صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب بعنوان "تحوّلات في مواقف النّخب السوريّة من لبنان: 1920 - 2011" ويقع في 399 صفحة من القطع الكبير، للكاتب السوري شمس الدين الكيلاني. الكتاب هو جولة متعدّدة المسارات في الاتّجاهات السياسيّة السوريّة منذ الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان حتّى بداية الانتفاضة السوريّة في سنة 2011، وهو رصد للأحداث السياسيّة الحاسمة مثل إعلان قيام إسرائيل في سنة 1948، وثورة 23 يوليو 1952، واستيلاء حزب البعث على السّلطة في سورية سنة 1963، واندلاع الحرب الأهليّة في لبنان سنة 1975، ولمواقف النّخب السوريّة، السياسيّة والفكريّة معًا، من لبنان، وذلك في سياق التحوّلات في المجال السّياسي السوري طوال نحو تسعين سنة.
وفي هذا الميدان يتعقّب الكاتب الأصول التاريخيّة للأفكار والتصوّرات عن العلاقات السوريّة - اللبنانيّة منذ نشوء الفكرة العربيّة في أواخر العهد العثماني، وإبان العهد الفيصلي، ثمّ خلال حقبة الانتداب الفرنسي، ويحلّل، إلى ذلك، تجربة البرجوازيّة السوريّة ونظرتها إلى لبنان، لينتقل إلى رصد هذا الأمر في أثناء الوحدة السوريّة - المصريّة، ثمّ في فترة الانفصال، وصولًا إلى حقبة البعث، ويختم هذا العرض بتفصيل الاتّجاهات الجديدة التي أظهرتها حركة الاحتجاجات السوريّة منذ 15 آذار/مارس 2011.
ولاحظ المؤلّف كيف أنّ النّزعة القوميّة الليبراليّة هيمنت على المرحلة الأولى التي ظهرت فيها جمعيّة "العربيّة الفتاة"، ثمّ هيمنت النزعة القومية التقدميّة على المرحلة الثانية في ثلاثينيّات القرن العشرين وأربعينيّاته، وكان من آثار ذلك تأسيس "عصبة العمل القومي" في سنة 1933. أمّا في الحقبة الثالثة، فقد انتعشت النّظم التقدّمية التسلطيّة التي كانت ترفع لواء الاندماج بين سورية ولبنان.
يأخذ المؤلّف على كثير من الباحثين اللبنانيّين وقادة الرأي العامّ في لبنان الخلط بين الصّورة النمطيّة لرجل الأمن السوري، والمواطن السوري العادي، وينتقد النظرة التعميميّة لكثير من اللبنانيّين الذين اعتقدوا أنّ السوريّين متّفقون كلّهم، على الرّغم من اختلافاتهم، على موقفٍ موحّد من لبنان، وهو النّظر إليه على أنّه جزء من سورية.
ويعتقد المؤلف أنّ هذه النظرة زائفة تمامًا مثلها مثل النظرة الانتهازيّة التي شاعت في أوساط بعض اللبنانيين ورفعت الشخصيّة السوريّة إلى مصاف البطولة والمقاومة والممانعة. وفي هذا يقول إنّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة أجهزت على صورة كلّ بلد في عيون أبناء البلد الآخر؛ فكثير من اللبنانيين لا يعرفون سوريا إلا من خلال السّلوك الأمني لجيشها في لبنان.
ويخلص الكاتب إلى القول إنّ سوريا الجديدة ستؤسّس دورها الإقليمي لا على اختلاق المشكلات لجيرانها، بل على قوّة المثال الديمقراطي الذي سلكته في خمسينيّات القرن العشرين، والذي من شأنه أن يعيد إلى سوريا تألقها القديم ونموذجها الرّيادي بحيث تغدو جسرًا للتلاقي العربي على قضيّة العرب الأولى: فلسطين.