محمد البساطى "أنا والمخلوع في نفس خانة المرض، وذلك يضايقني"! يضحك محمد البساطي، وهو يسترجع محنة المرض الأخيرة. انتظر حتي فرغ الطبيب من مطالعة الأشعات وأوراق التحاليل. بأقل عدد من الكلات صدمه الطبيب. أخبره بأن هناك بؤرة سرطانية نشطة في الكبد، لكن، لحسن الحظ، لا تزال في بداياتها. حتي في أحلك المواقف لم ينس أنه ساخر: "نظرت إلي الطبيب، ولسان حالي يقول: كيف حدث ذلك؟! إنه مرض العظماء، وأنا شخص علي باب الله". لمدة أسابيع عاش البساطي مرحلة المرض. تم كي المنطقة المصابة. يتحدث عن عدو: "أحرقناه تماماً، ولكن لا بد من المتابعة. أخبرني الطبيب أنه قد تظهر بقع سرطانية أخري في المستقبل، وأنه لا بد من الحذر، فالمشكلة تحدث حينما يتمكّن السرطان"! في مرحلة المرض، أيضاً، لم يستسلم صاحب "ويأتي القطار" للإحباط. كان يراجع مجموعته الجديدة "أضواء علي الشاطئ"، التي ستصدر خلال أيام عن دار أخبار اليوم. في تلك المجموعة لا يزال مربوطاً بخيوط قوية إلي عوالم كتب عنها سابقاً، وعلي رأسها عالم السجون والمحاكم. فهل يكرر نفسه؟! أسأله ويجيب: "ليس تكراراً"! يصمت لحظات ويضيف: "أظلّ مشدوداً لنفس العالم إذا شعرت بأنني لم أكتبه بالكامل. لم يبح لي ذلك العالم بكل أسراره، ولهذا أعود إليه. حينما أتأكد من أنه منحني نفسه تماماً، أو أجهز عليّ، أو أجهزت عليه أتركه". في قصتي "فرح" و"نقود معدنية" يسترجع لمحات مما دار في رواية "أسوار" ومجموعة "حديث من الطابق الثالث"، حيث تمتلئ السجون بالغلابة المظلومين، والشخصيات العجائبية، والمجرمين الذين تصلح حيواتهم لكتابة روايات. يعلق "كلهم مكسورون. ما يهمني لمسة العذاب الإنساني التي لا أجدها إلا في ذلك العالم القاسي". يعود قليلاً بذاكرته إلي الوراء. يشعر بالامتنان لعمله في الجهاز المركزي للمحاسبات الذي أتاح له الاطلاع علي ذلك العالم من الداخل. في سجن طنطا، استقبل المأمور الموظف الكاتب. كانت تبدو علي الآمر علامات القلق. بعد حوار قصير فهم البساطي أن هناك مشكلة ضخمة في السجن. فهناك صبي مسجون، يمنح المتعة للمساجين. كل عنبر يحصل عليه لمدة أسبوع. المشكلة حدثت حينما تأخر عنبر في تسليمه، يومين، بعد مرور الأسبوع. كانت هناك معركة ضخمة ستندلع، ولكن المأمور تدخل وأطفأها. حكم بأن يتم خصم اليومين من العنبر خلال أسبوعه المقبل. يضحك البساطي مجدداً:"شيء في منتهي الغرابة، والقسوة. وجه الصبي كان فاقداً للحياة، فمه متهدل. باختصار كانت كل قسماته تفتقد للإنسانية"! "أبصر واحد من الأهالي البغل شارداً في الليل علي حافة حوض ذرة. اقترب منه. لمح شواشي الأعواد تتمايل في بقعة غير بعيدة عن شط الحوض، ظنه نمساً يداعب آخر. كاد ينصرف، غير أن وجود البغل غيّر رأيه. أزاح الأعواد ورآهما، صاحب البغل وامرأة تحاول أن تغطي فخذيها. في قصة "البغل وصاحبه"، يتم كشف الجريمة الجنسية للبغّال، ما يمثل تكراراً لتيمة الفضيحة الجنسية في معظم أعمال البساطي، حيث يتم كشف ما يدور في الخفاء. ينصت إلي كلامي ويعلق: "في المناطق الريفية، يجب أن يكون الجنس مخفياً. الريف مليء بالعلاقات الجنسية المخفية، نتيجة حبس المرأة. هناك نوعان من النساء في الريف. المرأة التي تعمل بالزراعة. وهي سهلة المنال، يحصل عليها أي صبي من العاملين معها، حيث يستطيع الانتهاء من مهمته بسرعة متستراً بالأوراق الكثيفة، والثانية زوجة الموظف التي تخرج للتمشية ليلاً، هدفها غير المعلن يكون رجلاً غريباً عن القرية، وهو في الأغلب موظف قادم للعمل بالقرية. طبيب الوحدة الصحية. مدرس، أو إخصائي، في نزله....". أقاطعه: "أقصد أن التيمة تتكرر لديك في معظم الأعمال"، وينفي للمرة الثانية: "لا تتكرر، أذكر في قصة، يغيب عني عنواها الآن، كيف يصطحب البطل صيده الأنثوي إلي الكازينو، ويدخلها السينما. في المدينة الأمر يحتاج إلي تخطيط أكبر. المكان إذن يفرض نفسه، ولس كما تقول إن التيمة تتكرر". يكتب صاحب "نوافذ صغيرة"، الرواية بإحساس كاتب القصة القصيرة. يوافقني ويضيف: "أي فصل في رواياتي قائم بذاته، تمكن قراءته كقصة، نَفَس القصة يسيطر عليّ دائماً". يسير، كما يقول، عكس الاتجاه الذي يسير فيه ديستويفسكي: "إنه لا يضيع التفاصيل، كل شيء موجود في أعماله أما أنا فأكتب بطريقة القصة". يتابع البساطي ما ينشر من مجموعات قصصية، ولكن.."لم يلفت انتباهي أي عمل. قديماً كانت هناك كتابة لامعة، يكتبها مبدعون بحجم نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ويحيي حقي. جيلنا أيضاً كان متميزاً. كل واحد منا كانت لديه منطقته المميزة. هناك أسماء يمكن استثناؤها، وهي تشكل حالات تميز فردية، محمد المخزنجي صاحب الموهبة الممتازة، الراحل يوسف أبو رية، عزت القمحاوي، ومنصورة عز الدين. إنهم مميزون بحالاتهم الفردية كما أقول، ولكنهم لا يستطيعون خلق مناخ لازدهار القصة". ما الذي تريده من الكتابة بعد ذلك العمر؟! أسأل ويجيب بسرعة: "المتعة الشخصية. لا يوجد شيء أكثر متعة من لحظة انشغالي بالكتابة، وتلك الحالة تبلغ ذروتها بالجلوس علي الورق، وحينما تنتهي، ستشعر حتماً بالإحباط". أعلق "كأنك تتحدث عن عملية جنسية؟!" ويضحك: "تماماً"! أثناء الثورة عاب كثيرون علي البساطي عدم نزوله إلي ميدان التحرير. لم يتضايق لأنني طرحت عليه هذا، وتساءل: "ماذا سيفيد ذهابي إلي الميدان؟!" أجبت: "دعم الثوار. مجرد ظهور الأسماء الكبيرة في الميدان نوع من الدعم المعنوي للثوار. ذلك موقف". يصمت قليلاً، ويقول: "كانت بدايات المرض تمنعني من النزول، كما كنت أشعر أن 25 يناير أكبر مني، فاجأتني بعظمة لم أتوقعها، ولكن أنا ذهبت مرة واحدة ونظرت إلي الجموع من البر. أنا من أكبر المؤيدين للثورة، وأعمالي تشهد أنني كنت، طوال الوقت، علي يسار السلطة. كل ما كتبته يدين السادات ومن بعده مبارك، اللذين كانا يحكماننا بقبضة حديدية"، ويضيف: "الآن ذهبت الزهوة وبقيت الشخبطة!". ماذا تقصد؟! أسأله فيقول: "كانت الثورة في بداياتها مضيئة، كنا متفائلين وطموحين في نهضة مصرية، ثم فجأة بدأت القوي السياسية التي صنعت الثورة في التناحر علي السلطة. كل شيء خاطئ حالياً، والمسؤولون وعلي رأسهم عصام شرف يسيرون طبقاً لاتجاهات الموجة، لا يوجد حزم علي الإطلاق". تستفزني كلة الحزم، وأسأله مجدداً: ما المقصود؟ فيرد "ما يجري يحتاج إلي الحزم. جمال عبد الناصر وضع الإخوان في المعتقل، ومعهم اليساريون, بني ثورته ثم أخرجهم". أعترض تماماً علي ما يقوله: "هل تدعو إلي وضع القوي التي صنعت الثورة في المعتقلات؟! هذا لا يعقل". يقول بسرعة: "ضعهم في مخزن لا في سجن. هناك طريقة ما للسيطرة عليهم، أنا لا أقصد الثوار العظماء، ولكني أقصد البلطجية والأفاقين. السلفيون والإخوان شرسون ولا يتناسبون مع روح العصر، ولا الزمن، ولا التاريخ"، ويضيف: "الإسلام كان دائماً في مصر، معتدلاً. لم يكن فيه ذلك التطرف. انظر مثلاً للسلفيين، إنهم يرتدون الجلباب القصير إلي منتصف الساق، متشبهين بجمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، وذقونهم الضخمة المنفرة. تجبرك علي إدارة وجهك جانباً. أين الجمال في (خلقة) الله، والله جميل يحب الجمال؟". لا ينسي البساطي إضافة المثقفين الأفاقين إلي من يتحدث عنهم: "كل مثقفي الحظيرة جاهزون لركوب الموجة. إنهم مثقفو كل العصور. أذكر أن واحداً من المثقفين الكبار، وصف سوزان ثابت، قبل الثورة، بأنها فينوس، وبعد يناير، سبها هي وزوجها المخلوع"، وأخيراً أسأله: لمن ستعطي صوتك في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟! ويقول بدون تردد: "للبرادعي. إنه شخص مثقف، ومستنير، ولسيت له أطماع شخصية. قلبه علي البلد أكثر من أي شخص"، وأنهي قائلاً: "النظام البائد لوث عمرو موسي وأيمن نور"!!