* مثقفونا وصفوا سوزان بفينوس قبل الثورة ليسبونها بعدها.. * أصوات المبدعين الآن تعاني الفردية * الثورة بدأت مزدهرة ثم دخلت مرحلة الشخبطة
كتبت - سميرة سليمان لم يتخل البساطي عن سخريته حتى في أحلك لحظات مرضه، فيروي عن نفسه حين أخبره الطبيب بأن هناك بؤرة سرطانية نشطة في الكبد، قوله: "نظرت إلي الطبيب، ولسان حالي يقول: كيف حدث ذلك؟! إنه مرض العظماء، وأنا شخص على باب الله"، ولم ينف عن نفسه الضيق لأنه يشارك المخلوع في شئ حتى لو كان المرض
نتذكر هذه الكلمات للمبدع الكبير ولساننا يلهج بالدعاء إلى الله أن يشفيه ويحفظه لمصر، فقد تدهورت الحالة الصحية للكاتب الكبير مؤخراً.
حين سئل في السابق عمّا يريده من الكتابة أجاب قائلاً: "المتعة الشخصية. لا يوجد شيء أكثر متعة من لحظة انشغالي بالكتابة، وتلك الحالة تبلغ ذروتها بالجلوس إلى الورق، أظلّ مشدوداً لنفس العالم إذا شعرت بأنني لم أكتبه بالكامل. لم يبح لي ذلك العالم بكل أسراره، ولهذا أعود إليه. حينما أتأكد من أنه منحني نفسه تماماً، أو أجهز عليّ، أو أجهزت عليه أتركه".
يواصل: أكتب عن السجون حيث تمتلئ بالغلابة المظلومين، والمجرمين الذين تصلح حيواتهم لكتابة روايات. قائلاً: "كلهم مكسورون. ما يهمني لمسة العذاب الإنساني التي لا أجدها إلا في ذلك العالم القاسي".
محطات في السيرة
أثناء الثورة عاب كثيرون علي البساطي عدم نزوله إلي ميدان التحرير. وبرر ذلك قائلاً: "كانت بدايات المرض تمنعني من النزول، كما كنت أشعر أن 25 يناير أكبر مني، فاجأتني بعظمة لم أتوقعها، ولكن أنا ذهبت مرة واحدة ونظرت إلي الجموع من البر. أنا من أكبر المؤيدين للثورة، وأعمالي تشهد أنني كنت، طوال الوقت، علي يسار السلطة. كل ما كتبته يدين السادات ومن بعده مبارك، اللذين كانا يحكماننا بقبضة حديدية".
لكن البساطي عاب على الثورة افتقارها إلى الحزم، وتخبط الثوار بعد التنحي قائلاً: "الآن ذهبت الزهوة وبقيت الشخبطة!، "كانت الثورة في بداياتها مضيئة، كنا متفائلين وطموحين في نهضة مصرية، ثم فجأة بدأت القوي السياسية التي صنعت الثورة في التناحر علي السلطة".
ويواصل: "ما يجري يحتاج إلي الحزم. جمال عبد الناصر وضع الإخوان في المعتقل، ومعهم اليساريون, بني ثورته ثم أخرجهم".
لكن البساطي انتقد الإخوان والسلفيين ووصفهم قائلاً: "السلفيون والإخوان شرسون ولا يتناسبون مع روح العصر، ولا الزمن، ولا التاريخ".
وعلى مستوى الكتابة يقول البساطي عن كتاب القصة القصيرة: "لم يلفت انتباهي أي عمل. قديماً كانت هناك كتابة لامعة، يكتبها مبدعون بحجم نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ويحيي حقي. جيلنا أيضاً كان متميزاً. كل واحد منا كانت لديه منطقته المميزة. هناك أسماء يمكن استثناؤها، وهي تشكل حالات تميز فردية، محمد المخزنجي صاحب الموهبة الممتازة، الراحل يوسف أبو رية، عزت القمحاوي، ومنصورة عز الدين. إنهم مميزون بحالاتهم الفردية كما أقول، ولكنهم لا يستطيعون خلق مناخ لازدهار القصة".
لم ينتقد فقط البساطي كتاب القصة القصيرة، بل امتد نقده ليشمل الجماعة الثقافية ويفضح تلونهم حيث قال: "كل مثقفي الحظيرة جاهزون لركوب الموجة. إنهم مثقفو كل العصور. أذكر أن واحداً من المثقفين الكبار، وصف سوزان ثابت، قبل الثورة بأنها فينوس، وبعد يناير، سبها هي وزوجها المخلوع!".
في أحد حواراته يقول البساطي عن نفسه: رغم أنني عشت حياة عادية إلا أن الذي تميزت به حياتي هو الانتقال المستمر في الجغرافيا. فقد ولدت في محافظة الشرقية، ثم انتقلت إلى محافظة الدقهلية، وهناك كانت الصدفة السعيدة أن بيتنا كان يطل على بحيرة المنزلة؛ فكانت هذه المنطقة تمثل حالة فريدة بالنسبة لي، بسبب جزرها التي تعيش عليها عائلات صغيرة موردها الأساسي تربية الماشية وصيد الأسماك. وكان نمط الحياة بين هؤلاء البشر مليئا بالدفء والحميمية، رغم ظروف الحياة الصعبة.
بعد ذلك نزحنا إلى القاهرة للتعليم، هذا الانتقال المتعدد ساعدني على وصف الأمكنة والشخوص، خاصة التي من بيئات معينة لا يستطيع الخيال وحده أن يستحضرها.
دافع البساطي عن جيل الستينيات قائلاً أنه في بداية المد الثوري الذي قاده عبد الناصر، كان ناقدا بشدة للتجاوزات الثورية من إجهاض للديمقراطية واستبداد الدكتاتورية. كان جيل الستينات صاحب الصوت العالي، ولذلك لفت الانتباه بشدة. سنجد ذلك مجسداً بقوة، في كتابات صنع الله إبراهيم والغيطانى وأصلان ويحيي الطاهر، وعبد الحكيم قاسم، وهم فرسان هذا الجيل مما أجبر المؤسسة أن تنشر لنا، وتفيد من خبراتنا.
ويرى البساطي أن الميزة الأساسية لجيل الستينات، انه ابتعد عن التأثر بالغرب، ولكنة استفاد من تقنيات الكتابة لدى كبار كتابهم، بل إن جيل الستينات كان ملتصقا بالشارع وهموم الوطن.
أعمال البساطي
"أي فصل في رواياتي قائم بذاته، تمكن قراءته كقصة، نَفَس القصة يسيطر عليّ دائماً".
في أعمال البساطي تتغير الأماكن، من الريف إلي المدينة، فبعض الأعمال كانت في الدلتا وأخري في الصعيد، وبعضها في السجن مثل "أسوار" التي يقدم فيها الكاتب صورة قاسية لمجتمع السجن، العلاقات بين الحراس والمساجين، وبين المساجين وبعضهم البعض، كما ينتقل إلي بلوكات الحراس خارج السجن، ليظهر العالم علي حقيقته القاسية، العالم الذي يتحوٌل فيه الجميع إلي عبيد محبوسين داخل أسوار عالية، وهنا يطابق بين السجن وما نحياه وما بات يدفعه رجال مصر من أثمان فادحة من كرامتهم وشرفهم مقابل لقمة العيش وصمتهم.
ويقول في أحد الحوارات معه: "السجن قد يكون موجوداً في حياتنا حينما تصادر آراؤنا ونعجز عن الحديث ونعيش حياة قاتمة رمادية.. إنه بالتأكيد لون من ألوان السجن"، ويضيف: "لا يوجد سجن من سجون مصر لم تطأه قدمي".
وصفه النقاد بأنه كاتب الإيماء والرمز والألوان الخفية، ويرون أنه من جعل من القرية الصغيرة أسطورة، فمعظم أعماله تدور في جو الريف الساحر الذي يجذب القارئ إليه، وسماه الناقد صبرى حافظ ب"شاعر القصة القصيرة".
تصف روايته "جوع" حال أسرة يتجسد من خلالها الجوع بشدة ويغلف حياتها البؤس، من أجل البحث عن رغيف خبز، يقول البساطي: ".. جسدت معني الجوع في الرواية عندما جعلت طفلا لا يتعدي عمره أحد عشر عاما يحملق في هذه البقع البنية الصغيرة التي تعلو رغيف الخبز وهو داخل الفرن. الطفل هنا لا ينظر لمشهد الرغيف الجمالي ولكنه فقط يحلم بأن يصبح الرغيف بين أصابعه لكي يقضم منه ولو قضمة واحدة ولكن حتي هذا الحلم غير قابل للتحقيق".
وعن سبب اختياره لعنوان روايته "جوع" يقول: "..مستوي الجوع الذي وصل إليه البلد هو الشيء الوحيد الذي كان يشغلني لأنه عندما يصل الجوع بمستوى أسرة إلي درجة أن تبحث عن طعامها في صناديق القمامة فهذا يعني أننا علي وشك كارثة حقيقية".
** البساطي في سطور
ولد "البساطى" بالشرقية، 1937، وحصل على بكالوريوس التجارة عام 1960، وعمل مديراً عاماً بالجهاز المركزي للمحاسبات، ورئيساً لتحرير سلسلة "أصوات" الأدبية التي تصدر في القاهرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ونشر أول قصة عام 1962 بعد أن حصل على الجائزة الأولى في القصة من نادي القصة بمصر، ونشرت قصصه بالعديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية، وترجمت معظم إصداراته القصصية والروائية إلى اللغات الأجنبية وأهمها (الفرنسية، الإنجليزية، الإيطالية).
نشر البساطي أول قصة له عام 1962م بعد أن حصل على الجائزة الأولى في القصة من نادي القصة بمصر، للبساطي حوالي عشرين عملاً ما بين الروايات والمجموعات القصصية، من رواياته: "التاجر والنقاش"، "المقهى الزجاجي"، "الأيام الصعبة"، "صخب البحيرة"، "أصوات الليل"، "ويأتي القطار"، "ليال أخرى"، "الخالدية"، "جوع" والتي رشحت للفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الثانية.
له عدة مجموعات قصصية منها: "الكبار والصغار"، "حديث من الطابق الثالث"، "أحلام رجال قصار العمر"، "هذا ما كان"، "منحنى النهر"، "ضوء ضعيف لا يكشف شيئاً"، "ساعة مغرب".
نال عدة جوائز منها جائزة أحسن رواية لعام 1994م بمعرض القاهرة الدولي للكتاب عن روايته "صخب البحيرة"، جائزة "سلطان العويس" في الرواية والقصة لعام 2001م مناصفة مع السوري زكريا تامر، وبجائزة الدولة التقديرية في الآداب.