مصر في المرتبة 166 عالميا في حرية الصحافة ، وبهذه الحقيقة قارن رونالد ميناردوس المدير الإقليمي لمؤسسة "فريدريش ناومان" بين الصحافة في مصر وفي وطنه ألمانيا، قائلا أن الدولة لديهم تمنع احتكار الصحافة ووسائل الإعلام عموما لجهة واحدة ، وأن صحيفة ك"دير شبيجل" يخشاها الساسة بل ورئيس الجمهورية نفسه لأنها تنشر فضائحهم .. وحين ننظر لطبيعة تلك الفضائح سنجد أنها تحدث في مصر كأمور طبيعية للغاية مثل أن يتقاضى عضو بالبرلمان مقابلا كبيرا لظهوره الإعلامي ، أو أن يلتقي الرئيس بأحد رجال الأعمال ويسمح له بدعوته على العشاء ! وأكد المحاضر خلال لقاء جمعه بعدد من الشباب المصري والصحفيين بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية منذ قليل، أنه من غير المقبول أن تظل الدولة في مصر مهيمنة على وسائل الإعلام الأساسية، فالعالم لا يعرف تمويل الدولة للصحف ولا التليفزيونات، ولا تدخلها فيه ، ولا وجود وزير للإعلام من الأساس وهو اختراع طبقه مبارك ونظراؤه ليكون هناك بوق مستمر للنظام المستبد، ويعلم الوزير الحالي أنه سيكون آخر وزير. وأضاف بأن الدول الديمقراطية تشهد وسائل إعلام عامة مملوكة للشعب ويمولها بنفسه من حصيلة الضرائب وهذا ما يضمن نجاحها، كما تعتمد تجارب الدول الناجحة على ازدهار الصحف المحلية وتنافسها ، بدلا من مركزية الإعلام بالعاصمة وحدها .
وردا على تساؤل "محيط" حول ما يسمى "أخونة الإعلام" ، قال "ميناردوس" : أنا رجل دبلوماسي ولا يمكنني الطعن في أداء نظام الحكم في مصر، لكن من حيث المبدأ فلا يوجد معنى لصحف قومية في دول العالم المتحضر، لأنه لا يوجد أيضا معنى لتمويل الدولة لأي وسيلة إعلام، ولكن الإعلام العام مملوك للشعب ويديره ممثلون على القوى الشعبية بأنفسهم ونشهد ذلك بأداء محطات "البي بي سي" البريطانية وغيرها، ولذلك فهي تتمتع بحرية في العمل . ولا يمكن أيضا قبول أن يقيل رئيس الدولة أي رئيس تحرير لأنه أخطأ ، بل الأصل أن تقوم الجماعة الصحفية نفسها بتوقيع الجزاءات ضده لأنه خالف ميثاق الشرف المعمول به، ومن جهة أخرى لا يمكن قبول تعيين الدولة لأي رئيس تحرير لوسيلة إعلامية على الإطلاق .. وختم بأن تحقيق ذلك ممكنا لو توفرت فقط الإرادة السياسية .
وردا على تساؤل للصحفي عمرو عبدالمنعم ب"محيط" حول أثر الجماعات الإسلامية على الإعلام، قال المحاضر أن الإعلام في مصر بوجه عام يمارس حريته حتى في أحلك الأوضاع، ففي عصر مبارك كانت هناك فضائية "أو تي في" وجريدة "الدستور" وسيستمر ذلك، وبالفعل حين تستمع حتى للإذاعة المملوكة للدولة تجد وجهات نظر متعددة في مناقشة القضايا، وهو تطور إيجابي، وحتى ظهور المذيعات المحجبات بالتليفزيون ظاهرة جيدة للغاية لكن المعضلة – برأيه – حين يقر الوزير عدم ظهور أي مذيعة إلا بالحجاب .
وبخصوص الدستور الألماني، أكد ميناردوس أنه يركز على الحريات ويضعها بالمادة الخامسة، ومنها حرية التعبير والنشر والصحافة وتنظيم النقابات والأحزاب والعمل السياسي والتظاهر ، بل وإتاحة المعلومات ؛ فالحكومة الألمانية ملتزمة قانونا بتوفير المعلومات اللازمة للشعب وللصحفيين والباحثين بالطبع، ولا يمكن حين يزور أحدهم وزارة المالية ألا يحصل على الأرقام الحقيقية حول الضرائب والموازنة وما سواها .
كل ذلك جرى ، كما يشير مدير "نيومان" ، بعد تاريخ طويل لألمانيا مع الديكتاتوريات، والتي قبعت ألمانياالشرقية تحديدا تحتها حتى 25 سنة مضت ، ولذا فقد ركز الدستور على مسألة الحريات، وبالمناسبة فهي ليست مطلقة أيضا، فليست هناك حرية للصحفي مثلا في المساس بسمعة أي مواطن بدون إثبات وإلا تعرض للعقوبة .
وحين ننتقل لمصر ، يجد المتحدث أن المعضلة في غياب البرلمان حاليا وهو ما يجعل السلطتين التشريعية والتنفيذية بيد جهة واحدة وهو أمر خطير، وسوف تنفصل السلطات مجددا بعد إقرار الدستور المصري الجديد ، مؤكدا أنه كلما كان النظام ديمقراطيا كلما كان الفصل بين السلطات قاطعا .
وبالعودة للصحافة، يؤكد المحاضر أنها غير مهددة فقط بفعل تدخل الحكومات ولكن بسبب سطوة رجال الأعمال، الذين يمتلك أحدهم أحيانا سلسلة من الصحف الكبرى التي تعوق أي تطور للصحف المنافسة الصغيرة، والتي تنشر أخبار وتقارير تعين أعمال مالكها وشركاته على الإزدهار . وفي ألمانيا سنرى الوضع ؛ حين تكون مقاطعة صغيرة تمتلك ثلاث صحف للتعبير عنها، فغالبا ما تزداد قوة أحدهم وتضعف واحدة أخرى، ويمكن أن يقوم مالك الأولى بشراء الثانية، هنا لدينا صحيفتان، لكن إذا حاول مالكهما أن يشتري الثالثة، تتدخل الحكومة الألمانية لمنعه من الاحتكار .
والمشكلة في مصر وكثير من دول العالم كما يجد رونالد، ليست فقط في فساد المنظومة الحاكمة قبل الثورة ، لكن في أنها خلفت فسادا في كل القطاعات تقريبا مستمر حتى الآن ، وبما في ذلك القضاء نفسه .
وبخصوص حادثة الرئيس الألماني الذي نشرت له "ديرشبيجل" فضيحة عن دعوة رجل أعمال له ، فقد حاول تهديد رئيس تحرير الصحيفة، لكن ما إن أغلق الثاني الهاتف، حتى نشر تفاصيل المهاتفة للقراء علنا ! وهنا كانت نهاية الرئيس الألماني هذا . وقد فعلت الشيء نفسه صحيفة "واشنطن بوست" حين تسببت في تفجير فضيحة التنصت "ووتر جيت" التي أطاحت بالرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون .
وعن مشكلات الصحف الألمانية، عددها المحاضر في غياب القدرة التمويلية للصحف التي تجعل من غير الممكن للصحفي أن يمارس تحقيقا استقصائيا يقضي في إجرائه أسبوعا مثلا، ولذلك فمعظمهم مضطر للكتابة المستمرة بشكل شبه يومي وهذا ما يقضي تدريجيا على الصحافة الكلاسيكية القوية التي تمارسها عدد أقل من الصحف ، كما أن بعض الصحفيين يخضعون لوكالات الدعاية مع الوقت وينشرون أخبارها ، وهذه النوعيات من المشكلات المالية تواجه دول كبرى كأمريكا التي نجد أن أشهر الصحف بها تتحول لنسخة إلكترونية ومع الوقت تصبح تلك النسخة ليست مجانية ، وهو ما ينطبق مثلا على صحيفة النيويورك تايمز الشهيرة .
تمتلك ألمانيا 350 صحيفة محلية وعامة رغم أنها مؤهلة بنفس عدد سكان مصر 85 مليون نسمة، وهو ما يزيد من مسألة التنافسية بين الصحف، ويصب في صالح الجماهير الذين يتمكنون من معرفة كل ما يدور حولهم .
وقد نشرت مؤسسة "مراسلون بلا حدود" تقريرا مؤخرا حول ترتيب حريات الصحافة في 179 دولة حول العالم، وكانت المرتبة الأولى لفنلندا، والمرتبة 16 لألمانيا، والمرتبة 47 لأمريكا، وفي ذيل القائمة ظهرت مصر بالمرتبة 166، وكوريا الشمالية واريتريا بالنهاية .
وردا على تساؤل جريدة "الوادي" حول الليبرالية التي تتبنى مؤسسة "فريدريش" مناقشتها، أكد المدير الإقليمي أنها ليست ضد الدين، ولكنها مع حرية العقيدة وحرية أي عمل طالما لا يهدد الآخرين ، قائلا أنه في مصر نختزل كل من هو غير إخواني في وصف ليبرالي ونطلقه بالخطأ على مرشحين سابقين للرئاسة كصباحي وأبوالفتوح وربما عمرو موسى أيضا . وأكد أن القوى الليبرالية لن تتمكن قريبا من توحيد صفوفها أمام الجماهير وكسب ثقتهم .