سجلت البلاد الشهر الماضي عجزاً تجارياً هو الأسوأ منذ عام 1959، حيث وصل إلى (994) مليون دولار"، كان هذا هو مضمون العناوين التي طغت على الصحف المحلية والعالمية في "البرازيل" في أعقاب إعلان وزارة التنمية والصناعة والتجارة الخارجية البرازيلية، بأن العجز التجاري خلال الثلث الأول من العام الحالي وصل إلى (6.15) مليار دولار، وهو الأسوأ أيضًا في التاريخ المعاصر، في حين حققت البلاد فائضاً تجارياً خلال الفترة نفسها من العام الماضي 2012 بلغ (879) مليون دولار. إنها ضربة مفاجئة للاقتصاد السادس عالمياً، الذي ساهمت الرؤية السياسية المتطلعة له منذ ثمانينيات القرن الماضي في ظهوره كقوة إقليمية ودولية صاعدة وفقاً لمقومات جغرافية وديموجرافية كبيرة، واقتصاد قوي مبني على ثروات طبيعية ضخمة وسوق استهلاكي واسع، وذلك بعد ما داهمها الاستعمار كغيرها من دول العالم الجديد، وحُجبت عنها التطورات السياسية في ظل حكم عسكري استبدادي امتد من بعد الاستعمار حتى عام 1985. مقومات كامنة وحينما ينكشف الستار عن "البرازيل" كقوة إقليمية ودولية حديثة، لا يمكننا تجاهل مقدار الإمكانات الهائلة التي يمتلكها سادس اقتصاد على مستوى العالم، وهو بالفعل ما حقق لها نمواً سريعاً نسبياً، ونموذجاً قريباً من الدول النامية، يمكن الوصول إليه بالتفتيش عن مقومات الاقتصاد الذي يمثل عمود القوة السياسية، وبعدهما القوي على المسرح الدولي. ومن هنا فإن مصدر قوة اقتصاد "البرازيل" يكمن في أمرين: السوق المحلي، والموارد الطبيعية، فهي تتمتع بسوق محلي قوي، يعتمد بشكل أساسي على الطبقة الوسطى، التي أفرزت حراكاً جديداً في السوق المحلي، على كافة المستويات، بدءاً من نمو الطلب على الغذاء، والصحة، والتعليم، وصولاً إلى الخدمات، والعقارات، والتمويل، ومن ناحية الموارد الطبيعية، فإن "البرازيل" تتمتع بإمكانات هائلة، فهي من أولى دول العالم في إنتاج البن، والسكر، والبرتقال، واللحوم، وفول الصويا، والإيثانول، وخامات الحديد، إلى جانب عدد كبير آخر من المواد الخام. والأمر الذي يؤيد ذلك الاتجاه هو كون "البرازيل" تتمتع على مدى العقود الثلاثة الماضية باستقرار في الاقتصاد الكلي، وانخفاض في التضخم، ونمو اقتصادي مرتفع، وانخفاض نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن الحد من التفاوت في الدخل". وظهر نجاح الاقتصاد البرازيلي، حينما صمد في وجه الأزمة المالية العالمية التي تركت أثراً سلبياً على معدل النمو في اقتصاديات العديد من بلدان العالم النامية منها والمتقدمة، حيث بلغ معدل النمو في "البرازيل" في أوج الأزمة المالية (عام 2008) نحو (5.1%)، ومن المقدر أن يستمر محافظاً على هذا المعدل في السنوات المقبلة. وعلى مستوى الأجواء في القارة اللاتينية، فإن "البرازيل" تقع في إقليم يتميز بخلوه من النزاعات العسكرية نسبياً، ولذلك فإن إنفاقها على الأغراض الدفاعية يتساوى تقريباً مع "أستراليا" أو "إسبانيا"، كما أن جيشها محدود نسبياً، لكنه مع ذلك يعد واحداً من أفضل 20 جيشاً في العالم. تحديات موجودة وبجانب هذه المقومات التي يمتلكها الاقتصاد البرازيلي كقوة صاعدة في القارة اللاتينية، هناك عدد من المعوقات الداخلية والتحديات الخارجية التي لا تقل أهمية عن هذه المقومات، وهي موجودة بالفعل خصوصاً على المستوى الاقتصادي، وتزايد الالتفات إليها مع هذه النتائج الأخيرة. فعلى الصعيد الاقتصادي، رغم متانة الاقتصاد البرازيلي وقوته المستقبلية، فإنه يعاني من بعض العقبات والتحديات، من أهمها زيادة العبء الضريبي على الأفراد والشركات، والذي يشكل (وفقاً للبنك الدولي) نسبة (35%) من الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن ارتفاع أسعار الخدمات العامة، رغم زيادة الإنفاق الحكومي، وضعف البنية التحتية، وتعثر آلية التنفيذ القضائي لأحكام القانون نتيجة انتشار معدلات عالية من الجريمة والفساد والبيروقراطية الإدارية، وتدني نسب الاستثمار في رأس المال البشري لعدم مواكبة نظام التعليم لما يناسب المعايير المثلى للنهضة الاقتصادية، حيث تعاني "البرازيل" من قلة أعداد المتعلمين ذوي الخبرة وأصحاب المهارة التي يحتاجها سوق العمل. وبالتالي فالبرازيل تواجه العديد من المخاطر الإستراتيجية التي تشمل مشاكل اجتماعية كالفقر وارتفاع معدلات الجريمة من تجارة المخدرات وتهريب الأسلحة، فضلاً عن المشاكل البيئية وارتفاع آثار التغيّر المناخي نتيجة تدمير الغابات الاستوائية في إقليم الأمازون، وما ينجم عن ذلك من تداعيات اقتصادية وبيئية خطيرة. ولا تتوقف سلسلة التحديات التي تواجه التجربة البرازيلية عند هذا الحد، لكنها تشمل مجموعة أخرى من التهديدات التي تتعلق بمحددات خارجية، على رأسها نزاعات دول الجوار، خصوصا مع "بوليفيا" وحرب العصابات في "كولومبيا" والهجرات السرية، وأنشطة العصابات المسلحة، هذا بالإضافة إلى التهديدات النووية (من بوليفيا)، واستفحال النشاط الإجرامي في الأمازون، وأخيراً التحديات البيئية المرتبطة باستنزاف الثورات الطبيعية (غابة الأمازون). سيناريوهات محتملة ويبقى لاكتمال الرؤية لهذه القوة اللاتينية أن نضع بعض التكهنات حول مستقبلها، فثمة اتجاه أول يدور حول الاعتقاد بأن هذا التراجع في الميزان التجاري إنما يعبر عن نوبة عابرة ولا تستمر في المستقبل، وبعدها تعاود "البرازيل" اكتمال دورها على المسرح الدولي كقوة إقليمية ودولية صاعدة، ويزيد من هذا التكهن تجاهل السلطة البرازيلية أهمية النتائج لتراجع الميزان التجاري نتيجة زيادة العجز؛ لأن بعض الواردات التي قامت بها شركة «بتروبراس» العملاقة للطاقة العام الماضي، تم تسجيلها بالفعل خلال هذا العام، ووفقًا لسكرتير التجارة الخارجية للبرازيل "تاتيانا برازيريس" قال: "إن الميزان التجاري لسادس أكبر اقتصاد على مستوى العالم سيسجل فائضًا خلال مايو الجاري، وسينهي العام الجاري بفائض سنوي". ويبدو أن هذا الاحتمال لا يروق لبعض الخبراء الاقتصاديين، الذين يرجحون احتمال فقد القارة اللاتينية بريقها في ظل استمرار تداعيات الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالعالم كله منذ صيف 2008، والتي ظهرت تداعياتها اليوم على الاقتصاد البرازيلي، الذي يرتبط ميزانه التجاري بعلاقات قوية مع "الولاياتالمتحدةالأمريكية" وأوروبا مصدرا الأزمات الاقتصادية الحالية. وعند التسليم بهذا السيناريو، فإن الأمر مرتبط بشكل مباشر بتراجع "البرازيل" الاقتصادي نتيجة استمرار العجز في الميزان التجاري، ووصوله إلى مستويات مزمنة، وبالتالي قد تضيع الفرص على القارة اللاتينية الغنية في لعب دورها المنشود في المسرح الدولي، خصوصاً مع انتهاء عصر "تشافيز" في "فنزويلا". وفي النهاية يظل التساؤل موجوداً بين هذين السيناريوهين اللذين لا يبتعد المستقبل القريب عن أحدهما دون الآخر، وهو ما يثير الشكوك حول مدى تمكن "البرازيل" من التحول من قوة إقليمية إلى قوة دولية، أم أن المداخلات الجديدة التي يشهدها الاقتصاد العالمي لاقت صداها في القوة الصاعدة اللاتينية، مما يعطي انطباعاً بعودة عدة معوقات اقتصادية داخلية وتحديات خارجية، قد لا تستطيع تجاوزها لتعود مرة أخرى لما كانت عليه.