استكمالا لما تحدثنا عنه فى المقال السابق عن تصورات "تهافت الوضعية وشموخ المعيارية الأسلامية وعلاقتها بالمناهج الوضعية " نستكمل فنقول : فبالإضافة إلى تضخم الفكر الوضعي وذاتيته التي يحاول أن يرتفع فيها عن التاريخ والحقائق كما هي في واقع الأمر، فهو أسير النزعة الذاتية التي تملئ على المفكر العلماني الوضعي أفكاره وقناعته المذهبية. والأخطر من ذلك قيامه بخدمة أهداف قوى الاستدمار الحديث والعمل لمصلحتها، فهناك فرع في علم الاجتماع يسمى علم الاجتماع الاستعماري، الاستدمارى، والذي عقد أول مؤتمر دولي له بباريس سنة 1900م وكان موضوعه دراسة المسائل الأخلاقية والمجتمعية المرتبطة بحركة الاستعمار. فهل ترى دور العلمانيين مازال مستمرا في بلادنا؟ ولماذا يتحاشوا عند المناقشة الاتهام بالخيانة وإطلاق الأحكام الشرعية على مواقفهم الفكرية والسياسية؟ فقط راجع حالة الدكتور عمرو حمزاوي في العديد من حواراته مع الإسلاميين دائما يكرر لا داعي للتخوين والاتهام بالعمالة أو التكفير الخ.. وقد مثل هذا الفرع من علم الاجتماع الاستعماري في أمريكا، كيسنجر وفى فرنسا مونتانى، وفى ايطاليا بريتو، وفى بريطانيا ايفانز برتشارد، وفى ألمانيا ماكس فيبر، وهذه المدرسة لها فروعها في عالمنا الإسلامي والعربي ومندوبيها. دور العلمانيين في بلادنا وفقا لفرع علم الاجتماع الاستعماري الاستدمارى تحطيم البنيات الاجتماعية والثقافية للبلاد الإسلامية لتصبح سوقا استهلاكية لقيمه وثقافته وتحويل الانسان المسلم إلى تابع ومقلد لأفكار لا تنتمي إلى بيئته ولا قيمه. وعلى حد قول شريعتي: “حسب هؤلاء المفتونين أنهم يقومون بحركة نضالية ضد الدين والقديم والتاريخ والتقاليد وأشكال الحياة الإسلامية وكأنهم يقلدون دور فولتيير ودويدر وغيرهما في مجتمعاتنا الإسلامية!”. والمتأمل في هذه الدعوات يجدها في خدمة الاستعمار الاستدمارى الحديث، ولعل حالات تبرير دخول أمريكا للعراق وأفغانستان لها نصيب من هذه الدعاية. والأغرب أن تسمع جيمس بلفور صاحب الوعد المشئوم يمن على بلادنا ومجتمعاتنا فيقول: “إن الاتهام القائل بأننا أوقعنا ظلما بالعرب اتهام غير صحيح”. ثم يقول: “لقد أقمنا ملكا في العراق ومن قبله في الحجاز، وقد فعلنا للعرب ما لم يفعله احد طوال القرون التي خلت حتى بوأناهم ما هم فيه الآن”. كما أن هؤلاء العلمانيين يقومون بإرهاق المجتمعات الإسلامية بجدل سفسطائي لا طائل من ورائه سوى تضييع عمر الأجيال، وإلا ماذا قدموا طوال 212 سنة منذ إسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية من نهضة تكنولوجية وعلمية في مصر وفى طول العالم الإسلامي وعرضه؟ ففي التجربة المصرية منذ محمد علي الى الآن 212 سنة ماذا كانت النتائج ، فقط عملوا مندوبين لهذا الفرع لعلم الاجتماع الاستعماري؟ لأن هذه القوى لا تسمح لنا بنقلها؟. يجب ألا ينتظر، فمن يريد التقدم لا يحتاج إذنا من احد، وإلا فهذا هو الاستقلال الصوري من قوى الاستعمار الاستدمارى، وبقائه فكرا وسياسية وثقافة وتعليما وسببا في تخلفنا. فضلا عن الإرادة السياسية المرتهنة له والتي ظل يدعمها على طوال هذا التاريخ الفكر العلماني ومنهجه الوضعي. المعيارية الإسلامية وشموخها: المعيارية الإسلامية على النقيض من الوضعية العلمانية، فهذه المشكلات المعرفية التي أفرزتها عقدة الصراع إنما تعبر عن هموم الغرب، وهى خاصية من خصوصياته المعرفية التي وجهت معارفه وعلومه وانعكست على تصرفاته وتصوراته. ولا يصح البتة جعلها مشكلة كونية تفرض نفسها على ثقافات ذات مرجعيات وخصوصيات مغايرة، كما هو الحال مع المنهجية الإسلامية المعيارية الشامخة التي بنيت على أسس من الوئام الفكري، والانسجام الكامل بين ما هو عقلي وديني وحسي ووجداني. فلا صراع مع الدين البتة وفق المعيارية الإسلامية. وسأدع أوجست كونت يجيب ويقرر حقيقة علمية للمنهج الإسلامي، يقول كونت: “في الوقت الذي كان الغرب المسيحي مشغولا بقضايا لاهوتية عقيمة، كان العالم الإسلامي يتفتح عن العلم والمعرفة والفنون واصلا اجتماعياته جنبا إلى جنب مع روحانياته.. إن التفوق الاجتماعي وأهميته في التعاليم الإسلامية أهلت المسلم ليكون أكثر صلاحية من غيره اجتماعيا وأهلته للعالمية”، يالله للعالمية الكونية ويضيف كونت أيضا في نفس كتابه، نسق السياسية الوضعية ص 479و560 وهنا في ص 470قوله: “إن العبقرية الإسلامية قلما تتعارض مع الحديث النهائي للدين الوضعي حيث إنها دائما تتطلع متصعدة نحو الواقع عن طريق اتجاهها العلمي وعقيدتها المبسطة”. ويقول سيمون قبل كونت مادحا الأسس المعرفية الإسلامية: “إن سقوط النظام الكنسي حدث مع إدخال العلوم والمعرفة الإسلامية إلى أوربا عن طريق العرب وقد خلق هذا بذرة الثورة المهمة التي انتهت اليوم تماما..” ثم يقول: “انطلاقا من القرن 13 م كان روجر بيكون يدرس الفيزياء بشكل رائع، بل ذهب اثنان من الباباوات في نفس الفترة إلى قرطبة ليتموا تعليمهم مع دراسة العلوم القائمة على الملاحظة والتجربة على يد أساتذة العرب”. مثل هذه الاعترافات الغربية الكثيرة تجعل الفكر العلماني في عالمنا الإسلامي والعربي في موقف محرج، وبهذا الصدد يقول منير شفيق: “العلمانيون ومنهجهم الوضعي الذي يعمل لخدمة الاستعمار، وإنهم يعتمدون على التجربة الاوروبية ويسحبونها على الإسلام وهم بذلك يحاولون أن يفرضوا التشابه على غير المتشابه ويجعلون وطنهم يكرر أداء تمثيلية جرت وقائعها في بلاد أخرى وضمن ظروف ومعطيات مختلفة وفى تقليد يجانب الأصالة والاستقلال والإبداع”. (في كتابه الإسلام في معركة الحضارة ص 184). وفى الختام: يقول الدكتور محمد آمزيان: “إن المحاكاة وعدم الوعي بالذات كانت وراء الكثير من الهزائم الفكرية.. وقد وقف الفكر العلماني على ارض لم تكن أرضه ولن تكون، ودافع عن فكر لم يكن فكره لم ولن يكون، ولن يكون نابتا من أرضه وانتصر لقيم ليست قيمه، وظل وعيه العقائدي غائبا عن ممارسة رقابته” لهذا فالدعوة إلى ضرورة التزام المعيارية الإسلامية في علم ألاجتماع لن تكون خجولة أمام الاعتراضات الشديدة، التي تواجهها وإنما يجب أن يتم طرحها على أساس أنها تشكل تحديا يتجاوز النظرة الاجتماعية نفسها.. والذي اعنيه بالمعيارية الإسلامية وفق المفهوم الإسلامي وهى التي تستند إلى الوحي نفسه الذي يتجرد من كل النزعات الشخصية والذاتية، وهذا هو الفارق الأساسي بين المعيارية الإسلامية وأية معيارية أخرى فهي معيارية شامخة بقيمها واستقلالها المعرفي ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وفى كافة أنواع المعارف تستمد شموخها واستعلائها من منهج ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم. المصادر: 1 - منهج البحث في العلوم الاجتماعية بين الوضعية والمعيارية، رسالة دكتوراه نوقشت فى كلية دار العلوم بمصر ونشرها المعهد العلمى للفكر الاسلامى 2 - نقد مناهج العلوم الإنسانية وخطوات صناعة مناهج اسلامية. له أيضا