من الثوابت في السياسة الأمريكية أن واشنطن لا تستطيع أن تعيش بدون إيجاد العدو الوهمي إن لم يكن هناك العدو الحقيقي لتحفيز الشعب الأمريكي , وغني عن البيان أن واشنطن أعلنت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أن الإسلام هو العدو الجديد وقد اذكى هذا التوجه أحداث 11 سبتمبر 2001 م, ومن الثوابت الأمريكية أيضا أن واشنطن تحتفظ لنفسها بأوراق ضغط على الحكومات الصديقة خاصة في الشرق الأوسط وتحديدا الدول العربية , وهي تشهر دائماً هذه الأوراق للضغط على أي نظام عند اللزوم . أحداث وتبعات الفيلم المسيء للرسول عليه الصلاة والسلام هي صناعة أمريكية بحتة ضمن استخدام هذه الأوراق ضد أنظمة تيار الإسلام السياسي في مصر وتونس وغيرهما من الدول العربية , فمنتج الفيلم يحمل الجنسية الأمريكية ويعيش في أمريكا وقد جمع مليارات الدولار من المسيحيين واليهود لإنتاج هذا الفيلم , ولم تحرك واشنطن ساكناً في حين لو جمع أي مسلم في أمريكا 50 ألف دولار لتعرض للمحاكمة في ظل الرقابة المحكمة على الحسابات المصرفية , كما أن واشنطن لم تمنع الفيلم ولكنها سمحت بعرضه تحت ذريعة حرية الابداع المسموح بها في الغرب والمحرمة في الشرق من وجهة النظر الأمريكية .
جاء سيناريو عرض هذا الفيلم ضمن سلسلة من أوراق الضغط على أنظمة الإسلام السياسي الصاعدة في المنطقة العربية , فهو يحمل شبهة توسيع الخلافات بين هذه الأنظمة وبين شعوبها وهز ثقتها في الشارع , أو اختبار مدى استجابة هذه الأنظمة للضغوط الأمريكية وفي كلا الحالتين ضرب التلاحم بين الشعوب وهذه القيادات.. ففي حالة قمع المتظاهرين سيكون ذلك بداية لصراعات داخلية وفقدان الثقة في هذه الأنظمة التي جاءت أصلا عبر المظاهرات الشعبية , وإذا سمحت للمظاهرات فستكون هناك فوضى عارمة قد تؤدي إلى حالة من الصراع الطائفي , وإذا لم تعلن هذه الأنظمة معرضتها لأمريكا فستدخل في دائرة الاتهام بموالاة البيت الأبيض كالأنظمة السابقة.
تزامن ذلك مع إرسال واشنطن عدة إشارات قوية لتيار الإسلام السياسي لإحراجه ومنها أن الحزب الديمقراطي تبنى لأول مرة في تاريخه أن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل , وتوج ذلك الرئيس الأمريكي أوباما بأن مصر ليست عدوة لكنها ليست حليفة , حتى وإن لم تكن مصر حليفة لواشنطن فإن العلاقات الثنائية منذ أن أرساها الرئيس الأسبق أنور السادات لم تشهد مثل هذا الفتور تجاه القاهرة , كما أن الصحف الأمريكية تقول أن أوباما وجه تحذيرات للقيادة المصرية في اتصال تليفوني وهذه التسريبات تغضب الشعب المصري الذي يرفض الاستعلاء الأمريكي أو عدم اللياقة في مخاطبة رئيسه .
يواكب ذلك تلكؤ الإدارة الأمريكية في دعم مفاوضات مصر مع صندوق النقد الدولي لاقتراض مبلغ ال 4.8 مليار دولار , وقد يكون ذلك لابتزاز القاهرة تحت مسمى الاصلاحات الاقتصادية التي ستزيد الاحتقان الشعبي لما لها من تداعيات على تعويم سعر الجنيه , رفع الدعم , وزيادة أسعار السلع .
السيناريو الأمريكي يوضح أن واشنطن تريد محاصرة تيار الإسلام السياسي الذي صعد إلى الحكم في الدول العربية عبر فوضى داخلية , حصار اقتصادي , ودعم إسرائيلي لابتزاز هذا التيار , أو تشويه صورته داخليا وإفشاله أمام شعوبه , فحتى لو انتهت مظاهرات الاحتجاج على الفيلم سيء السمعة فإن واشنطن سوف تصب المزيد من الزيت على النار وسوف تستمر في مراوغة ابرام قرض صندوق النقد الدولي , والتهديد بورقة المعونات الاقتصادية والعسكرية لمصر , بدعوى أنها مطالب للكونجرس وأن الانتخابات الرئاسية تتطلب مهادنة الكونجرس واللوبي اليهودي , والأمر يتجاوز ذلك فهناك عدة أوراق ضغط ولن تتردد في التلويح بها وهي : المعونات , الاقباط , النوبة , مياه النيل , وسيناء , وعلى مصر أن تضع سيناريوهات بديلة وعدم تسليم كل الأوراق لواشنطن , والحذر من الدويلات التي تستخدمها أمريكا كمخلب قط في المنطقة .
على الدولة المصرية أن تلجأ لسياسات غير تقليدية ومنها تنويع الصداقات الدولية , ومصادر الاستثمارات والمبادلات التجارية , وتتبنى علاقات أكثر انفتاحاً مع الدول الصاعدة , خاصة بعد رسالة أوباما ( مصر غير حليفة ) ومن ثم التحرر من علاقة أحادية الجانب , كما يجب على مصر أن تترك مهمة رفع قضايا ضد صاحب الفيلم المسيء للرسول لمنظمات المجتمع المدني أو الناشطين من المحاميين مثل عصام سلطان أو غيره , كما فعلت إيران ضد الكاتب الإيراني الذي يجمل الجنسية البريطانية سلمان رشدي , و الكاتبة البنجلادشية تسنيمة نسرين .
نتائج السياسة الأمريكية التي ظهرت في العراق , والسودان , سوف تتكرر ما لم نضع الخط البديلة والسيناريوهات الجاهزة في أروقة السياسة المصرية .