أثار لقاء فضيلة شيخ الأزهر بعدد من كبار العلمانيين، وصدور (وثيقة الأزهر) ردود أفعال متباينة، أكثرها معترضة ناقدة. وبداية فإن الوثيقة تتضمن التأكيد على الالتزام بالمواثيق والعهود الدولية، والتمسك بالإنجازات الحضارية في العلاقات المجتمعية والدولية. وتؤكد على قداسة دور العبادة الإسلامية والمسيحية وحمايتها، والسعي إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية، مع الإقرار بأن الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية هما الجهتان المنوط بهما تحديد المرجعية الإسلامية، مع عدم مصادرة حق الجميع في إبداء الرأي. وبعيدا عن تناول الوثيقة نفسها فإن الانتقادات الشديدة والتعليقات الحادة الصادرة لشيخ الأزهر تؤكد على استمرار الخلل الواضح في فهم العلاقة مع العلمانية. الذي يجب التنبه إليه أن الحركات الإسلامية لا تنفرد وحدها بالعمل في ديار الإسلام، إنما معها "آخر" يزاحمها في الفكر والواقع والتاريخ والإعلام، ولا شك أن هيمنة النموذج الغربي والاستعماري على مؤسسات الدولة حينا من الدهر، بالإضافة إلى ثلاثين سنة من عمر الرئيس المخلوع في الحكم بذل بمؤسساته المختلفة الجهود المضنية من أجل القضاء على التيارات الإسلامية وصناعة تيارا متغربا من أبناء الأمة يتنبنى المذاهب الوضعية. إلا أن العلمانية ليس كل ما فيها سيئا ومعيبا وعميلا، ومعاديا لنهضة الأمة وقوتها واستقلالها، فإلى جانب قلة من العلمانيين العملاء والثوريين، الذين يريدون بعلمانيتهم نقض الدين والتدين، وليس فقط فصل الدين عن الدولة. فهناك أيضا من العلمانيين الذين رجحوا كفة الخيار الغربي لما أن قارنوه بصورة الخيار الإسلامي الموجود، على النحو الذي نراه الآن، وظنوا أن صورة الإسلام الكاملة هي التي يمثلها السلفيون، ومكتب الإرشاد، والطرق الصوفية. اعتقدوا أن هذا هو الخيار الإسلامي الوحيد، وهو نفس الخطأ الذي وقع فيه المفكر خالد محمد خالد في كتابه (من هنا نبدأ)، لكن سرعان أن تنبه، ومنهم كما يقول دعمارة من اعتقد أن استعارة النموذج الغربي هو السلاح لمواجهة الغرب، والعلمانية منها الجزئية والكلية كما كتب المسيري. إن العلمانيين الذين وقَّعوا على وثيقة الأزهر ليسوا سواء، ففيهم جابر عصفور أبرز منظري التيار العلماني الناقض للدين والتدين والتراث الإسلامي بكل أصالته، وهو بهذا يمثل امتدادا لسلامة موسى ولويس عوض. ومنهم نبيل عبد الفتاح الكاتب بالأهرام الذي يمثل نموذجا علمانيا مختلفا حقيق بالتقدير، ورؤيته في كتابه:(سياسات الأديان.. الصراعات وضرورات الإصلاح) تستحق الوقوف والتأمل فيها، بل إن كتابات نبيل عبد الفتاح تميل إلى الأكاديمية، بخلاف أغلب الكتابات التي اعتاد فيها العلمانيون صناعة تزييف وعي الأمة عن طريق مقالات صحفية ملفقة أكثر منها أبحاث أكاديمية جادة. وآفة الخلط والعداوة تَولَّد عنها غض الطرف عن المفكرين غير المحسبوين على العلمانية، لكنهم قدموا نماذج علمانية في جزء من مشروعهم الحضاري، كالمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتبه:(التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، مكونات الحالة المزمنة)، و:(تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية: مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي)، و:(العرب والسياسة: أين الخلل؟ جذر العطل العميق)، لأن النظر توقف عند الأسماء والانتماءات دون الإنتاج والمناهج، بل إن مسألة "تأريخية النص" التي يتبناها العلمانيون هي بعينها عند بعض الإسلاميين تساوي "تجميد النص" ونقله كما هو، دون معرفة بجمع الأدلة ومزجها وتركيبها ثم فهمها وتحليلها ومراعاة الواقع وسمات العصر. إن هذا القطاع من العلمانيين المسلمين لابد أن تتغير العلاقة بينه وبين التيارات الإسلامية، لأن الحركات الإسلامية قد أسقطت هذا القطاع من العلمانيين ، ومازالت لا تريد الانتقال معهم من صفوف الأعداء إلى الأصدقاء أوعلى الأقل إلى المحايدين. قد يقال إن العلمانيين هم الذين أسقطوا قطاع الإسلامين، لكن المنهج النبوي الذي يتبناه الإسلاميون أوهكذا يزعمون منهج قائم على الاستفادة من تجارب الآخرين وخبراتهم، والعمل على تبادل الآراء وترشيدها، وترشيحها، والانتخاب منها، ودعوة الناس إلى أصول الاجتماع البشري ومنظومة القيم، هذا لغير المسلم فما بالنا بالمسلم. لقد وقفت التيارات الإسلامية من بعض العلمانيين موقف عدم المعرفة بدوافعهم العلمانية المتباينة، والإنكار للإضافات المهمة التي يمكن أن يقدمها هؤلاء العلمانيون للمشروع الإسلامي، فكان من الممكن البحث عن نقاط الاتفاق واكتشافها والانتخاب منها، بدلا من محاصرتها وتقليصها ومحاولة إقصائها كما فعلوا هم. والملاحظ أن التيارات الإسلامية خاصة شبابها مازالت تعيش مع العلمانية في إطار "رد الفعل" على نحو يتسم بالتعميم والتسرع وتقديم السعي قبل الوعي، والحركة قبل الفكر، والحكم قبل القراءة. لا أنكر أن عددا من المفكرين المعاصرين انتبه إلى هذا الخلل في منظومة الحركة الإسلامية، ولم يضع العلمانيين في قالب واحد، فعل ذلك مثلا محمد عمارة والمسيري وحسان حتحوت وعبد المنعم أبوالفتوح وهبة رؤؤف ومحمود سلطان وسيف عبد الفتاح، لكنها جهود فردية لا تمثل توجها عاما. باحث في الحركات الإسلامية [email protected]