في ظل ما يعيشه الشارع التونسي هذه الأيام من توتر نتيجة الخلاف بين الحكومة التونسية وجماعة أنصار الشريعة السلفية، يتواصل الجدل الواسع بين مكونات المجتمع المدني والسياسي داخل هيئة تنسيق وصياغة الدستور بالمجلس الوطني التأسيسي، حول مسودة الدستور، والتي أعلن رئيس المجلس الوطني التأسيسي التونسي "مصطفى بن جعفر" الانتهاء من صياغة مشروع الدستور الجديد؛ تمهيدًا لعرضه للمناقشة والتصويت. ومنذ الإطاحة بنظام "ابن علي" في "تونس" مع حلول عام 2011، كانت الدعوة إلى صياغة دستور جديد للبلاد يعبّر عما تقتضيه هذه المرحلة من ضرورة إصلاح، ويقوم بصياغته مجلس تأسيسي منتخب فيما سيأتي به المستقبل من تنظيم يوافق رغبات التونسيين، والتي يعبّر كل منها عن تصوّر معين لما ينبغي أن يكون عليه دستور البلاد في الحاضر والمستقبل، باعتباره النص التشريعي الأعلى، والمرجعي لكل النصوص التشريعية التي ستُصاغ لاحقاً. ويمكن عرض هذا الملف بتقسيماته المختلفة التي تبين مدى نجاح مشروع الدستور الجديد في عكس رغبة التونسيين في الإصلاح، والقطع بكل مظاهر الفساد في الماضي من خلال تكوين شكل نموذجي لثورة دستورية. ردود أفعال وتباينت ردود الأفعال بشأن المشروع الأخير بين أطراف تعتبر أنّ مشروع الدستور لا يرتقي إلى آمال التونسيين، وأطراف أخرى ترى أنّه يستجيب للمطالب التي قامت من أجلها ثورة 14 يناير. وعلى مستوى الرأي المؤيد لديباجة الدستور الجديد، أثنى "مصطفى بن جعفر" على المشروع الجديد للدستور، وقال: إنه من أفضل الدساتير في العالم. ومن جانبها، قالت "فريدة العبيدي" - رئيسة لجنة الحقوق والحريات -: إنّ مشروع الدستور اعترف لأول مرّة في التاريخ التونسي بحق الإضراب، معتبرة أنّه مكسب وقع تنظيمه ليضمن عدم تعطيل المصالح العامّة، ومنوهة بأنّ المسوّدة تضمنت في موادها جملة من الضمانات والحقوق والحريات التي تلبي أهداف الثورة وطموحات الشعب، مشيرة إلى أنّ المشروع نص على إقرار محكمة دستورية ستطعن في كل القوانين التي تنتهك الحقوق الدستورية. وفي نفس الاتجاه، أكد "العربي عبيد" - النائب الثاني لرئيس المجلس التأسيسي - أنّ مسوّدة الدستور تضمّنت الكثير من الحقوق المدنية والسياسية والبيئية وغيرها، استناداً إلى التجارب المقارنة والمعايير الدولية، مشيراً إلى وجود جملة من المبادئ الأساسية التي تضمن الحقوق والحريات وتكرّس استقلال القضاء والفصل بين السلطات وتضمن حيادية الجيش والأمن ودور العبادة، وتدعم اللامركزية كأساس لإدارة البلاد. أما على الجانب الرافض لديباجة الدستور التونسي، يتحفظ نواب على وجود مفاهيم دينية في توطئة الدستور، يرون أنها تهدد مدنية الدولة، كما يعارضون استثناءات في باب الحقوق والحريات، تقيّد حرية التعبير والإبداع بواجب احترام حقوق الآخرين والآداب العامّة. وبدورها قالت منظمة حقوق الإنسان "هيومن رايتس ووتش": إن بعض البنود في مشروع الدستور التونسي تشكل تهديداً لحقوق الإنسان والحريات جراء القيود الكثيرة المفروضة على حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات، مطالبة بتعديل بعض البنود لتتوافق مع المبادئ الروحية لحقوق الإنسان. كما اتهم "عصام الشابي" - القيادي في الحزب الجمهوري المناهض لمسودة الدستور - حركة النهضة (صاحبة أغلبية البرلمان بعدد مقاعد بلغ (89) مقعداً)، بتجاهل رأي بقية الكتل النيابية والسعي لتمرير نظام برلماني يتيح لرئيس الحكومة وحزبه ذي الأغلبية الهيمنة على الدولة. قضايا جدلية وفي معرض أبرز القضايا الجدلية التي قادت إلى الخلافات التي أحاطت بمسودة الدستور، تمثلت في سعي المعارضة لتعديل النظام ليكون مزدوجاً، بعدما رأت في مشروع الدستور أنه تبنى نظاماً برلمانياً لا يسمح بتوازن الصلاحيات بين رأسي السلطة التنفيذية (أي رئيس الدولة ورئيس الحكومة). ومن ناحية أخرى، دار السجال حول مسوّدة الدستور التونسي باعتبارها لا تقرّ صراحة حرية الضمير والمعتقد، مما أثار استياء قطاع واسع من التونسيين الذين يتخوّفون من ثغرات تتيح للمتشددين دينياً فرض قناعات مغالية. وبدوره أكد مقرر الدستور "الحبيب خضر" أنّ النظام الذي تم اعتماده يمنح صلاحيات واسعة لرئيس الدولة الذي سيكون منتخباً من الشعب، وسينفرد بصلاحيات كبيرة منها حلّ مجلس الشعب إذا فشل في تشكيل الحكومة، وإعلان حالة الطوارئ، واتخاذ قرار الحرب والسلم، والقيام باختيار القيادات العسكرية. لكن القيادي في حركة النهضة يرى أنه بالإمكان تجاوز هذه الخلافات بالحوار، مؤكداً أنّ الأهم من تقاسم الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة هو "تبني نظام متوازن قادر على أن يعمل دون خلق أزمات". وليس النظام السياسي هو مصدر الخلافات الوحيد، إذ يقول الخبير بالقانون الدستوري "رافع بن عاشور": إنّ مشروع الدستور تضمّن "ألغاماً" بتوطئة الدستور وبنوده تمسّ مدنية الدولة والأمن والحريات، وهو ما اعتبره تراجعاً عن مضمون دستور 1959. وفي محاولة منه لرأب هذا الصدع وتهدئة الخلافات، أطلق الرئيس التونسي "المنصف المرزوقي" مؤخرًا حواراً وطنيًا من أجل تقريب وجهات النظر حول القضايا الخلافية في الدستور وغيرها، إلا أنّ الحوار تعطل خاصة بعد انسحاب الحزب الجمهوري الذي أصرّ على رفضه للنظام البرلماني. أجواء ملتهبة فهل تصبح ظاهرة التيارات الاحتجاجية فتيلاً للأزمة السياسية بين المعارضة والسلطة التونسية؟ خاصة بعد اتهام المعارضة للسلطة الحاكمة بزعامة حزب النهضة الإسلامي استغلال الأخيرة الأجواء الحالية للترويج لعدم الاستقرار الأمني، وبالتالي إبقاء الحالة المؤقتة التي تعيشها "تونس" منذ أكتوبر 2011، وعدم تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية في هذا التوقيت؛ لأنه قد يفضي إلى إقصاء حزب النهضة من الحكم. وعليه فقد شكلت ظاهرة عودة الحركات الجهادية اهتماماً خاصاً في النموذج التونسي الذي بدا في مفترق طرق، فبينما لا يزال الوضع الاقتصادي مترنحاً بين وطأة الإضرابات والاحتجاجات النقابية، يتصاعد خطر الإرهاب في المناطق الحدودية خاصة مع "الجزائر". مفترق طرق وفي ظلّ الانقسامات حول مشروع الدستور لا يستبعد مراقبون أن تتجه "تونس" إلى الدخول في نفق مظلم ما بين تصاعد الخلافات حول مسودة الدستور، خصوصاً في ظل اشتداد سوأة الأوضاع الأمنية، وما بين تنظيم استفتاء شعبي، وذلك في حالة فشل نواب المجلس التأسيسي في المصادقة على مشروع الدستور بأغلبية الثلثين من أعضائه البالغ عددهم (217) عضواً. وعن التداعيات المرتقبة للسيناريو الأول الذي يفصح عن فشل المجلس التأسيسي في الموافقة على مسودة الدستور وإقرارها، وهنا يمكن القول أنها ستكون بمثابة فشل للمجلس التأسيسي لوضع الدستور، ومما يزيد من سوء الأمور أن المجلس لا يتحسب لذلك الأمر ويسن قانوناً ينظم الاستفتاء وما بعده. أما السيناريو الثاني الذي ترغبه كل التيارات الوطنية (ولكن يبدو أنها لا تسعى إليه) هو إمكانية تجاوز الخلافات السياسية حول ديباجة الدستور، عن طريق انتهاج قنوات الحوار والانفتاح في جو من المصارحة الوطنية وتغليب المصلحة العليا للبلاد، والاتفاق بشأن عمليات تقاسم السلطة بين القوى السياسية من خلال تبني نظام متوازن قادر على أن يعمل بمرونة ولا يخلق أزمات.