سويا في الظلام. لقد لامت أمي نفسها بسبب القصة التي روتها لي عن الزلاجات، واتهمت أبي بأن لديه رغبة جامحة في التنكر. وأنه لا يرغب في عمل شيء آخر سوي التمثيل. أثناء ذهابه للمدرسة في فيينا، كانت أمنيته أن يصبح ممثلا. لكنه دُفع بلا هوادة في روتشوك إلي الانخراط في أعمال والده. ورغم وجود مسرح للهواة فيها، كان يشارك فيه بالتمثيل هو وأمي، لكن ذلك لم يكن شيئا يذكر مقارنة بأحلامه الفينياوية القديمة.وقد قالت أمي بأنه كان يتحرر فعليا من كل القيود في عيد المساخر، وأنه كان يبدل الأقنعة عدة مرات فيفاجئ الكثير من المعارف بمظهره الغريب ويلقي الرعب في قلوبهم.
ظل رعبي من الذئب قائما لوقت طويل وظللت ليلة بعد أخري أحلم بكوابيس، وأوقظ والديّ اللذين أنام معهما في الغرفة نفسها. كان أبي يقوم بتهدئتي حتي أتمكن من النوم، لكن الذئب كان يعاود الظهور في الحلم ولم نتخلص منه بسرعة. مذاك الحين اعتبرت طفلا في وضع خطر ولا يجب استثارة خياله أكثر من اللازم وكانت النتيجة هي أنني لم أستمع خلال أشهر عديدة إلا لقصص مملة نسيتها كلها.
الحدث الكبير التالي كان هو المذنَّب الكبير، ولأنني لم أفكر مذاك الحين في أحد الحدثين دون أن أفكر في الآخر، فلا شك أن ثمة سياقاً مشتركاً بين الأمرين. أعتقد أن ظهور المذنَّب قد حررني من الذئب، لقد ذاب هلعي الطفولي في الهلع العام الذي ساد تلك الأيام، فلم يسبق لي أن رأيت الناس في مثل هذه الحالة من الإثارة مثلما كانت الحال في فترة المذنَّب. كما أن كلا الحدثين، الذئب والمذنَّب قد وقعا ليلا وهو سبب آخر لتلاصقهما في ذاكرتي.
تحدث الجميع عن المذنَّب قبل أن أراه، وقد سمعت أن نهاية العالم قد حانت. لكنني لم أستطع تكوين أي تصور عما يعنيه ذلك، لكنني لاحظت أن الناس قد تغيروا وبدءوا في التهامس عند اقترابي منهم وكانوا ينظرون لي بعطف. لكن الفتيات البلغاريات لم يتهامسن، بل أفصحن عن كل شيء ومنهن عرفت بطريقتهن السوقية أن نهاية العالم قد حانت. كان هذا هو الاعتقاد عموما في المدينة ولا بد أنه قد ساد لفترة طويلة، لأنه قد ترك أثرا عميقا لدي دون أن أستشعر الخوف من شيء بعينه. ليس باستطاعتي التحدث عن مدي تأثر والدي كشخصين مثقفين بهذا الأمر، لكنني متأكد من أنهما لم يعارضا هذا الاعتقاد السائد، وإلا لقاما كما في حالات سابقة بعمل شيء من أجل توعيتي، لكنهما لم يفعلا.
في إحدي الليالي قيل لي إن المذنَّب موجود حاليا وأنه سيسقط علي الأرض. لم يذهبوني للنوم. وسمعت أحدهم يقول، لن يجدي ذلك نفعا الآن، ينبغي أن نحضر الأطفال إلي الحديقة. في فناء الحديقة الكبير تجمع أناس كثيرون، لم أر مثل هذا الجمع الغفير من قبل. كان الأطفال من بيتنا والبيوت المجاورة يقفون بين الكبار. والجميع صغارا وكبارا يحدقون في السماء حيث برز المذنَّب عملاقا ومضيئا. أراه ممتدا فوق نصف السماء وأشعر بالشد والتوتر في قفاي الذي حاولت بالاستعانة به تتبع طول المذنَّب. ربما يكون قد طال في ذاكرتي وربما لم يستحوذ علي نصف السماء بل علي جزء صغير منها. لا بد أن أترك الإجابة علي هذا السؤال لآخرين كانوا راشدين في تلك الفترة ولم ينتبهم الخوف.لكن الضوء كان قويا جدا كما في النهار تقريبا وكنت أعرف تماما أن الوقت لا بد أن يكون ليلا، لأن هذه هي المرة الأولي التي لم أكن فيها في السرير في مثل هذا الوقت، وفي الحقيقة كان هذا هو الحدث بالنسبة لي. وقف الجميع في فناء الحديقة ونظروا إلي السماء وانتظروا. لم يتحرك الكبار من أماكنهم تقريبا وساد هدوء غريب، فلم يتحدثوا إلا بصوت خافت، فيما كانت الحركة أكثر لدي الأطفال الذين لم يهتم الآخرون بهم كثيرا. في ظل هذا الترقب شعرت بشيء من الخوف الذي شمل الجميع، ولإزالة هذا الخوف، أعطاني أحدهم فرع شجرة مليء بالكرز. كانت في فمي كرزة ورفعت رأسي عاليا، من أجل أن أتتبع بعينيّ المذنَّب العملاق ونتيجة لهذا المجهود وربما أيضا بسبب الجمال الخلاب للمذنَّب نسيت الكرزة وبلعت بذرتها.
استغرق الأمر فترة طويلة، ولم ينل التعب من أحد، الجميع وقفوا سويا متلاصقين. لا أري أبي ولا أمي وحيدين، لا أري أحدا ممن شكلوا حياتي يقف وحيدا. لا أراهم كلهم إلا ضمن الجماعة، ولولا استخدامي لهذه الكلمة كثيرا في وقت لاحق لكنت سأقول إنني أراهم حشدا: إنه حشد الترقب المضطرب.
أولي ذكرياتي
أولي ذكرياتي غارقة في الأحمر. أخرجُ من أحد الأبواب علي ذراع فتاة: الأرضية أمامي حمراء وعلي الجهة اليسري ثمة درج هابط وهو بدوره أحمر أيضا. في الجهة المقابلة ينفتح باب ويخرج منه رجل باسم، يتوجه إليّ بود. يقترب مني ويقف ويقول لي: "أرني لسانك!". أُخرج لساني، ثم يضع هو يده في جيبه ويخرج مدية جيب ويفتحها، ويمرر حدها بالقرب جدا من لساني ويقول: "الآن نقطع له لسانه." لا أجرؤ علي سحب لساني، فيما يقترب هو مني أكثر ويكون علي وشك أن يمس لساني بحد المدية. في آخر لحظة يسحب المدية ويقول: "ليس اليوم، سنفعل ذلك غدا". ثم يغلق المدية ويضعها في جيبه.
كل يوم نخرج من الباب إلي الدهليز الأحمر وينفتح الباب ويظهر الرجل الباسم. أعرف ما سيقوله وانتظر أمره بإخراج لساني. أعرف أنه سيقطعه ويزداد خوفي في كل مرة. يبدأ اليوم بهذا الأمر ويتكرر مرارا.
احتفظت بسر هذه الذكري لنفسي وبعد سنوات عديدة سألت أمي عن ذلك. من حديثي عن اللون الأحمر المنتشر في أرجاء المكان تعرفت أمي علي بنسيون في كارلسباد قضينا فيه مع والدي صيف عام 1907 ولرعايتي كطفل عمره سنتان ونصف أخذ والداي معهما مربية من بلغاريا لم تكد تبلغ الخامسة عشرة من عمرها. وقد اعتادت أن تخرج في الصباح الباكر حاملة الطفل علي ذراعها، ورغم أنها لا تتكلم سوي البلغارية كانت تتحرك بسهولة ويسر في أنحاء المدينة المزدحمة وتعود دائما كل يوم في الموعد المحدد بالضبط. في أحد الأيام شوهدت مع شاب غريب في الشارع ولم تعرف ماذا تقول عنه، فقالت إنها عرفته بالصدفة. بعد بضعة أسابيع تبين أن الشاب يسكن الغرفة المقابلة لنا في الجهة المقابلة من الدور. والفتاة كانت تهرع إليه أحيانا في الليل. شعر والداي بمسؤوليتهما تجاهها وأرسلاها علي الفور إلي بلغاريا.
كلاهما، الفتاة والشاب كانا يخرجان مبكرا جدا من البنسيون ولا بد أنهما تعارفا علي هذا النحو. التهديد بالمدية ترك أثره، إذ تكتم الطفل علي الأمر لعشر سنوات.
فخر العائلة
روتشوك الواقعة علي الدانوب الأسفل، حيث وُلدت، كانت مدينة رائعة بالنسبة لي كطفل، وعندما أقول أنها تقع في بلغاريا، فإنني أعطي من خلال ذلك تصورا قاصرا عنها، إذ عاش هناك أناس من أجناس وأصول مختلفة، وخلال يوم واحد كان بإمكان المرء سماع سبع أو ثماني لغات. فبالإضافة إلي البلغار، القادمين من الريف كان هناك الكثير من الأتراك الذين كانوا يسكنون حيا خاصا بهم وإلي جوارهم كان هناك حي اليهود السفارديم، أي حينا. كما كان هناك يونانيون وألبان وأرمن وغجر. من الضفة الأخري من النهر جاء الرومانيون، مرضعتي التي لا أتذكرها كانت رومانية. كما كان هناك أيضا عدد قليل من الروس.
لم أكن أفطن كطفل لهذا التنوع، لكنني كنت استشعر تأثيراته باستمرار. بعض الشخصيات ظلت باقية في ذاكرتي لأنها كانت تنتمي لجماعة ما وكانت تتميز عن الآخرين من خلال زيها التقليدي. من بين الخدم الذين كانوا لدينا في البيت خلال تلك السنوات الست، كان ثمة رجل شركسي ومن بعده جاء خادم أرميني. أفضل صديقات أمي كانت أولغا الروسية. كان الغجر يأتون مرة كل أسبوع إلي فناء بيتنا، كانوا كثيرين جدا ويبدون وكأنهم شعب بأكمله. سوف أحكي فيما بعد عن الرعب الذي كان يتملكني منهم.
كانت روتشوك ميناء قديما علي نهر الدانوب ومن هنا اكتسبت أهميتها. فقد جذب الميناء الكثير من الناس من مختلف الأنحاء. الدانوب كان دائما محور الأحاديث. ثمة قصص كثيرة، خصوصا عن تلك الفترة التي تجمد فيها النهر، قصص عن رحلات بالزلاجات علي الجليد إلي رومانيا وقصص عن ذئاب جائعة كانت تتعقب الجياد التي تجر الزلاجات.
كانت الذئاب أولي الحيوانات البرية التي سمعت قصصا عنها، ففي الحكايات التي كانت ترويها لي الفلاحات البلغاريات تظهر شخصيات مستذئبة، وفي إحدي الليالي أفزعني أبي بارتدائه قناع ذئب.
لن أتمكن بسهولة من وصف هذا الثراء اللوني الذي اتسمت به سنواتي الأولي في روتشوك، وأن أنقل تصورا عن المباهج والأهوال التي صبغتها. كل ما عايشته لاحقا، كان قد حدث ذات مرة في روتشوك. بقية العالم كان يُطلق عليها هناك أوروبا، وعند سفر أحدهم عبر الدانواب إلي فيينا، كانوا يقولون إنه ذهب إلي أوروبا، فأوروبا كانت تبدأ حيث تنتهي السلطنة العثمانية. معظم اليهود السفارديم كانوا مواطنين أتراك، فأحوالهم في ظل حكم الأتراك كانت دائما جيدة، أفضل من حكم المسيحيين السلافيين. ولكن لأن كثيرا من اليهود السفارديم كانوا تجارا أغنياء فقد أقام نظام الحكم الجديد في بلغاريا علاقات معهم واعتبر الملك فرديناند الذي حكم لفترة طويلة، صديقا لليهود.
كانت ولاءات اليهود السفارديم معقدة بعض الشيء، فقد كانوا يهودا متدينين يولون أهمية لطائفتهم، التي كانت بلا مبالغة مركز وجودهم. لكنهم كانوا يعتبرون أنفسهم يهودا من نوع خاص وهذا مرتبط بتراثهم الإسباني. فعبر القرون التي مرت منذ طردهم من إسبانيا لم تطرأ علي لغتهم الإسبانية سوي تغييرات قليلة جدا. لقد دخلت بعض الكلمات التركية إلي اللغة، لكنها كانت معروفة، وكان لها في الأغلب مرادف إسباني. أولي أغاني الأطفال التي سمعتها كانت بالإسبانية، كما سمعت قصائد "الرومانس" الإسبانية القديمة، لكن الشيء الأقوي تأثيرا والذي لم يستطع الطفل مقاومته، كان هذا الاعتزاز الشديد بالأصل الإسباني. كان اليهود السفارديم ينظرون بترفع ساذج إلي اليهود الآخرين، وكانت كلمة Todesco التي تعني يهودي ألمانيا أو إشكنازيا محملة دائما بالاحتقار، فلم يكن من المتخيل الزواج من امرأة Todesca ، ولم تشهد أوساط العائلات التي كنت في طفولتي أستمع لأحاديثها أو أعرفها، أي زواج مختلط من هذا النوع. لم يكن عمري يتعدي السادسة عندما حذرني جدي من مثل هذا الزواج المختلط في المستقبل. لكن الأمر لم ينته عند هذا التمييز العمومي، فبين اليهود السفارديم كانت هناك أيضا "العائلات الجيدة" والمقصود هنا الغنية منذ زمن بعيد. " Es de buena famiglia " أي إنه من عائلة جيدة كانت هي أكثر عبارات الفخر والاعتزاز التي يمكن أن تقال عن شخص ما. كم من مرة ولحد السأم سمعت هذه العبارة من أمي. عندما كانت تهيم بمسرح بورغ في فيينا وتقرأ لي مسرحيات شكسبير، وبعد ذلك بكثير عندما كانت تقرأ لي من أعمال ستريندبرغ الذي أصبح كاتبها الأثير، لم تتورع عن القول عن نفسها بأنها تنتمي لعائلة جيدة ولا توجد أفضل من عائلتها. ومع أنها جعلت من أدب وثقافة اللغات التي كانت تتقنها، مضمونا فعليا لحياتها، لكنها لم تجد تناقضا بين هذا الولع بالانفتاح علي العالم وبين هذا الافتخار المتكبر بالعائلة الذي ظلت تغذيه باستمرار.
في الفترة التي كنت مازلت متعلقا بها تماما، وفتحت لي هي كل أبواب الثقافة، لاحظت هذا التناقض الذي آلمني وأزعجني وخلال محادثاتنا التي لا تحصي في كل فترة من فترات صباي، كنت أتحدث معها عن هذا التناقض وانتقدها، لكن ذلك لم يترك أدني تأثير عليها. فكبرياؤها شق منذ الصغر القنوات التي يسير فيها دون أن يحيد عنها. منذ الصغر جعلني هذا العناد الذي لم أتفهمه لديها، اتخذ موقفا ضد أي اعتزاز بالأصل. لا أستطيع أن أتعامل بجدية مع أناس يتباهون بأي نوع من أنواع الفخر الطبقي، وأنظر إليهم باعتبارهم حيوانات إكزوتية سخيفة بعض الشيء. كثيرا ما أضبط نفسي متلبسا بأحكام مسبقة ضد هؤلاء الذين يرون قيمة ما في انتمائهم لطبقات عليا. لذا اضطررت لمراقبة إن كان الأرستقراطيون القلائل الذين صادقتهم يتحدثون عن هذا الموضوع أم لا. ولو كانوا يعلمون أي جهد كلفني هذا الأمر، لاستغنوا عن صداقتي. الأحكام المسبقة تحددها أحكام مسبقة أخري، وأغلبها هي تلك المشتقة من أضدادها.
يضاف إلي ذلك أن الطبقة التي تحسب أمي نفسها عليها كانت تمتلك بالإضافة إلي أصولها الإسبانية مالا. في عائلتي وخصوصا من طرف أمي رأيت ماذا كان يفعل المال بالناس. وأسوأهم من وهب حياته طواعية له. تعرفت علي كل مراحل التحول من الجشع إلي البارانويا. رأيت أشقاء دمروا بسبب الطمع بعضهم البعض في محاكمات وقضايا استمرت لسنوات عدة وبعضهم واصل رفع الدعاوي رغم ذهاب الأموال. وكان هؤلاء من العائلة "الجيدة" نفسها التي كانت أمي فخورة بها. لقد رأت ذلك أيضا نصب عينيها وتحدثنا كثيرا عن الأمر. كان تفكيرها ثاقبا، وتشكلت معرفتها بالنفس البشرية من خلال أعمال الأدب العالمي الكبري، بالإضافة أيضا إلي خبرتها الحياتية. لقد تعرفتْ علي دوافع التدمير العبثي للذات الذي خاضته عائلتها. وكان بإمكانها أن تكتب رواية عن ذلك: لكن اعتزازها بهذه العائلة نفسها ظل ثابتا لا يتزعزع. كنت سأتفهم ذلك أكثر، لو كان الحب هو مصدر اعتزازها. لكنها لم تحب الكثير من أبطال هذه الحكايات العائلية، بل كانت حانقة علي بعضهم وكانت تحتقر البعض الآخر، أما تجاه العائلة فكانت تشعر بالفخر فحسب.
فيما بعد أدركت أنني مثلها تماما في تأملي للعلاقات البشرية ولكن علي نطاق أوسع. لقد قضيت أفضل أوقات حياتي في تتبع ظهور الإنسان في الحضارات التاريخية. لقد قمت بلا هوادة بتحليل السلطة وتفكيك عناصرها مثلما فعلت أمي مع قضايا عائلتها. وبذا لم يتبق الكثير من الأشياء السيئة التي كان بإمكاني قولها عن البشر والبشرية. ومع ذلك فإن فخري بهم لا يزال كبيرا جدا بحيث لا يوجد سوي شيء واحد فقط أكرهه فعليا، وهو عدوهم الموت.
"كاكّو، كاكّو الدجاجة!"
الذئاب والمستذئبون
"لابوتييكا" كلمة ذات وقع حماسي ولطيف في الوقت ذاته، اعتدت علي سماعها كثيرا. هكذا كانوا يسمون الدكان أو المحل الذي كان جدي وأبناؤه يقضون اليوم كله فيه. ونادرا ما كانوا يأخذونني إلي هناك، لأنني كنت صغيرا جدا. موقعه كان في شارع ينحدر بشكل مستقيم من منطقة أحياء الأغنياء في روتشوك ليصب في الميناء. وفي هذا الشارع توجد كل المحال الكبيرة، ومحل جدي كان في بيت من ثلاثة طوابق، بدا لي ضخما وعاليا، لا سيما وأن المساكن المبنية فوق التل كانت من طابق واحد فقط. المحل كان لبيع مواد البقالة بالجملة، وكان واسعا وتفوح منه روائح رائعة. علي الأرض رقدت زكائب ضخمة مفتوحة بها أنواع مختلفة من الحبوب، كالدخن والشعير والأرز. وكانوا يسمحون لي بإدخال يدي في الزكائب وتحسس الحبوب، لو كانت يداي نظيفتين. كان إحساسا جميلا، وكنت أملأ يدي بالحبوب وأقربها إلي وجهي وأشمها ثم أتركها تنساب ثانية داخل الزكيبة. كنت أفعل ذلك كثيرا، ورغم وجود أشياء كثيرة مثيرة ولافتة في المحل، كانت تلك لعبتي المفضلة وكان من الصعب إبعادي عن الزكائب. الشاي والقهوة والشوكولاتة بالأخص، كلها كانت موجودة بكميات كبيرة وفي عبوات جميلة، ولا يتم بيعها بالتجزئة كما هي الحال في المتاجر العادية. بالأخص حازت الزكائب المفتوحة علي إعجابي أكثر من غيرها لأنها لم تكن عالية بالنسبة لي وكان باستطاعتي عند إدخال يدي فيها تحسس ملمس الحبوب الكثيرة.
معظم الأشياء الموجودة بالمحل كانت صالحة للأكل، لكن ليس كلها. فقد كانت هناك أعواد ثقاب وصابون وشموع وأيضا سكاكين ومقصات وأحجار لشحذ السكاكين والمناجل والمحشات. كان فلاحو القري يجيئون للتسوق ويقفون طويلا أمام هذه البضائع ويختبرون بأصابعهم مدي حدة أنصالها. كنت أنظر لهم باهتمام وببعض الخوف، فقد كان محظورا علي أن ألمس أي سكين. ذات مرة أمسك فلاح، سرته ملامح وجهي، إبهامي ووضعه إلي جانب إبهامه وبيَّن لي كم خشنة هي بشرته. إلا أنني لم أحصل أبدا علي شوكولاتة كهدية، فجدي الجالس خلف المكتب كان صارما في العمل ولا يتعامل إلا بالجملة. لكنه كان يقدم برهان حبه لي في البيت، لأنني أحمل اسم العائلة وقد سُميت أيضا علي اسمه. لكنه لم يحب رؤيتي في المحل ولم يسمح لي بالبقاء طويلا هناك. عندما كان يعطي أمرا، يهرع الموظف المأمور لتنفيذ الأمر وأحيانا كان منهم من يغادر المحل حاملا طرودا من البضائع. أكثر الموظفين المحببين إليّ كان رجلا نحيفا وعجوزا بعض الشيء يرتدي ملابس رثة، ويبتسم دائما وكأنه في عالم آخر. كانت له حركات مميزة وينفعل عندما يقول جدي شيئا. كان يبدو حالما ومختلفا عن جميع من رأيتهم في المحل، وكان يتحدث إلي دائما بلطف. حديثه كان عائما بحيث لم أفهمه، لكنني كنت أحس أنه يعني شيئا طيبا. اسمه تشيليبون، وقد تم تشغيله من باب العطف عليه، لأنه من أقربائنا الفقراء الميئوس من نجاحهم. كنت أسمعهم ينادونه وكأنه خادم، وهكذا احتفظت به في ذاكرتي وعرفت بعد ذلك بكثير أنه أخو جدي.
الشارع الذي تطل عليه بوابة حوش منزلنا كان هادئا ومتربا. وعند هطول الأمطار بغزارة، كان يتحول إلي طين تخلف فيه دواليب العربات آثارا عميقة. لم يسمح لي باللعب في الشارع، ففي حوش منزلنا الكبير كان ثمة مكان كاف للعب وكان آمنا. لكنني كنت أسمع أحيانا قوقأة حادة تزداد علوا وانفعالا. ولا يستغرق الأمر وقتا طويلا حتي يقتحم البوابة رجل بملابس سوداء ممزقة وهو يرتعد من الخوف، هاربا من أطفال الشارع الذين كانوا يلاحقونه صائحين "كاكو! كاكو!" ويقوقئون مثل الدجاج. كانوا يطاردونه لأنه يخاف من الدجاج، ويتقدمهم ببضع خطوات وقد تحول هو نفسه في نظري إلي دجاجة. يجري متقطع الأنفاس ليصعد درجات بيت جدي لكنه لم يكن يجرؤ علي الدخول ويقفز هابطا من الناحية الأخري ويبقي راقدا بلا حراك. فيما يواصل الأطفال قوقأتهم أمام بوابة الفناء، إذ لا يُسمح لهم بالدخول. وعندما كان يرقد هكذا مثل الميت، كانوا يشعرون ببعض الخوف ويلوذون بالفرار. لكنهم يؤكدون بعد ذلك بقليل انتصارهم صائحين "كاكو كاكو! كاكو الدجاجة". وطالما أن صوتهم لا يزال مسموعا، يظل كاكو راقدا في مكانه لا يحرك ساكنا. وبمجرد أن تغيب أصواتهم يقف ويتحسس نفسه بحذر ويصيخ السمع بوجل بعض الوقت ثم ينسحب من الفناء محني الظهر وفي هدوء تام. الآن لم يعد دجاجة ولم يعد يرفرف ويقوقئ، بل رجع كما كان عبيطَ الحي المنكسر.
أحيانا، كانت اللعبة الفظيعة تتكرر، عندما يتربص له الأطفال غير بعيد في الشارع ثانية. وغالبا ما تنتقل المطاردة إلي شارع آخر فلا أتمكن من متابعة ما يجري. ربما كنت أشعر بالشفقة علي كاكو وكنت أفزع دائما عندما يقفز، لكن الأمر الذي لم أكن أمل أبدا من رؤيته في كل مرة وبالتشوق ذاته، كان تحوله إلي دجاجة ضخمة سوداء. لم أفهم سبب مطاردة الأطفال له. وعندما كان يرقد علي الأرض ساكنا بعد قفزته، كنت أخشي من ألا يتمكن من القيام مرة أخري ومن التحول مجددا إلي دجاجة.
يتميز نهر الدانوب في مجراه البلغاري بالاتساع الشديد. مدينة جورجو الواقعة علي الضفة الأخري تابعة لرومانيا. ويقال إن المربية التي أرضعتني، جاءت من تلك المدينة وأنها كانت فلاحة قوية بصحة جيدة وقامت أيضا بإرضاع طفلها الذي جلبته معها. سمعت دائما الكثير من المديح والإشادة بها وبرغم أنني لا أستطيع تذكرها، فقد احتفظت بسببها بوقع دافئ لكلمة "روماني".
في بعض السنوات القليلة النادرة كان نهر الدانوب يتجمد في الشتاء وهناك حكايات مثيرة عن تلك الفترات. في صباها كانت أمي تذهب كثيرا إلي رومانيا باستخدام الزلاجات الجليدية وقد أرتني معاطف الفراء الدافئة التي كانت ترتديها. وعند اشتداد البرودة كثيرا، كانت الذئاب تهبط من الجبال جائعة وتنقض علي الخيول التي تجر الزلاجات. وكان الحوذي يحاول إبعادها بضربات السياط، ولكن دون جدوي. وكان من الضروري إطلاق النار عليها. وفي إحدي هذه الرحلات اكتشفوا أنهم لم يأخذوا معهم سلاحا ناريا، إذ كان من المفترض أن يأتي معهم خادم شركسي مسلح، لكنه غاب وانطلق الحوذي بدونه. وقد لاقوا صعوبة كبيرة في التصدي للذئاب وكانوا في خطر كبير. ولولا أن جاءت بالصدفة من الاتجاه الآخر زلاجة أخري بها رجلان تمكنوا بإطلاقهم الرصاص من قتل أحد الذئاب وإبعاد البقية، لكان من الممكن أن تكون النهاية سيئة. وقد انتاب أمي خوف شديد ووصفت لي منظر ألسنة الذئاب الحمراء التي اقتربت منها كثيرا، لدرجة أنها ظلت تحلم بها في سنوات لاحقة.
كثيرا ما رجوتها أن تقص علي الحكاية مجددا، وكانت تفعل ذلك عن طيب خاطر. وهكذا أصبحت الذئاب هي أولي الحيوانات البرية التي هيمنت علي مخيلتي. وقد تغذي هلعي منها علي الحكايات التي سمعتها من الفتيات الريفيات البلغاريات. فخمس أو ست منهن كن يعشن لدينا بشكل دائم. أعمارهن كانت تتراوح بين عشرة واثني عشر عاما وقد تم جلبهن من القري حيث تعيش عائلاتهن إلي المدينة ليعملن كخادمات في بيوت أهل المدينة. كن يسرن حافيات في المنزل ويتمتعن دائما بمزاج رائق، فلم يتوجب عليهن عمل الكثير من الأشياء وكن يقمن بعمل كل شيء سويا وقد صرن أولي رفيقاتي في اللعب.
في المساء وعندما يخرج والداي كنت أبقي معهن. بطول جدران غرفة المعيشة الكبيرة كانت هناك كنبات تركية واطئة وحسبما أتذكر شكلت تلك الكنبات إلي جانب السجاجيد المفروشة علي الأرض وبعض الموائد الصغيرة كل أثاث الغرفة. عند حلول الظلام كان الخوف يتلبس الفتيات وكنا نتجمع ملتصقين ببعضنا علي إحدي الكنبات الموجودة أسفل النافذة ويأخذنني في وسطهن ويبدأن في حكي قصص عن المستذئبين ومصاصي الدماء. وما يكدن ينتهين من إحدي هذه القصص حتي يبدأن علي الفور في قصة جديدة، كان أمرا مرعبا لكنني كنت أشعر براحة وانسجام لالتصاق الفتيات بي من كل جانب. كنا نشعر بخوف شديد لدرجة أن أحدا منا لم يكن يتجرأ علي القيام من مكانه، وعند عودة والديّ إلي المنزل كانا يجداننا متلاصقين ككومة لحم ترتجف.
لم يتبق في ذاكرتي سوي الفتيات اللواتي كن يحكين قصصا عن المستذئبين ومصاصي الدماء، وربما لم تكن هناك قصص أخري. ولا يمكنني أن أمسك بأي كتاب عن حكايات البلقان الشعبية دون أن أتذكر بعض هذه الحكايات علي الفور. إنني أستحضرها بكل التفاصيل ولكن ليس باللغة التي سمعتها بها، لقد سمعتها بالبلغارية، لكنني أعرفها بالألمانية. عملية الترجمة الغامضة تلك هي ربما أغرب قصة وقعت لي في صباي. ونظرا لأن المصير اللغوي لأغلب الأطفال يتخذ مسارا مختلفا، ينبغي علي ربما أن أحكي عن هذا الأمر.
كان أبواي يتحادثان بالألمانية مع بعضهما البعض ومعنا نحن الأطفال ومع جميع الأقارب كانا يتكلمان الإسبانية، التي كانت لغتنا الدارجة، لكنها كانت إسبانية قديمة، وقد اعتدت علي سماعها لاحقا ولم أنساها أبدا. الفتيات الريفيات في منزلنا كن يتحدثن البلغارية فقط، وأغلب الظن أنني تعلمتها أيضا. ولكن نظرا لأنني لم أذهب إلي مدرسة بلغارية ولكوني غادرت روتشوك في سن السادسة، فقد نسيت هذه اللغة تماما خلال فترة وجيزة. كل أحداث سنواتي الأولي جرت بالإسبانية والبلغارية. ولاحقا ترجمت معظم هذه الأحداث نفسها في داخلي إلي الألمانية. الأحداث المأساوية وحدها كالقتل مثلا والتجارب المرعبة حُفرت في ذاكرتي بالإسبانية بدقة شديدة بحيث لا يمكن لها أن تفني. أما البقية الباقية أي غالبية الأحداث، وكل ما كان بالبلغارية كالحكايات، فقد أصبح في رأسي بالألمانية.
لا أعرف بالضبط كيف حدث هذا الأمر. لا أعرف متي وبأية مناسبة تُرجم هذا الحدث أو ذاك داخلي إلي الألمانية. ولم أحاول تقصي هذا الأمر، ربما لخشيتي من تدمير أنفس شيء تحتفظ به ذاكرتي، من خلال اتباع طرق ومبادئ صارمة في استقصاء حقيقة الأمر: فأحداث تلك السنوات حاضرة لدي بكل قوتها وطزاجتها. لقد تغذيت علي هذه الأحداث لأكثر من ستين سنة، لكنها في أغلبها مرتبطة بكلمات لم أكن أعرفها آنذاك. ومع ذلك يبدو لي طبيعيا أن أكتبها الآن دون أن يتسلل إلي شعور بأنني أغير فيها شيئا أو أشوهها. لا يشبه الأمر الترجمة الأدبية لكتاب من لغة إلي أخري، إنها ترجمة تمت تلقائيا في "اللاوعي"، ونظرا لأنني عادة ما أتجنب وأمقت استخدام هذه الكلمة التي فقدت من فرط استخدامها معناها، فأرجو التساهل والتسامح معي في استعمالها في هذه المرة وفي هذه الحالة فقط.
بلطة الأرميني
الغجر
الاستمتاع بالوصف الطوبوغرافي الذي كان ستندال ينغمس فيه بسهولة في كتابه "هنري برولار" ليس متاحا لي وللأسف كنت دائما رساما سيئا. وهكذا علي أن أصف بإيجاز موقع البيوت المحيطة بفناء الحديقة في منزلنا في روتشوك.
لو دخلت من الشارع عبر البوابة الكبيرة، فسيكون علي يمينك مباشرة بيت الجد كانيتي، وكان يبدو أضخم من البيوت الأخري، لقد كان أعلي منها أيضا. لكنني لا أستطيع الجزم إن كان به طابق علوي، في مقابل البيتين الآخرين المكونين من طابق واحد فقط. لكنه كان علي أية حال يعطي الانطباع بأنه أكبر لأن عدد درجات السلم المؤدية إليه كانت أعلي، وكان لونه أفتح من البيتين الآخرين. ربما كان أيضا مطليا بلون فاتح.
وفي مقابل بيت جدي علي يسار الفناء كان البيت الذي تقطنه عمتي صوفي، الأخت الكبري لأبي، مع زوجها العم ناتان. وكان يُلقب بإيلياكيم، وهو اسم لم ارتاح له أبدا، ربما كان غريبا علي، لأن وقعه لم يكن إسبانيا مثل الأسماء الأخري. وكان لديهما ثلاثة أطفال هم ريجينا وجاك ولاوريكا. هذه الأخيرة هي أصغرهم، لكنها مع ذلك كانت تكبرني بأربع سنوات، وقد كان لفارق السن هذا عواقب وخيمة.
وإلي جانب هذا البيت وعلي الناحية اليسري أيضا من الفناء كان بيتنا، الذي بدا شبيها ببيت العم. تقود بضع درجات إلي مدخل كلا البيتين وتفضي إلي بسطة واسعة بعرض البيتين.
كان فناء الحديقة بين البيوت الثلاثة كبيرا جدا. في مقابل بيتنا، ليس في الوسط مباشرة ولكن إلي الجنب قليلا كانت هناك بئر ماء، لكن ماءها لم يكن وفيرا، ومعظم المياه كانت تأتي إلينا من نهر الدانوب في براميل ضخمة محملة علي ظهر الحمير. استخدام ماء الدانوب لم يكن ممكنا قبل غليه في قدور كبيرة، كانت تترك بعد ذلك لتبرد علي البسطة أمام البيت.
خلف البئر كانت حديقة الفواكه التي يفصلها سياج عن الفناء. لم تكن ذات جمال لافت، لكنها كانت مرتبة، ربما لم تكن قديمة بما يكفي. لقد رأيت حدائق فواكه أكثر روعة لدي أقرباء أمي.
واجهة بيتنا التي تطل علي الفناء كانت تمثل الجهة الأضيق من المبني، الذي كان يمتد بعمق إلي الخلف، ورغم أنه كان مكونا من طابق واحد فقد ظل واسعا جدا في ذاكرتي. كان بالإمكان السير بمحاذاة سور الفناء والدوران حول المنزل كله، وكان السير بمحاذاة الجانب الطولي من الفناء يفضي إلي فناء أصغر يقود إلي المطبخ. في هذا الفناء كان هناك حطب للتقطيع وكانت الدجاجات والإوز تجري هنا وهناك، في المطبخ المفتوح سادت حركة دائمة، كانت الطاهية تخرج أشياء وتدخل أشياء أخري ونصف دستة الفتيات يتقافزن في حركة ونشاط.
في فناء المطبخ هذا، كان هناك خادم يقوم بتقطيع الحطب، وكان من أكثر من احتفظت بهم ذاكرتي، إنه صديقي الأرميني الحزين. كان يردد أثناء تقطيع الخشب أغاني لا أفهمها، لكنها كانت تقطع قلبي. وعندما سألت أمي لماذا هو حزين هكذا، قالت لي إن ثمة أناسا أشرارا في اسطنبول يريدون قتل كل الأرمينيين، وإنه فقد كل عائلته هناك. وقد رأي وهو مختبئ مقتل أخته أمام عينيه. ثم فر بعد ذلك إلي بلغاريا وقام جدي بتشغيله في منزلنا شفقة عليه. وعندما كان يقطع الحطب كان دائما ما يتذكر أخته ولذلك كان يغني هذه الأغاني الحزينة.
كنت أكن له حبا عميقا. عندما كان يقطع الحطب كنت أقف علي كنبة في نهاية غرفة المعيشة حيث تطل النافذة علي فناء المطبخ، ثم أنحني لأطل من النافذة وأشاهده، وعندما يغني كنت أتذكر أخته وأتمني أن تكون لي أخت صغيرة. كان له شارب أسود كبير وشعره كان أسود فاحما. وقد بدا لي ضخما جدا، وربما يعود ذلك إلي أنني كنت أراه وهو يرفع يديه بالبلطة عاليا. كنت أحبه أكثر من خادم المحل تشيليبون الذي لم أكن أراه إلا نادرا. تحدثنا سويا ولكنه كان حديثا مختصرا جدا، بضع كلمات قليلة فقط، قليلة جدا ولا أذكر بأية لغة. لكنه لم يكن يبدأ عمله قبل أن يراني، وبمجرد أن يراني كان يبتسم قليلا ثم يرفع بلطته، وكان من المفزع رؤية الغضب الذي كان ينهال به علي الحطب. يصبح وجهه أكثر قتامة ويبدأ في ترديد أغانيه. وعندما كان يترك البلطة كان يبتسم لي مجددا وأنا بدوري كنت أنتظر ابتسامته كما كان ينتظرني، هو، اللاجئ الأول في حياتي.
كل جمعة كان الغجر يأتون إلينا، ففي البيوت اليهودية يجري الإعداد يوم الجمعة لعطلة السبت، فيجري تنظيف البيت تنظيفا شاملا، وتنطلق الفتيات البلغاريات هنا وهناك في حركة دائبة، ويكون العمل في المطبخ علي قدم وساق. لم يكن ثمة أحد لديه وقت لي. وحيدا تماما كنت أنتظر، خلف نافذة غرفة المعيشة الضخمة المطلة علي فناء الحديقة، قدوم الغجر. كان ينتابني هلع فظيع منهم. وأعتقد أن ذلك نابع من حكايات الفتيات عنهم في تلك الأماسي الطويلة المظلمة التي قضيناها علي الكنبة. كنت أظن أنهم يخطفون الأطفال وأنهم وضعوني نصب أعينهم.
لكن ورغم هذا الخوف لم أكن أفوت علي نفسي مرآهم. فقد كان مشهد مجيئهم رائعا. بوابة الفناء كانت تُفتح لهم عن آخرها، لأنهم كانوا يحتاجون إلي المكان. كانوا يأتون مثل قبيلة كاملة يتوسطهم رجل كبير أعمي، يقال إنه جدهم الأكبر. كان شيخا جميلا بشعر أبيض، يمشي بتؤدة مستندا من اليمين واليسار علي اثنين من أحفاده الكبار، وقد ارتدي خرقا ملونة. وكان يتزاحم حوله من جميع الجوانب غجر من مختلف الأعمار، رجال قليلون، الغالبية نساء وأعداد غفيرة من الأطفال، الرضع تحملهن الأمهات علي أذرعهن، والآخرون يتقافزون ولكن ليس بعيدا عن الشيخ الوقور. كان لهذا الموكب كثافة غير عادية، فلم يصادف أبدأ أن رأيت مثل هذا الجمع من البشر الذي يحافظ طوال حركته علي بقائه متماسكا. وقد كان في هذه المدينة الغنية بالألوان هو الأزهي والأكثر لونية. الخرق التي قاموا بترقيع ملابسهم بها كانت من جميع الألوان، لكن الأحمر كان هو الأبرز. علي أكتاف كثيرين منهم تأرجحت أجولة، لم أتمكن من تأملها دون تخيل أن بداخلها أطفالا مسروقين.
كان يبدو لي أن عدد هؤلاء الغجر لا يحصي، لكن لو حاولت الآن تقدير عددهم، فعلي ما أعتقد لن يزيد عددهم علي ثلاثين أو أربعين. لكنني لم أر بخلافهم مثل هذا الكم من البشر في الفناء الكبير. ولأنهم يمشون الهويني بسبب الرجل الكبير، فقد تراءي لي أنهم ملئوا الفناء عن آخره. لكنهم لم يبقوا في مكانهم بل داروا حول البيت ليصلوا إلي الفناء الصغير أمام المطبخ حيث تراصت قطع الحطب، وهناك حطوا الرحال.
وقد اعتدت انتظار اللحظة التي يظهرون فيها أولا أمام بوابة الفناء، وبمجرد أن ألمح الشيخ الأعمي كنت أجري عبر غرفة المعيشة الممتدة والدهليز الأطول المؤدي إلي المطبخ صائحا بصوت عال " الغجر الغجر!". وهناك كانت أمي تقف وتعطي التعليمات لأطعمة يوم السبت، بل وكانت تعد بنفسها بعض الأطباق الشهية جدا. لم أكن انتبه للفتيات الصغيرات اللاتي كن يقابلنني في طريقي، لأنني كنت أواصل الصراخ بصوت مدو إلي أن أقف بجانب أمي التي كانت تقول لي شيئا يهدئ من روعي. لكن بدلا من أبقي بجانبها، كنت أعاود قطع الطريق الطويل عائدا إلي غرفة المعيشة حيث كنت ألقي نظرة من النافذة علي مدي تقدم موكب الغجر، وفي الأثناء لا يكونون قد تقدموا كثيرا، ثم أرجع لأبلغ عن ذلك في المطبخ. كنت أرغب في رؤيتهم، لقد كنت مهووسا بهم، لكن بمجرد أن أراهم كان يتلبسني الخوف مجددا من أنهم يريدون خطفي، وأجري هربا منهم وأنا أصرخ. كان رواحي وغدوي يستمر لبعض الوقت، وأظن أنني لذلك ظللت محتفظا بالإحساس الجارف باتساع رقعة البيت ما بين الفناءين.
وبمجرد أن يصلوا إلي هدفهم أمام المطبخ، كان الشيخ يجلس والآخرون يتجمعون حوله، كانت الأجولة تُفتح والنساء يأخذن دون تنازع أو شجار بينهن كل العطايا التي تقدم لهن. كانوا يحصلون علي قطع الحطب من الكومة المرصوصة وهو شيء كانوا يسعدون به كثيرا، كما كانوا يحصلون علي الكثير من الأطعمة، ومن كل الأصناف التي أعدت للطعام. فإطعامهم من البقايا لم يكن واردا. ارتحت عندما رأيت أنه لا يوجد أطفال في أجولتهم، وفي حمي أمي نزلت لأسير بينهم، وتأملتهم أكثر عن قرب، لكنني حرصت علي عدم الدنو كثيرا من النساء اللائي كن يرغبن في مداعبتي. أكل الشيخ الأعمي بهدوء من وعاء أمامه، ثم استراح لقدر كاف من الوقت. الآخرون لم يمسوا طعامهم، بل دسوا كل شيء في الأجولة الكبيرة. الأطفال وحدهم كانوا يقضمون من الحلوي التي قُدمت لهم. وقد تعجبت من اللطف الذي يعاملون به أطفالهم، إذ لم يكونوا بتاتا أشرارا كخاطفي الأطفال. مع ذلك ظل رعبي منهم كما هو. بعد وقت بدا لي طويلا جدا هموا بالانصراف، وكانت حركة الموكب في الرحيل أسرع من حركته لدي مجيئهم. رأيتهم من النافذة ذاتها وهم يختفون وراء البوابة. عندها جريت للمرة الأخيرة إلي المطبخ صائحا "لقد انصرف الغجر". خادمنا أخذني من يدي وقادني إلي البوابة وأغلقها وقال " الآن لن يعودا ثانية". في العادة تظل البوابة طوال اليوم مفتوحة لكن في أيام الجمع هذه، تبقي مغلقة وبذا يتضح لأي مجموعة من الغجر تأتي ربما لاحقا أن أهلهم كانوا هنا وبالتالي يواصلون مسيرتهم.
مولد الأخ
عندما كنت لا أزال صغيرا جدا، كنت أجلس محشورا في كرسي عال مخصص للأطفال، وكانت الأرض تبدو لي بعيدة جدا مما كان يجعلني أخاف السقوط منه. جاء عمي بوكّو، الأخ الأكبر لأبي، لزيارتنا وأخرجني من الكرسي ووضعني علي الأرض، ثم اغتبط وجهه ووضع كفه علي رأسي وقال لي بلفظ واضح قوي "إنني أباركك يا إلياس الصغير. آمين!"، أعجبتني هذه النبرة الاحتفالية وأعتقد أنني شعرت حينها بأنني صرت أكبر عندما باركني. لكنه كان مهرجا وسارع بالضحك، وأحسست أنه يستهزئ بي وأن لحظة البركة العظيمة التي انخدعت بها مرارا، كانت تفضي دائما إلي الخزي.
هذا العم كان يكرر كل أفعاله عددا لا يحصي من المرات. علمني الكثير من الأغاني ولم يهدأ له بال حتي صرت قادرا علي غنائها بنفسي. وعندما كان يعود لزيارتنا كان يسألني عنها. وكان يدربني علي أدائها أمام الكبار. كنت أنتظر دائما بركته، رغم أنه كان يفسدها دائما علي الفور. ولولا إفساده للأمر دائما لكان أحب أعمامي إلي. كان يعيش في فارنا حيث يدير فرعا لمحل جدي ويأتي إلي روتشوك في أيام الأعياد وفي المناسبات الخاصة. وكان أفراد العائلة يتحدثون معه باحترام كبير لأنه ال "بوكّو" أو البِكري، وهو لقب شرفي لأول ولد في العائلة. ولو كنت بقيت في روتشوك لأصبحت أنا أيضا "بوكّو".
طوال أربع سنوات ظللت طفلا وحيدا وكنت أرتدي تنورات كالبنات. كنت أتمني أن ارتدي بناطيل مثل الأولاد، وكانوا يعدونني بأن ذلك سيحدث لاحقا. ثم أبصر أخي نِسيم نور العالم وجاءت المناسبة التي أرتدي فيها أول بنطلون. شهدت كل وقائع هذه المناسبة بفخر شديد وأنا أرتدي البنطلون ولهذا السبب غالبا تذكرت كل تفاصيلها.
كثيرون كانوا في بيتنا، ورأيت وجوها فزعة. لم يكن مسموحا لي أن أذهب إلي أمي في غرفة النوم، حيث كان سريري الصغير، وظللت ألف وأدور أمام الباب كي أتمكن من الظفر بنظرة خاطفة عليها عندما يدخل أحدهم إلي الغرفة. لكنهم كانوا يغلقون الباب بسرعة بحيث لا أتمكن من رؤيتها. سمعت صوت عويل لم أتعرف عليه وعندما سألت عن صاحب هذا الصوت، أمروني بأن ابتعد. لم يسبق لي مطلقا أن رأيت الكبار علي هذه الدرجة من الخوف ولم يهتم أحد بي وهو أمر لم يكن مألوفا بالنسبة لي. (وكما عرفت لاحقا، فقد كانت ولادة مرهقة طويلة وشاقة، وكانوا يخشون علي حياة أمي). د. مناخموف، الطبيب صاحب اللحية السوداء الطويلة، كان موجودا. وحتي هو الذي كان في العادة لطيفا جدا معي وكان يسمح لي بأن أردد له أغنية يمتدحني عليها، لم يلتفت لي إطلاقا ولا خاطبني بكلمة واحدة، بل ونظر لي نظرة غاضبة، عندما رفضت الابتعاد عن الباب. اشتد العويل وسمعت من يقول
madre mia querida! Madre mia querida
يا إلهي يا عزيزتي، يا إلهي يا عزيزتي!"
ضغطت رأسي علي الباب وعندما انفتح، تملكني فزع من شدة الأنين. وفجأة أدركت أن أمي كانت هي مصدر هذا الأنين الذي كان مخيفا لدرجة أنني لم أعد أرغب في رؤيتها.
أخيرا سُمح لي بدخول غرفة النوم. الجميع كانوا يبتسمون، أبي كان يضحك، ثم جعلوني أري أخي الصغير. رقدت أمي في السرير شاحبة لا تحرك ساكنا. قال د. مناخموف "إنها تحتاج إلي الراحة!". لكن الأجواء حولها لم تكن هادئة إطلاقا. نساء غريبات كن يتحركن في الغرفة. الآن انتبه لي الجميع مرة أخري ورفعوا من معنوياتي. الجدة أرديتّي التي نادرا ما كانت تأتي إلي بيتنا قالت: "الآن هي في حال أفضل"، أما أمي فلم تقل شيئا. خفت منها وجريت خارج الغرفة ولم أبق عند الباب. لفترة طويلة بعدها ظلت أمي غريبة عني واستغرق الأمر شهورا حتي استعدت ثقتي بها.
ثم كان حفل الختان هو الحدث التالي الذي شهدته عيناي. جاء أناس كثيرون إلي البيت. وسُمح لي برؤية عملية الختان. وتولد لدي انطباع بأنهم تعمدوا جلبي لمشاهدتها، كل الأبواب كانت مفتوحة وباب البيت أيضا. في غرفة المعيشة كانت هناك مائدة طويلة أُعدت للضيوف وفي غرفة أخري جرت عملية الختان. كل الموجودين فيها كانوا رجالا وكلهم كانوا واقفين. أمسكوا بأخي الصغير الضئيل فوق وعاء ثم رأيت السكين، ورأيت دما كثيرا جدا يتقاطر في الوعاء.
سُمي أخي "نِسيم" علي اسم جدي لأمي، وقد أوضحوا لي أنني الابن الأكبر ولهذا سُميت علي اسم جدي لأبي. لقد حظيت مكانة الابن الأكبر بالكثير من الثناء والمديح بحيث أصبحتُ من لحظة عملية الختان هذه شديد الوعي بها، ولم يفارقني الفخر والاعتزاز بهذه المكانة أبدا.
علي المائدة سادت أجواء مرحة، وقمت أنا بعمل جولة ببنطلوني، ولم أهدأ حتي لاحظ كل الضيوف ارتدائي له. وعندما كان يأتي ضيوف جدد كنت أهرع إليهم عند الباب وأقف أمامهم وكلي ترقب. لقد كانت هناك حركة كثيفة من الرواح والغدو، وعندما أصبح الجميع موجودين، لاحظنا غياب ابن عمتي جاك. قال أحدهم إنه "إنه خرج بدراجته"، وقد قوبل تصرفه هذا باستهجان. وبعد الطعام عاد جاك مغبر الملابس. لقد رأيته عندما قفز من فوق دراجته أمام المنزل ، كان يكبرني بثمانية أعوام ويرتدي زي المدرسة الثانوية. وقد أبلغني بالخبر الرائع الجديد وهو أنه حصل علي هذه الدراجة أمس كهدية. ثم حاول أن يتسلل بين الضيوف إلي البيت دون أن يلحظه أحد، فاندفعت قائلا إنني أريد أيضا دراجة، حينها انقضت عليه أمه، عمتي صوفيا، وأخذته معها للصلاة، أما هو فأشار لي بإصبعه مهددا واختفي ثانية.
في هذا اليوم أدركت أيضا أنه يتوجب علي المرء أن يأكل بفم مغلق. ريجينا، أخت مالك الدراجة كانت تأكل نُقلا ووقفت أنا أمامها مشدودا لكونها تمضغ بفم مغلق. لقد استغرق ذلك وقتا طويلا وعندما انتهت قالت لي إن علي أن أفعل ذلك أيضا وإلا سيجعلونني أعود لارتداء التنورات. ولا بد أنني تعلمت ذلك بسرعة شديدة، لأنني لم أكن أرغب، لأي سبب كان، في التخلي مجددا عن بنطلوني.
بيت الأتراك
كلا الجدين
أحيانا كانوا يأخذونني إلي بيت جدي كانيتي أثناء وجوده في المحل، لكي أزور جدتي. كانت تجلس علي أريكة تركية وتدخن وتشرب القهوة السوداء. كانت دائما في البيت ولم تخرج أبدا، ولا أذكر أنني رأيتها آنذاك لو لمرة واحدة خارج المنزل. كان اسمها لاورا وأصلها كان مثل جدي من أدريانوبل. وهو كان يسميها "أورو"، أي ذهب، ولم أفهم أبدا سر هذه التسمية. من بين كل أقربائي ظلت هي الأكثر احتفاظا بالطابع التركي. لم تكن تقوم من جلستها علي الأريكة ولا أعرف كيف وصلت إليها، فأنا لم أرها تمشي قط. وكانت تتنهد بين الحين والآخر وتشرب قدحا آخر من القهوة وتدخن. كانت تستقبلني بصوت شاك ثم تصرفني بالأنين نفسه دون أن تقول لي شيئا، فيما كانت تفضي للشخص الذي يقوم بجلبي بكلام يملؤه الأسي. ربما كانت تعتبر نفسها مريضة أو أنها كانت مريضة فعلا، لكن المؤكد أنها كانت كسولة جدا علي الطريقة الشرقية، وكانت تعاني بالتأكيد من حيوية جدي الملعونة.
ما لم أعرفه آنذاك هو أنه كان دائما في بؤرة الاهتمام أينما حل، كان مرهوب الجانب في عائلته. طاغية قادراً علي ذرف الدموع الساخنة لو طاب له ذلك، وكان أكثر شيء يطيب له هو البقاء مع أحفاده الذين يحملون اسمه. أما بين أصدقائه ومعارفه فكان محبوبا لصوته الجميل الذي كان يأسر النساء علي وجه الخصوص. عندما كان يدعي إلي مكان ما، كان لا يصطحب جدتي معه، فقد كان يعتبر غباءها ونحيبها الدائم حملا ثقيلا عليه. كثيرا ما كان الناس يلتفون حوله في حلقة كبيرة وكان يحكي لهم قصصا كان له فيها أدوار كثيرة، وفي مناسبات معينة كان يدفع الحضور إلي مطالبته بالغناء.
بخلاف الجدة كانيتي، كانت في روتشوك أشياء كثيرة تركية الطابع. أغنية الطفولة الأولي التي تعلمتها
Manzanicas colora das, las que vienen de Stambol (التفاحات الحمراء تأتي من اسطنبول) كانت تنتهي باسم المدينة التي كنت أسمع أنها ضخمة جدا وكنت أربطها دائما بالأتراك الذين كنت أراهم عندنا. كان ذكر "إدرين"- وهو الاسم التركي لأدريانوبل- التي ينتمي إليها جدي وجدتي يتردد كثيرا. كان جدي ينشد أغاني تركية لا نهاية لها، وكان ذلك مرتبطا بإطالة ترديد بعض المقاطع. بالنسبة لي كنت أفضل الأغاني الإسبانية التي تتميز بحماسة وسرعة أكبر.
غير بعيد عنا، كانت بيوت الأتراك الأثرياء، وكنا نميزها من القضبان الموجودة أمام النوافذ والتي تستخدم لحماية النساء. أول جريمة قتل أسمع بها كانت بسبب الغيرة وارتكبها تركي. في طريقنا لبيت جدي أرديتّي مرت بي أمي علي البيت الذي ارتكبت فيه الجريمة وأشارت إلي قضبان نافذة بأعلي وقالت لي إن تركية وقفت أمام النافذة ونظرت إلي رجل بلغاري عابر، فجاء زوجها التركي، وطعنها. لا أعتقد أنني قد فهمت ساعتها معني كلمة قتيل. لكنني عرفت بالأمر خلال هذه التمشية مع أمي. وقد سألتها إن كانت المرأة التركية التي عُثر عليها غارقة في بركة من دمائها، قد صحت ثانية. فأجابت "أبدا، لم تصح أبدا فقد كانت ميتة، هل تفهم ذلك؟" سمعتها لكنني لم أفهم وسألتها مجددا. وهكذا أرغمتها علي تكرار إجابتها عدة مرات، حتي بدأ صبرها ينفد وتحدثت عن موضوع آخر. لم تكن فقط القتيلة الغارقة في بركة دمائها هي الشيء الوحيد الذي ترك أثره لدي في هذه القصة، بل أثارتني أيضا غيرة الرجل التي دفعته للقتل. لقد أعجبني شيء في هذا الأمر وبقدر رفضي الشديد لمسألة موت المرأة نهائيا، بقدر ما تغلغلت الغيرة في نفسي دون أية مقاومة.
وقد شعرت بها في داخلي في نهاية هذه التمشية، عندما وصلنا إلي بيت الجد أرديتّي. كنا نزوره مرة في الأسبوع، كل يوم سبت. وكان يسكن في بيت فسيح محمر اللون. كنا ندخل من بوابة جانبية صغيرة علي يسار البيت إلي حديقة قديمة، أجمل كثيرا من حديقتنا. كان بها شجرة توت بأفرع دانية، يمكن تسلقها بسهولة لم يكن مسموحا لي بتسلقها. لكن أمي لم تمر أبدا من هناك دون أن تشير لي إلي أعلي حيث الفرع الذي كان مخبئها في طفولتها وحيث اعتادت أن تجلس عندما لم تكن ترغب في أن يزعجها أحد وهي تقرأ. كانت تنسحب بكتابها وتجلس في هدوء شديد، وكانت من الحذق بمكان بحيث لم يتمكن أحد من رؤيتها من أسفل ولم تكن تسمع عندما يناديها أحد، لأن الكتاب كان قد استحوذ علي إعجابها. لقد قرأت كل كتبها هناك. غير بعيد عن شجرة التوت توجد درجات السلم التي تقود إلي البيت، بُنيت غرفه علي ارتفاع أعلي من غرف بيتنا لكن ردهاته كانت مظلمة. وكنا نعبر غرفا كثيرة حتي نصل إلي آخر غرفة حيث يجلس جدي علي كرسي بمسندين، رجل قصير شاحب يلف نفسه دائما بشالات أو عباءات، لقد كان دائما عليلا.
تقول أمي:
Li beso las manos Seor Padre أي "إنني أقبل يديك أيها السيد الوالد"، ثم تدفعني أمامها، لم أكن أحبه، لكنني كنت مضطرا لتقبيل يده. لم يكن أبدا مرحا أو غاضبا أو لطيفا أو حازما، مثل جدي الآخر الذي أحمل اسمه. كان دائما علي الحال ذاتها، جالسا في كرسيه ذي المسندين ولم يكن يتحرك ولم يكن يتحدث إلي أو يهديني أي شيء، كان فقط يتبادل بعض العبارات مع أمي. وبعدها نأتي لختام الزيارة وهو الشيء الذي كنت أمقته لأنه كان يتكرر دائما بالوتيرة نفسها. كان ينظر إلي بابتسامة ماكرة ويسألني "من تحب أكثر، جدك أرديتّي أم جدك كانيتي؟" كان يعرف الإجابة، كل الناس، صغارهم وكبارهم، كانوا مغرمين بالجد كانيتي، أما هو فلم يكن هناك من يحبه. لكنه كان يريد إرغامي علي قول الحقيقة ويضعني بذلك في حيرة محرجة جدا، وكان يستمتع بهذا الأمر لأنه كان يتكرر كل سبت. كنت لا أقول شيئا في البداية وأنظر إليه بلا حول ولا قوة، ثم يعيد طرح السؤال حتي أصبح قادرا علي الكذب وأرد قائلا "كلاهما". حينها كان يرفع إصبعه مهددا ويصيح Fálsuأي إجابة خاطئة، وذلك بنبرة عالية وممدودة توحي بالتهديد والشكوي في الوقت ذاته، ولا زلت احتفظ بوقع هذه الكلمة في أذني وكأنني كنت بالأمس عنده.
في طريق الخروج عبر الغرف الكثيرة والردهات كنت أشعر بالذنب لأنني كذبت وكنت أشعر بحزن شديد. أما أمي وبرغم ارتباطها الوطيد بأسرتها وأنها ما كانت أبدا لتقطع زيارة يوم السبت، إلا أنها كنت تشعر ببعض الذنب لأنها كانت تعرضني دائما لهذا الاتهام الموجه بالأساس لجدي الآخر، والذي كنت أواجهه أنا بمفردي. وللتسرية عني كانت تأخذني بعد ذلك إلي حديقة الفواكه والورود الواقعة خلف المنزل، وتطلعني علي زهورها المفضلة عندما كانت طفلة، وتستنشق عطرها بعمق، كانت فتحتا أنفها واسعتين وكانتا تهتزان دائما. كانت ترفعني عاليا كي أتمكن أنا أيضا من شم رائحة الظهور وكانت تقطف لي بعض الفاكهة عندما تكون هناك بعض الثمار الناضجة، وهو أمر يجب ألا يعلم جدي عنه شيئا، لأن اليوم هو السبت. كانت تلك أروع حديقة أتذكرها، لم يكن معتني بها جيدا، بحيث تشابكت وتلاحمت أشجارها قليلا. ولا بد أن إقدام أمي- إرضاء لخاطري- علي فعل شيء ممنوع يجب ألا يعلم جدي شيئا عنه قد أزال شعوري بالذنب، ففي طريق العودة إلي بيتنا كنت أعود لنشاطي وحيويتي وأعاود طرح الأسئلة عليها.
في البيت عرفت من لاوريكا إن جدي أرديتّي يغار كثيرا لأن كل أحفاده يحبون جدهم الآخر أكثر منه، وأطلعتني علي ما اعتبرته السر الأعظم الكامن وراء هذه الغيرة، وهو أنه بخيل، لكنها قالت لي إنه ينبغي ألا أخبر أمي بذلك.
عيد المساخر
المذنَّب
رغم صغر سننا وعدم مشاركتنا فيه، كان عيد المساخر هو أكثر الأعياد التي كنا نحن الأطفال نستشعر صخبها بقوة. كان عيدا للفرحة، يذكر بإنقاذ اليهود من هامان الشرير الذي كان يلاحقهم. كانت شخصية هامان معروفة للجميع واسمه دخل أيضا إلي اللغة الدارجة، فقبل أن أعرف أنه كان رجلا حيا وأنه دبر أشياء فظيعة، عرفت اسمه كشتيمة. فعندما كنت أعذب الكبار طويلا بأسئلتي أو عندما كنت لا أرغب في الذهاب للنوم أو إذا لم أنفذ ما يريدونه مني كنت أسمع زفرة حادة مصحوبة ب"هامان"، عندئذ كنت أعرف أنه لا مجال للمزاح وأنني قد وصلت إلي نهاية عبثي. "هامان" كانت الكلمة الأخيرة، زفرة حادة وفي الوقت ذاته مسبة. كنت مندهشا جدا عندما أوضحوا لي بعدها بفترة بأن هامان كان رجلا شريرا يرغب في قتل كل اليهود. لكن مخططه فشل بفضل موردخاي والملكة إستر ولفرحهم بذلك يحتفل اليهود بعيد المساخر.
كان الكبار يتنكرون ويخرجون وكنا نسمع جلبة في الشوارع، أقنعة تظهر في بيتنا ولا أعرف من كان هؤلاء الذين يرتدونها، كما في الحكايات الخيالية، وفي الليل يبقي الوالدان لفترة طويلة خارج البيت. وكانا ينقلان إلينا هذا الإحساس العام بالإثارة المصاحب للعيد. كنت أرقد في سريري الطفولي متيقظا وأرهف السمع. أحيانا كان والداي يدخلان مقنعين ثم يكشفان عن أقنعتهما، وكان هذا أمرا ممتعا لكنني كنت أفضل أكثر ألا يزيلا القناع.
في إحدي الليالي وبعد أن كنت قد نعست، أيقظني ذئب ضخم مال علي سريري الصغير. وتدلي من فمه لسان طويل أحمر وكان يهسهس بشكل مرعب. صرخت بكل ما أوتيت من قوة: "ذئب!ذئب!". لم يسمعني أحد ولم يأت أحد لنجدتي، تعالي صراخي وأخذت أبكي. امتدت يد وأمسكت بالذئب من أذنيه وأنزلت رأسه لأسفل ووراءه وقف أبي يضحك. واصلت صراخي: "ذئب!ذئب!". وأردت أن يقوم أبي بإبعاده. أظهر لي قناع الذئب في يده، لكنني لم أصدقه ولم تكن ثمة جدوي من قوله "أتري، لقد كنت أنا ذلك، لم يكن ذئبا حقيقيا" إذ لم يكن من الممكن تهدئتي فواصلت النحيب والبكاء.
وهكذا أصبحت حكاية المستذئب، فأبي لم يكن ليعرف ماذا كانت الفتيات الصغير يحكين لي دائما، عندما كنا نتكوم سويا في الظلام. لقد لامت أمي نفسها بسبب القصة التي روتها لي عن الزلاجات، واتهمت أبي بأن لديه رغبة جامحة في التنكر. وأنه لا يرغب في عمل شيء آخر سوي التمثيل. أثناء ذهابه للمدرسة في فيينا، كانت أمنيته أن يصبح ممثلا. لكنه دُفع بلا هوادة في روتشوك إلي الانخراط في أعمال والده. ورغم وجود مسرح للهواة فيها، كان يشارك فيه بالتمثيل هو وأمي، لكن ذلك لم يكن شيئا يذكر مقارنة بأحلامه الفينياوية القديمة.وقد قالت أمي بأنه كان يتحرر فعليا من كل القيود في عيد المساخر، وأنه كان يبدل الأقنعة عدة مرات فيفاجئ الكثير من المعارف بمظهره الغريب ويلقي الرعب في قلوبهم.
ظل رعبي من الذئب قائما لوقت طويل وظللت ليلة بعد أخري أحلم بكوابيس، وأوقظ والديّ اللذين أنام معهما في الغرفة نفسها. كان أبي يقوم بتهدئتي حتي أتمكن من النوم، لكن الذئب كان يعاود الظهور في الحلم ولم نتخلص منه بسرعة. مذاك الحين اعتبرت طفلا في وضع خطر ولا يجب استثارة خياله أكثر من اللازم وكانت النتيجة هي أنني لم أستمع خلال أشهر عديدة إلا لقصص مملة نسيتها كلها.
الحدث الكبير التالي كان هو المذنَّب الكبير، ولأنني لم أفكر مذاك الحين في أحد الحدثين دون أن أفكر في الآخر، فلا شك أن ثمة سياقاً مشتركاً بين الأمرين. أعتقد أن ظهور المذنَّب قد حررني من الذئب، لقد ذاب هلعي الطفولي في الهلع العام الذي ساد تلك الأيام، فلم يسبق لي أن رأيت الناس في مثل هذه الحالة من الإثارة مثلما كانت الحال في فترة المذنَّب. كما أن كلا الحدثين، الذئب والمذنَّب قد وقعا ليلا وهو سبب آخر لتلاصقهما في ذاكرتي.
تحدث الجميع عن المذنَّب قبل أن أراه، وقد سمعت أن نهاية العالم قد حانت. لكنني لم أستطع تكوين أي تصور عما يعنيه ذلك، لكنني لاحظت أن الناس قد تغيروا وبدءوا في التهامس عند اقترابي منهم وكانوا ينظرون لي بعطف. لكن الفتيات البلغاريات لم يتهامسن، بل أفصحن عن كل شيء ومنهن عرفت بطريقتهن السوقية أن نهاية العالم قد حانت. كان هذا هو الاعتقاد عموما في المدينة ولا بد أنه قد ساد لفترة طويلة، لأنه قد ترك أثرا عميقا لدي دون أن أستشعر الخوف من شيء بعينه. ليس باستطاعتي التحدث عن مدي تأثر والدي كشخصين مثقفين بهذا الأمر، لكنني متأكد من أنهما لم يعارضا هذا الاعتقاد السائد، وإلا لقاما كما في حالات سابقة بعمل شيء من أجل توعيتي، لكنهما لم يفعلا.
في إحدي الليالي قيل لي إن المذنَّب موجود حاليا وأنه سيسقط علي الأرض. لم يذهبوني للنوم. وسمعت أحدهم يقول، لن يجدي ذلك نفعا الآن، ينبغي أن نحضر الأطفال إلي الحديقة. في فناء الحديقة الكبير تجمع أناس كثيرون، لم أر مثل هذا الجمع الغفير من قبل. كان الأطفال من بيتنا والبيوت المجاورة يقفون بين الكبار. والجميع صغارا وكبارا يحدقون في السماء حيث برز المذنَّب عملاقا ومضيئا. أراه ممتدا فوق نصف السماء وأشعر بالشد والتوتر في قفاي الذي حاولت بالاستعانة به تتبع طول المذنَّب. ربما يكون قد طال في ذاكرتي وربما لم يستحوذ علي نصف السماء بل علي جزء صغير منها. لا بد أن أترك الإجابة علي هذا السؤال لآخرين كانوا راشدين في تلك الفترة ولم ينتبهم الخوف.لكن الضوء كان قويا جدا كما في النهار تقريبا وكنت أعرف تماما أن الوقت لا بد أن يكون ليلا، لأن هذه هي المرة الأولي التي لم أكن فيها في السرير في مثل هذا الوقت، وفي الحقيقة كان هذا هو الحدث بالنسبة لي. وقف الجميع في فناء الحديقة ونظروا إلي السماء وانتظروا. لم يتحرك الكبار من أماكنهم تقريبا وساد هدوء غريب، فلم يتحدثوا إلا بصوت خافت، فيما كانت الحركة أكثر لدي الأطفال الذين لم يهتم الآخرون بهم كثيرا. في ظل هذا الترقب شعرت بشيء من الخوف الذي شمل الجميع، ولإزالة هذا الخوف، أعطاني أحدهم فرع شجرة مليء بالكرز. كانت في فمي كرزة ورفعت رأسي عاليا، من أجل أن أتتبع بعينيّ المذنَّب العملاق ونتيجة لهذا المجهود وربما أيضا بسبب الجمال الخلاب للمذنَّب نسيت الكرزة وبلعت بذرتها.
استغرق الأمر فترة طويلة، ولم ينل التعب من أحد، الجميع وقفوا سويا متلاصقين. لا أري أبي ولا أمي وحيدين، لا أري أحدا ممن شكلوا حياتي يقف وحيدا. لا أراهم كلهم إلا ضمن الجماعة، ولولا استخدامي لهذه الكلمة كثيرا في وقت لاحق لكنت سأقول إنني أراهم حشدا: إنه حشد الترقب المضطرب.
اللغة السحرية
النار
كانت عملية التنظيف الكبري للبيت تتم قبل عيد الفصح اليهودي، فينقلب البيت رأسا علي عقب ولا يبقي شيء في مكانه. ونظرا لأن عملية التنظيف هذه تبدأ مبكرا- وكانت تستغرق علي ما أعتقد نحو أسبوعين- فقد كانت تلك هي فترة الفوضي الكبري. لم يكن هناك من لديه وقت لي، ودائما ما كنت أقف عقبة في الطريق ويضطر الآخرون لإزاحتي جانبا أو إبعادي عن المكان. وفي المطبخ كان يتم التحضير لأشياء مثيرة، ولم يكن مسموحا لي سوي بإلقاء نظرة سريعة عليها. كان البيض البني الذي تم سلقه لأيام في القهوة هو الشيء المفضل لدي.
في ليلة العيد "ليل هسيدر" تبسط المائدة الطويلة في غرفة المعيشة وربما يجب أن تتميز الغرفة الخاصة بهذه المناسبة بالطول، لأن المائدة تستوعب عددا كبيرا من الضيوف. كانت العائلة كلها تتجمع في هذه الليلة التي يتم الاحتفال بها في بيتنا. وكان من بين العادات دعوة شخصين أو ثلاثة أشخاص غرباء من المارة في الشارع للمشاركة في المائدة الاحتفالية وفي كل الاحتفالات.
كان جدي يجلس علي رأس المائدة ويقرأ من "الهغاداه" أي قصة خروج اليهود من مصر. كانت تلك هي أكثر اللحظات التي يفتخر بها، ليس فقط لأنه يترأس أبناءه وأزواج بناته الذين أظهروا تبجيلهم له واتبعوا كل تعليماته، فهو، الأكبر سنا، برأسه الحاد الذي يشبه رأس طير جارح كان أكثرهم توهجا، ولم يفته أي شيء، وكان أثناء ترتيله ، يلاحظ أقل حركة علي المائدة. ويعمل علي استعادة النظام بنظرة أو بحركة يد غير لافتة. كان كل شيء دافئا وكثيفا، إنها أجواء الحكاية القديمة جدا التي يجري عرضها بدقة وإتقان شديدين. كان جدي يستحوذ كثيرا علي إعجابي في "ليالي الهسيدر"، وحتي أبناؤه الذين لم تكن علاقتهم معه سهلة، كانوا يبدون منسجمين ورائقي المزاج.
وبوصفي أصغر أفراد العائلة، كانت توكل إلي مهمة ليست بالتافهة وهي غناء ترنيمة "مانشتانا" أي "كيف تختلف"، إذ عادة ما يتم سرد قصة الخروج من مصر عبر طرح أسئلة عن مناسبة العيد. ففي مستهل الاحتفال يسأل أصغر الحاضرين مباشرة عن معني كل هذه الطقوس: الفطير غير المخمر والأعشاب المرة وكل الأشياء غير المعتادة الموجودة علي المائدة. ويجيب الراوي، وهو في هذه الحالة جدي، علي السؤال بأن يحكي قصة الخروج من مصر باستفاضة. وبدون سؤالي الذي كنت أردده عن ظهر قلب، رغم إنني كنت أمسك بالكتاب وأتظاهر بقراءته، ما كان للحكاية أن تبدأ. كانت تفاصيل القصة معروفة لي، فقد شُرحت لي كثيرا، رغم ذلك لم يفارقني الشعور بأن جدي كان يجيب أثناء روايته للقصة علي سؤالي. لذا فقد كانت تلك ليلة عظيمة لي أنا أيضا، وكنت أحس بأهميتي وبأنه لا غني عني فيها، ولحسن الحظ لم يكن هناك من أبناء العمومة من يصغرني سنا وإلا لكان بإمكانه إن ينتزع مني هذه المكانة.
لكن رغم متابعتي لكل كلمة وكل حركة تصدر عن جدي، فقد كنت أتوق طوال فترة التراتيل للنهاية، فعندها كان يأتي أجمل ما في الحفل، إذ يقف الرجال فجأة ويرقصون سويا ويغنون "هاد غديا، هاد غديا!" أي "حمل صغير، حمل صغير!" كانت أغنية مرحة وكنت أعرفها جيدا، ومع ذلك كان من المعتاد أن يلوح لي أحد أعمامي بمجرد انتهاء الأغنية ويطلب مني ترجمة أبياتها بيتا بيتا إلي الإسبانية.
عندما كان أبي يعود من العمل، كان ينخرط مباشرة في حديث مع أمي. كانا يحبان بعضهما جدا في هذه الفترة وكانت بينهما لغة مشتركة خاصة لم أكن أفهمها، كانا يتكلمان بالألمانية، لغة الفترة السعيدة التي ذهبا خلالها إلي المدرسة في فيينا. وكان مسرح بورغ هو موضوع حديثهما الأثير، ففيه شاهدا، قبل تعارفهما، المسرحيات نفسها والممثلين عينهم، ولم يتوقف سيل ذكرياتهما عن تلك الفترة أبدا. وقد عرفت لاحقا أنهما قد وقعا في غرام بعضهما البعض عبر أحاديث كهذه. ورغم أن أيا منهما لم يستطع تحقيق حلمه- كلاهما كان يتمني أن يصبح ممثلا- فقد تمكنا من إتمام زواجهما رغم وجود اعتراضات كثيرة عليه.
عارض جدي أرديتّي الذي ينحدر من سلالة واحدة من أقدم وأغني عائلات اليهود السفارديم في بلغاريا، زواج أصغر بناته وأحبهن إلي قلبه بابن أحد الوافدين من أدريانوبل. كان الجد كانيتي رجلا عصاميا، بدأ حياته كطفل يتيم مخدوع، واجه الحياة في الشوارع في سن صغيرة، ورغم تمكنه من تحقيق الثروة، إلا أنه ظل في نظر الجد الآخر مهرجا وكذابا. Es mentiroso أي "إنه كذاب"، سمعته يقول ذلك ذات مرة، وكان غير مدرك بأنني أصغي لكلامه. لكن الجد كانيتي لم يأبه لعنجهية آل أرديتي تجاهه، فقد كان بإمكان ابنه أن يتزوج بأي فتاة يرغب بها، ولم تكن ثمة ضرورة لأن يتزوج بالذات من ابنة هذه العائلة. لذلك بقيت علاقة والداي في البداية سرية، وفقط بالتدريج وبصعوبة شديدة وعبر الدعم الفعال للإخوة الكبار والأقرباء ذوي النوايا الطيبة، أمكن لهما الاقتراب من تحقيق أمنيتهما. وفي نهاية المطاف استسلم كبيرا العائلتين، لكن التوتر بينهما ظل قائما و أبدالم يستطع أيا منهما تحمل الآخر. وخلال الفترة السرية للعلاقة بين الشاب والفتاة تغذي حبهما باستمرار علي هذه الأحاديث الألمانية، وربما يمكننا أن نتخيل الدور الذي لعبته ثنائيات العشق المسرحي في هذه الأحاديث.
لذلك فقد كانت لدي أسباب كافية للشعور بالإقصاء عندما كان والداي يبدآن أحاديثهما تلك. ومعها كانا يصبحان أكثر حيوية ومرحا وكنت أربط هذا التحول بوقع اللغة الألمانية. كنت أصغي إليهما بتوثب شديد وأسألهما عن معني هذه الكلمة أو تلك. وكانا يضحكان ويقولان إنه من المبكر جدا أن يشرحا لي ذلك، إنها أشياء سأتمكن فيما بعد من فهمها. وقد كان كافيا جدا أن أفصحا لي عن معني كلمة واحدة وهي Wien أي فيينا. كنت أظن أنه لا بد أن ثمة أشياء رائعة لا يمكن قولها إلا بهذه اللغة. وعندما كان إلحاحي يطول دون جدوي، كنت أهرع غاضبا إلي غرفة أخري يندر استخدامها وأردد لنفسي بدقة تامة الجمل التي سمعتها منهم، وكأنها عبارات سحرية، ظللت أتدرب عليها كثيرا، وبمجرد أن أصبح وحيدا كنت أطلق العنان لترديد كل الجمل وأيضا الكلمات المفردة التي تعلمتها واحدة تلو الأخري، بسرعة كبيرة بحيث أضمن ألا يفهمني أحد. وكنت أحرص علي ألا يلاحظ والداي أي شيء من ذلك وهكذا جعلت سري مقابلا لسرهم.
وقد اكتشفت أن أبي كان يحتفظ باسم لأمي لا يستخدمه إلا عند حديثهما بالألمانية. كان اسمها ماتيلدا وكان يسميها "ميدي". ذات مرة وقفت في الحديقة وغيرت صوتي بقدر المستطاع وأخذت أنادي "ميدي! ميدي!". هكذا كان يناديها أبي من فناء الحديقة عند عودته إلي البيت. ثم جريت بسرعة وطفت حول البيت ثم اختفيت بعض الوقت وعدت مجددا بسحنتي البريئة. وقفت أمي حائرة وسألتني إن كنت قد رأيت أبي. كان ظنها بأن صوتي هو صوت أبي بمثابة انتصار لي، وقد كنت من القوة بمكان بحيث احتفظت لنفسي بسر الحكاية التي وصفتها أمي لأبي بأنها غير مفهومة.
لم يخطر ببالهما أن يشكا في، لكن فهم ما يقولانه بلغتهما السرية كان من الأمنيات الملحة الكثيرة لدي في تلك الفترة. لا يمكنني أن أفهم لماذا لم أغضب من والدي بسبب ذلك، واحتفظت بالأحري بغضب دفين علي أمي، لم تزل غشاوته إلا بعد سنوات عدة من وفاة والدي عندما بدأت هي بنفسها في تعليمي الألمانية.
في أحد الأيام غطي الدخان فناء الحديقة، وأسرع بعض من خادماتنا الصغيرات إلي الشارع وعدن بسرعة منفعلات وهن يحملن النبأ بأن بيتا مجاورا يحترق وأن النيران اشتعلت في كامل أنحائه، وأن الحريق دمره تماما. وعلي الفور خلت البيوت الثلاثة المحيطة بفنائنا من سكانها، فباستثناء الجدة الأم التي لم تغادر كنبتها أبدا هرع الجميع إلي خارج البيت. حدث ذلك بسرعة شديدة لدرجة أنهم نسوني. شعرت بقليل من الخوف وأنا وحدي تماما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.