تسييم شماسا جديدا في مطرانية القدس الأنچليكانية الأسقفية    جامعة حلوان تواصل إجراءات الكشف الطبي لطلابها الجدد للعام الدراسي 2024-2025    إنطلاق فعاليات مبادرة «بداية» للأنشطة الطلابية بكليات جامعة الزقازيق    رئيس البورصة المصرية يلقي كلمة افتتاحية في مؤتمر بورتفوليو إيجيبت 2024    بدون حجز للطلاب.. «ابتداء من هذا الموعد» السماح بركوب القطار لحاملي الاشتراكات (الأسعار)    رسميا.. موعد صرف معاشات أكتوبر 2024 وموعد الزيادة الجديدة    محافظ قنا: استلام 2 طن لحوم من صكوك الأضاحي    الاثنين 30 سبتمبر 2023.. ارتفاع طفيف للبورصة    وزير الخارجية الإسرائيلي: تل أبيب رفضت مقترح التسوية مع حزب الله ووقف إطلاق النار    أعداد الشهداء في ارتفاع مستمر بقطاع غزة.. فيديو    رسميا.. ريال مدريد يعلن حجم إصابة كورتوا    القنوات الناقلة لمباراة النصر والريان في دوري أبطال آسيا 2024-2025 اليوم    إنبي يُطالب الزمالك ب 150 ألف دولار بعد تحقيق لقب السوبر الإفريقي    اضطراب في حركة الملاحة على شواطئ مدن البحر المتوسط    إصابة 4 أشخاص في حادثي سير بالمنيا    غدا.. افتتاح الدورة السابعة لأيام القاهرة الدولي للمونودراما    الثقافة تختتم الملتقى 18 لشباب المحافظات الحدودية بأسوان ضمن مشروع "أهل مصر"    «زوج يساوم زوجته» في أغرب دعوي خلع ترويها طبيبة أمام محكمة الأسرة (تفاصيل)    معهد البحوث: الإكزيما تصيب من 15 إلى 20% من الأطفال عالميا    وكيل فهد المولد يكشف تطورات أزمة اللاعب الصحية    وكيل تعليم دمياط يتفقد سير اليوم الدراسي بعدة مدارس    إحلال وتجديد مدخل المنطقة الصناعية بالطرانة بحوش عيسى في البحيرة    ضبط 40 كيلو حشيش بقيمة 3 مليون جنيه في الإسكندرية    النيابة تواجه متهمى واقعة السحر لمؤمن زكريا بالمقاطع المتداولة    ندوات توعوية لطلاب مدارس أسيوط حول ترشيد استهلاك المياه    وزير الإسكان يتفقد سير العمل بمحطة تنقية مياه الشرب بمدينة أسوان الجديدة    ريفر بليت يسقط على أرضه أمام تاليريس كوردوبا    يحتل المركز الأول.. تعرف على إيرادات فيلم "عاشق" لأحمد حاتم أمس في السينمات    جالانت: الجيش سيستخدم كل قدراته العسكرية في مناورة برية وهدفنا إعادة سكان شمال غزة لمنازلهم    جريزمان يلاحق ميسي بإنجاز تاريخي في الليجا    الصحة اللبنانية: ارتفاع حصيلة الاعتداء الإسرائيلي على عين الدلب إلى 45 قتيلا و70 جريحا    السعودية تُسلم فلسطين الدعم المالي الشهري لمعالجة الوضع الإنساني بغزة    المؤتمر: تحويل الدعم العيني لنقدي نقلة نوعية لتخفيف العبء عن المواطن    ضبط 1100 كرتونة تمور منتهية الصلاحية بأسواق البحيرة    شخص يتهم اللاعب أحمد فتحى بالتعدى عليه بسبب ركن سيارة فى التجمع    ضبط شخص متهم بالترويج لممارسة السحر على الفيسبوك بالإسكندرية    فؤاد السنيورة: التصعيد العسكرى فى لبنان ليس حلا وإسرائيل فى مأزق    الاحتلال الإسرائيلى يعتقل 41 فلسطينيا من الضفة الغربية    «وزير التعليم» يتابع انتظام سير العمل ب 6 مدارس في حدائق القبة | صور    انطلاق أولى جلسات دور الانعقاد الخامس لمجلس النواب.. غداً    «المالية»: إطلاق مبادرات لدعم النشاط الاقتصادي وتيسيرات لتحفيز الاستثمار    نبيل علي ماهر ل "الفجر الفني": رفضت عمل عشان كنت هتضرب فيه بالقلم.. وإيمان العاصي تستحق بطولة "برغم القانون"    مدير متحف كهف روميل: المتحف يضم مقتنيات تعود للحرب العالمية الثانية    «بيت الزكاة والصدقات» يبدأ صرف إعانة شهر أكتوبر للمستحقين غدًا    بعد واقعة مؤمن زكريا.. داعية: لا تجعلوا السحر شماعة.. ولا أحد يستطيع معرفة المتسبب فيه    أوكرانيا: تسجيل 153 اشتباكا على طول خط المواجهة مع الجيش الروسي خلال 24 ساعة    مصرع شخص صدمته سيارة أثناء عبوره للطريق بمدينة نصر    أبو ليمون يتابع تطوير كورنيش شبين الكوم والممشى الجديد    أطباء ينصحون المصريين: الحفاظ على مستوى الكولسترول ضرورة لصحة القلب    توقيع الكشف الطبى على 1584 حالة بالمجان خلال قافلة بقرية 8    نائب الأمين العام لحزب الله يعزي المرشد الإيراني برحيل "نصر الله"    السياحة والآثار تنظم عددًا من الأنشطة التوعوية للمواطنين    التحقيق مع المتهمين باختلاق واقعة العثور على أعمال سحر خاصة ب"مؤمن زكريا"    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 30-9-2024 في محافظة قنا    أمين الفتوى: كل قطرة ماء نسرف فيها سنحاسب عليها    بعد خسارة السوبر الأفريقي.. الأهلي يُعيد فتح ملف الصفقات الجديدة قبل غلق باب القيد المحلي    «القاهرة الإخبارية»: أنباء تتردد عن اغتيال أحد قادة الجماعة الإسلامية بلبنان    «الإفتاء» توضح حكم تناول مأكولات أو مشروبات بعد الوضوء.. هل يبطلها؟ (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصفوفاتُ السيميائيةُ وبنيةُ الكلامِ الروائي في "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني
نشر في محيط يوم 28 - 11 - 2015


■ مدخل عام لأحداث الرواية:
ترصد "عمارة يعقوبيان" حركة المجتمع المصري في الخمسين سنة الواقعة ما بين عام 1952 وعام 2002م، وما اعترى ذلك المجتمع من تحولات كبرى في القيم والسلوك والظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، حيثُ تدخل الرواية إلى العوالم الخبيئةِ والبائنةِ راصدةً أدق تفاصيلها بحثًا عن أسباب الردةِ الحضارية والأخلاقية والإدارية التي حدثت في مصر في الفترة المشار إليها، مستثمرةً نموذج عمارة يعقوبيان التي بناها في سنة 1934م المليونير جاكوب يعقوبيان عميد الجالية الأرمنية آنذاك، تلك العمارة التي كانت تسكنها الطبقة الأرستقراطية من الأجانب، ثمَّ سكنها بعد ذلك الضباط والتجار، ثمَّ بمرور الوقت اعتلى سطح العمارة عددُ من المواطنين المهمشين الذين وجدوا في النصب والاحتيال والمرواغة والنفاق والمهادنة والوصوليةِ أسباباً قويةً ما إن أخذَ بعضهم بها حتى أصبحوا من طبقة التجار وأصحاب الأملاك وذوي النفوذ، بعدما كُرِّست أمامهم أسبابٌ ونوافذ خلفية أتاحت لهم أن يتسلقوا سلم الحراك الاجتماعي الذي سمح لمن هم أقلُّ شأنًا أن يحتلوا صدارةَ مشهد النفوذ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، في جوٍ من الفساد والمحسوبية والرشوة وسلوكيات الابتزاز.
■ أيقونةُ السَّرد وطرائقُ بناءِ الدلالة:
ومادمنا سنتحدث عن المصفوفات السيميائية التي تقيمها الأيقونة السردية ضمن طرائقها في الإيحاء والإسقاط والترميز المفضي إلى إنتاج الدلالة، فلابد من وقفةٍ عند الأيقونة الرئيسة في الرواية وما تحيل إليه، ألا وهي أيقونة " عمارة يعقوبيان" التي تحيلُ مباشرةً إلى مصر وكيف كانت بهيةً جميلةً تأنَّى الزمنُ في بنائها لكي تكونَ على ما هي عليه قبل أن ينهكها فيروس الفساد " في عام 1934 فكر المليونير جاكوب يعقوبيان، عميد الجالية الأرمينية في مصر آنذاك، في إنشاء عمارة سكنية تحملُ اسمه، فتخير لها أهم موقع في شارع سليمان باشا، وتعاقد لبنائها مع مكتب هندسي إيطالي شهير وضع لها تصميمًا جميلاً عشرة أدوار شاهقة من الطراز الأوروبي الكلاسيكي الفخم: الشرفات مزدانة بتماثيل لوجوه إغريقية منحوتة على الحجر والأعمدة والدرجات والممرات كلها بالرخام الطبيعي والمصعد ماركة شندلدر على أحدث طراز. استمرت أعمال البناء عامين كاملين خرجت بعدها تحفةٌ معماريةٌ جاوزت كل التوقعات لدرجةٍ جعلت صاحبها ينقش على بابها من الداخل اسمه " يعقوبيان" بحروف لاتينية كبيرة تضاء ليلاً بالنيون وكأنَّهُ يخلد اسمه ويؤكد ملكيته للمبنى البديع...." (1) إنَّ "عمارة يعقوبيان" التي تعدُّ العتبةَ/ الأيقونةَ الرئيسةَ في النَّص تمثلت في ملامحِ بنائها وفي مصيرها وظروفها ملامِحَ، ومصيرَ وظروفَ مصرَ مثلما يتضح من النموذج الآتي من مصفوفات الدلالة في هذه الرواية: الأيقونةُ السردية/ أو الدَّال الدلالة
في عامِ 1934. استمرت أعمال البناء عامين كاملين
← إشارة مزدوجة تتوخى من الإحالة القريبة (الإحالة إلى عراقة البناء) الدلالةَ الأعمقَ وهي عراقة مصر وكيف تضرب بجذورها في تربة التاريخ
اختار لها أهم موقع.... ← إشارة إلى أهميةِ موقع البناء/ الرمز تحيلُ إلى أهمية موقعِ الأيقونةِ الكبرى ( مصر ) في قلب الجغرافيا
مكتب هندسي شهير
← تحيل إلى عبقرية من بنى العمارة، ومن ثمَّ تحيل إلى عبقرية الأجيال التي بنت مصر تباعًا.
عشرة أدوار شاهقة..
← وصفٌ يحيل إلى إرتفاع المبنى، ومن ثمَّ فهو يحيل إلى تراكميةِ بناء مصر عبر أجيالٍ من شعبها العريق.
الكلاسيكي الفخم ← الأصالة والمعاصرة
وهكذا تتوالى بقية أيقونات هذا المشهد السَّردي ذي الإحالات الدلالية المزدوجة التي تتخذُ من الإحالات القريبةِ معبرًا لما هو أبعدَ من ذلك.
وكثيرًا ما تتوكأ الأيقونةُ السَّرديةُ – هنا في هذه الروايةِ في دخولها إلى السياسي والاقتصادي والاجتماعي - على مقابلاتٍ في الدوال تُحيلُ إلى مقابلاتٍ في الدلالة تنتهي إلى الدلالة الأعمق؛ ومن أمثلةِ ذلك تلك المقابلات التي تُحيلكَ مآلاتها الدلالية إلى أسباب نجاح التجربة اليابانية في النهضة، وفشل نظيرتها المصرية على الرُّغمِ من انطلاقهما في الزمن نفسه، وبمقدرات طبيعية تتفوق بالنسبة للتجربة المصرية عنها في التجربة اليابانية، حيث كل علامةٍ لسانيةٍ أو خارجَ لسانيةٍ تشيرُ إلى سببِ الفشل في مصر، تقابلها علامة تشير إلى سبب النجاح في اليابان. وقد وظفت أيقونة السرد في ذلك عالمًا من الدوالِ متنوعًا منها الدوال المتعلقة بسمات الشخصية السردية، إذ قد تمثلت أيقونة السرد الرؤى النقدية والإبداعية الحديثة في توظيف شخصيات العمل الروائي دلالياً. وذلك لإيمان الحسِّ الروائي هنا بكونِ موضوعة سماتِ الشخصية السردية في الرواية الجديدة هي موضوعة لسانية. وما دامت هي كذلك، فإن الحديث عنها( أي عن سمات الشخصية السردية) وتوظيف تلك السمات دلاليا ليستدعي الحديث عن رؤية كبار النقاد العالميين أمثال رولان بارط حول موقع الشخصية السردية في منظومة الخطاب الروائي الجديد، وكيف أن هذه الشخصية ترتبط بالتلقي عبر لعبة الكتابة، فتلعب مع القارئ، لا أمامه. فإذا " كان الخطاب في رأي رولان بارط، ينتج الشخصيات، فيتخذ منها له ظهيرا، فليس ذلك من أجل أن يجعلها تلعب فيما بينها، أمامنا، ولكن من أجل أن تلعب معنا" (2) فالشخصية السردية تتماهى مع الخطاب في الرواية الجديدة فتصبح وكأنها هو أو يصبح وكأنه هي، أو كما يقول عبد الملك مرتاض " فكأن الشخصيات هي عينات من الخطاب. وكأن الخطاب نفسه يغتدي، عبر هذه العلاقة المعقدة ( بينه وبين الشخصيات السردية) مجرد شخصية من الشخصيات"
(3)
والخلاصة فيما مضى حول سمات الشخصية السردية بوصف تلك الشخصية عينة من الخطاب " أن النظرة الجديدة إلى الشخصية أمست تنهض على التسوية المطلقة بينها وبين اللغة، والمشكلات السردية الأخرى" (4) إذا فالشخصيات السردية (5)
تقولُ الأيقونةُ السردية:
" ... وعلى مدى أسبوعين كاملين امتلأت الصحف بصور الحاج عزام وتصريحاته وكانت الصورة المنشورة لتوقيع عقد التوكيل فريدة ومعبرة، يظهر فيها الحاج عزام بقامته الضخمة ووجهه السوقي ونظرته الثعلبية المراوغة، وبجواره يجلس المستر يم كي رئيس مجلس غدارة شركة تاسو بقامته اليابانية الضئيلة ونظراته المستقيمة ووجهه المهذب الجاد.. وكأن المفارقة بين مظهر الرجلين تلخص المسافة الشاسعة بين ما يحدث في مصر وما يحدث في اليابان..."(6)
العلامة العلامة المقابلة
الحاج
( حيث الشكلانية الدينية التي لا تمس الجوهر بالمرة، وإنما تُتْخَذُ منهُ قناعًا تستترُ خلفه روحٌ رأسمالية خبيثةٌ تبني امبراطوريتها المالية من ممارسات غير مشروعة)
← المستر/ رئيس مجلس إدارة
(حيث التوصيف المدني والعلمي للشخصية الذي يشي بكون العلم هو الذي كوَّن الشخصية ومنحها جواز النجاح، وليست الشكلانية الدينية كما هو الحال لدى الحاج عزام)
الحاج
( التدثر خلف لقب ديني)
← المستر
( بما يحمل ذلك الوصف من دلالات الخبرة والعلم والتجربة)
بقامته الضخمة
( بنيان جسدي فارغ ضخم أجوف من حيث العلم والخبرة)
← بقامته اليابانية الضئيلة
(بنيان جسدي قليل، مملوء بالعلم والخبرة والمنهج).
ووجههُ السوقي
( ملامح سوقية تتاجر في كل شيء حتى في القِيَم).
← ووجهه المهذب الجاد
( وجهٌ مهذب ينتصر للقيم، يستمد جديته من العلم والخبرة في آن.)
ونظرته الثعلبية المراوغة
(الإعوجاج والمراوغة من أجل الدخول إلى المجد والثراء من الأبواب خلفية.)
← ونظراته المستقيمة
(استقامة الشخصية، ووضوح الهدف والاتزان)
هكذا تحيلك العلامات التي تبتكرها أيقونةُ السَّردِ إلى قراءاتٍ متنوعةٍ: اقتصاديةٍ وإداريةٍ وأنثروبولوجية إلى أسباب الفشل هنا حيث التجربة المصرية، وأسباب النجاح هناك حيث التجربة اليابانية.
وبالعودة إلى سياق الراويةِ نتلمس أقوالاً أخر من وراء أيقونةِ السَّرد لدى الأسواني في روايته تلك، فعلى الرغمِ من أن فساد المشهد السياسي والاقتصادي وسوء الإدارة السياسية، هو مشهد تقومُ مسئوليته سجالاً بين فساد رأس المالِ وفساد السلطة؛ فإنَّ أيقونةَ السرد تُحَمِّلُ السلطةَ مسئوليةَ استمراء هذا الفساد وتشجيعه والاستفادة منه فقبل أنْ تظهرَ ( أي الأيقونة السرديةُ) سوءَ الفساد في طبقةِ رجال الأعمال كما بيّنَّا في الفقرة السابقة، فإنها أكدت أسبقية الفسادِ شكلاً ومضموناً في هرمِ السلطة ممثلاً في شخصيةٍ من شخصياتها النافذة وهو كمال الفولي الذي أصبح بيده وحده سلطة منح جوازات مرور المرشحين نحو مقعد البرلمان. وقد وسمت أيقونة السَّردِ كمال الفولي وصفًا دقيقاً يُحيلُ إلى دور السلطة في إفساد الشعب من خلال فتح أبواب النفوذ والمشاركة في العملية السياسية لنماذج على شاكلةِ الحاج عزام الذي لم يكن له أن يترشح لمجلس الشعب قبل الحصول على موافقةِ كمال الفولي الذي يتحكم في نتائج الدوائر الانتخابية مثلما يُحْكِمُ اللاعب المحترف قبضته على أحجار الشطرنج؛ فعندما عرض الحاج عزَّام على الفولي رغبتهَ في الترشح للمجلس " تظاهر (الفولي) بالتفكير العميق برغمِ أنَّهُ كان يتوقعُ ما قالَهُ عزَّام. وكان الفولي يترك في نفس من يراهُ انطباعًا متضاربًا: ذكاؤه وسرعة بديهته وحضوره الطاغي من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى جسده البدين وكرشه المتدلى ورابطة عنقهِ المفكوكة دائمًا قليلاً وألوانُ ثيابهِ البذيئة غير المتناسقةِ وشعرهُ المصبوغ بطريقةٍ فجَّةٍ، ووجهه المكتنز الغليظ ونظراتهُ الوقحةُ الشرسةُ الكاذبةُ وطريقتهُ السوقيَّةُ في الحديث حين يمدُّ ذراعيهِ أمامَهُ ويحركُ أصابعَ يديهِ ويهزُّ كتفيهِ وبطنهِ وهو يتكلَّمُ وكأنَّهُ امرأةٌ سوقيةٌ...".(7)
لقد امتدَّ واتسعَ القولُ الآخرُ في أيقونةِ السردِّ في الفقرة السابقةِ، بحيثُ استطاعَ أن يصفَ الدولةَ ممثلةً في نموذج كمال الفولي- خلال الحقبةِ الزمنيةِ التي تعنيها الروايةُ- بشكلٍّ دقيق عبر علامات، أو دوالٍّ ثريةٍ يُحيلُ بعضُعها إلى الشكل وآخر إلى المضمون والسلوك الإداري العام لدولةِ الفسادِ كما يأتي:
العلامة الدال ما يحيلُ إليهِ دلالةً
تظاهر (الفولي) بالتفكير العميق برغمِ أنَّهُ كان يتوقع ما قالَهُ عزَّام.
وشعرهُ المصبوغ بطريقةٍ فجَّةٍ..
← مرواغةُ القرار السياسي وتصنُّعُهُ وادعاؤه - زيفاً- الفهمَ والتريثَ.
انطباعًا متضاربًا
← عدم المكاشفةِ وغيابُ المنهجِ، وقتامةُ الرؤيةِ العامة من جانب الدولةِ في الحكم والإدارة والأهداف.
جسدهُ البدين ← الإشارةُ إلى كبر المسئولية مقارنةً بالسلطةِ التي تتحملها.
وكرشه المتدلى
وألوانُ ثيابهِ البذيئة غير المتناسقةِ
← ترهلُ الدولة واستكانتها لفخ العشوائية الإداريةِ، وغياب الانسجام الإداري بين مؤسساتها.
ورابطة عنقهِ المفكوكة دائمًا قليلاً
← تسُّيبُ القرار السياسي وعدم التزامه وغياب انضباطه.
ووجهه المكتنز الغليظ ونظراتهُ الوقحةُ الشرسةُ الكاذبةُ وطريقتهُ السوقيَّةُ في الحديث حين يمدُّ ذراعيهِ أمامَهُ ويحركُ أصابعَ يديهِ ويهزُّ كتفيهِ وبطنهِ وهو يتكلَّمُ وكأنَّهُ امرأةٌ سوقيةٌ
← أيقونةٌ سرديةٌ تحيلُ في دلالتها غلى مجملٍ بعدَ مفصَّلٍ، إذ تحيلُ إلى مركبات القبحِ الفجِّ الذي انتدت مظاهره إلى جسدِ الدولةِ بكاملهِ، حيث
لقد عمدت أيقونة السردِ لدى الأسواني إلى تمثلِ طرائق السرد الجديد في استثمار الشخصيات وتوظيفها إبداعيًّا؛ فرواية الأسواني مِثلُها مثلُ سائرِ الروايات الجديدةِ لم تُوظِّفْ الشخصَّيات هنا لذاتها مثلما كان الأمر في الرواية التقليدية، بل لتقتنص علامات الشخصيةِ سيميائيًّا، ومن ثمَّ دلالياً، بما يخدم هدفَ الرواية الرئيس وهو كشف سوءاتِ حقبةٍ تاريخيةٍ ما في تاريخ المجتمع المصري؛ اجتماعيًّا، وسياسيًّا، واقتصاديًّا، وأخلاقيًّا.... إلخ. فالأيقونةُ ترسم شخصياتها في هذه الرواية مستجيبةً لطقوس الرواية الجديدة، متجاوزةً طقوس الرواية التقليدية تمامًا.
فلقد كانت الرواية التقليدية(8) تُركز كثيرًا على بناءِ الشخصيةِ، والتعظيم من شأنِها، والذهاب في رسمِ ملامحها كل مذهبٍ؛ وذلك ابتغاء إيهام المتلقي بتاريخيةِ هذه الشخصيةِ وواقعيتها معاً. لكن الرواية الجديدة جاءت إلى مثل هذه الشخصيةِ فأعارتها أذناً صمّاء، وعينًا عمياء، فلم تكد تأبه لها؛ بل بالغت في إيذائها، وفي التضئيل من مكانتها الممتازة التي كانت تتبوؤها في حضن الرواية التقليدية؛ فإذا هي مجرد رقم، أو مجرد حرف، أو مجرد إسم غير ذي معنى، وإذا هذه الشخصيةُ طورًا إنسان، وطورًا آلة، وطورًا شيء، وطورًا آخر عدم، وهلمَ جرًا" (9)
ومن منطلق سمات الرواية الجديدة، فإن العلامات الجسدية المتعلقة ببنية الجسد، أو الهندام، أو حركات الشخصيات السردية، أو سلوكياتها، أو ظروفها الاجتماعية والصحية، وما إلى ذلك ليست ضربا من الاعتباط أو الوصف السَّردي الذي يقول نفسَهُ فحسب، وإنَّما يمكن وصفها - وفق المنهج أو الاتجاه السيميائي - بكونها واحدةً من المرتكزاتِ التي توكأت عليها أيقونة السرد دلاليا في هذه الرواية. وما استطعنا أن تقول ذلك عن مثل تلك العلامات الجسدية التي يقع معظمها خارج اللسان إلا استئناسا بمفهوم السيميوطيقيا عند بيرس، ونفرٍ غير قليلٍ، منهم برنارد توسان ممن اتسع مفهوم العلامات لديهم ليشمل العلامات اللسانية وغير اللسانية.
كما أنه يمكن القول إن تلك العلامات المتقابلة دلاليا، والتي نسوقها هنا نموذجا في التأويل والمقاربة هي علامات تمثلتها أيقونةُ السَّرد وهي تعلم أن مهمة كشفها تكمن في مدى فهم التلقي وإحاطته ثقافيا بدلالة مثل تلك العلامات " فبما أنَّهُ لايمكن الحديث عن منتوجٍ ما، ماديًّا كانَ أم روحيًّا خارجَ حدودِ القيم بإرغاماتها وعلاقاتها وأشكال تحققها، فإنَّ العملَ الأدبيَّ، كما يرى ذلك تودوروف، يمكن النظر إليه باعتباره تمظهرا لبنية مجردة بالغة التعميم، ولا يشكل هذا العمل، داخل هذه البنية، سوى تحقق خاص ضمن تحققات أخرى ممكنةٍ. وبعبارة أخرى إننا ندرك العمل الأدبي باعتباره جزءًا من نَّصٍّ عام هو نص الثقاقة" (10)
واستدراكاً لما سبق فقد وجب التنويه للجذر الثقافي والمعرفي للغة الجسد في الرواية العربية الجديدة، وما تخبئهُ ملامح الشخصية السردية خلفها من أقوال أخر نقول: إنَّهُ إن تكن للجسد ولملامح الإنسان لغتها الدالة التي توظفها أيقونة السرد في الرواية العربية الجديدة، فهذه اللغة وإن تمثلتها الأيقونة السردية حديثا ليست بدعا من لغة الخطاب العربي الذي تؤكد شواهده " أن الجماعة العربية الأولى قد اشتقت وصاغت من أعضاء الجسم كثيرا من الأفعال والأسماء والتعبيرات الاصطلاحية idiomatic expressions التي أصبحت من متن اللغة language فقالوا غليظ القلب للفَظِّ، وقلب الشيء: لبه، وأسود الكبد للعدو، والمكابدة: المعاناة والشدة، وبطن الشيء: جوفه، وظهره: ما ارتفع منه، وبطن الأمر: خفي، وظهر: بان، والظهور القوة و الظفر، وظهر عليه: غلبه، والظهير: المعاون، وجعله وراء ظهره: أهمله، ووجه الشيء: أوله، وفلان ذو وجهين: منافق، وتوجه للمكان: قصده، وعين الشيء: حقيقته وأصله، والعين: الرقيب، والعين ينبوع الماء، والعين والجمع أعيان: أشرف الناس، عاين الأمر: فحصه جيدا، وتعيين الشيء: تخصيصه، وفلان عينه أكبر من أمده: أي جسمه أكبر من سنه، وصنع ذلك على عينه: أي برعاية واهتمام......." (11) . وهكذا فإن جسم الإنسان في حديث مستمر، حتى في اللحظات التي لاينطق فيها بلسانه، إذ إن علاماته اللغوية ليست قاصرة على ما يقوله لسانه وحسب، وإنما لبقية أعضاء الجسد علاماتها في الحديث وفي التواصل، أو كما يقول كريم زكي حسام الدين " إن الإنسان - الذي تضافرت على دراسته علوم كثيرة لكي تكشف أسراره وتحافظ عليه، وتوسلت به فنون مختلفة للتعبير عن المشاعر والانفعالات المتباينة- يؤدي دورا هاما في تحقيق التفاعل الاجتماعي الذي يتمثل في التواصل بين أفراد المجتمع، لأن كلا منا لا يتكلم بلسانه وأعضاء النطق الأخرى فقط، ولكنه يتكلم بأعضاء جسمه أيضا، فيومئ برأسه، ويغمز بعينيه، ويزم بشفتيه، ويهز منكبيه، ويشير بيديه وأصابعه، بل إننا نجد الإشارة قد تنوب أحيانا عن الكلام في بعض المواقف" (12)
وكما اعتمدتْ أيقونةُ السَّردِ طريقة المقابلات في تعريةِ سوءةِ الفساد سياسياً واقتصاديًّا وأخلاقياً، وكما اعتمدت الترميز كذلك، فإنَّها تعتمدُ في مشاهدها السرديةِ طريقةً أخرى لا تقل عنها فعاليةً في رسم الإحالات والدلالات المتوخاة من دولالها، وهي حشد مزيج من الدوال الأفعال، والدوال الصفات بما يرسمَ مشهد الفساد رسمًا مسرحيًا يضيئُ كل جوانبه الخبيئةِ مثلما هو الحال في المشهد السَّردي الآتي:
" كان افتتاح توكيل تاسو للسيارات يحينُ موعدُهُ بعدَ أيامٍ، فأقامَ ( الحاج عزام الذي يمثل نموذجًا لرجل الأعمال الذي يجيد استثمار المُناخَ السياسي والاقتصادي الفاسد) فأقامَ مع ابنيه فوزي ومؤمن حجرة عملياتٍ في مكتبهِ وكأنَّهُ يخوضُ حرْبًا، أشرف على تجهيزات الحفل الضخم في فندق سميراميس، ودعا بنفسهِ كل الكبار في البلدِ وقد جاءوا جميعًا، وزراء حاليون وسابقون ومسئولون حكوميون كبار ورؤساء تحرير الصحف القومية الرئيسة، وكلَّفته صداقة هؤلاء عشرات السيارات التي منحت كهدايا مجانية أو بأسعار رمزية.. تم ذلك بموافقة المسئولين اليبانيين وأحياناً بناءً على اقتراحهم واستمر الحفل حتى ساعةٍ متأخرةٍ وأذاع التليفزيون أجزاءً منه كإعلانات مدفوعةِ الأجر ونشرت معظم الصحف تغطيةً وافيةً له وكتب محررٌ اقتصاديٌّ كبير في جريدةِ الأخبار يقدم افتتاح توكيل تاسو على أنه خطوة وطنية شجاعة أقدم عليها رجل الأعمال المصري الأصيل محمد عزام بغرض كسر احتكار السيارات الغربية وناشد المحرر جميع رجال الأعمال المصريين بأن يختاروا الطريق الصحيح الصعب كما فعل الحاج عزام من أجل نهضةِ مصر وسلامة اقتصادها"(13) وهنا تتمفصل الأيقونة السَّردية الكبرى تشريحيًا إلى أيقونات صغرى تعري سوءةَ المشهد السياسي والاقتصادي والإداري الفاسد، بل وتتعدى ذلك إلى روافد الفساد الأخرى التي تدعم ذلك المشهد وتكرس له بوصفه الحال الأمثل للنجاح والوطنية والتطور كما يتضح ذلك من التقابلات الآتية لدوال المشهد:
الأيقونة السَّردية القول الآخر أو( الدلالة الأعمق).
فأقامَ ... حجرة عمليات .. يخوضُ حرْبًا
← صعوبة الاستثمار، وحاجته لما تحتاج إليه الحرب من فنون المكر والخديعة وتعدد جبهات المواجهة.
ودعا بنفسهِ كل الكبار في البلدِ

حجم النفوذ الذي يحتاجه رجل الأعمال في مثل هذا الواقع من الفساد، حيث شخصنة الاقتصاد وارتباطه بالنفعية والعلاقات والمحسوبيات وما شابه ذلك.
الحفل الضخم- فندق سميراميس. وكلفته صداقة هؤلاء عشرات السيارات التي منحت كهدايا مجانية أو بأسعار رمزية. وأذاع التليفزيون أجزاء منه كإعلانات مدفوعةِ الأجر.
← مصروفات طائلة سوف تحمل في النهاية على سعر المنتج ومن ثم على كاهل المواطن الراغب في شراء هذا المنتج.
وزراء حاليون وسابقون
← كيف تمتد عملية النفوذ من خارج المؤسسة الرسمية إلى داخلها، فلو لم يكن للوزراء السابقين نفوذ وتأثيرٌ في العمليةِ السياسيةِ والاقتصاديةِ لما أشارت الأيقونة السَّرّديَّةُ إلى ذلك.
ورؤساء تحرير الصحف القومية الرئيسية. وكتب محرر اقتصادي كبير في جريدةِ الأخبار يقدم افتتاح توكيل تاسو على أنه خطوة وطنية شجاعة أقدم عليها رجل الأعمال المصري الأصيل محمد عزام.
← نفوذ رأس المال وقدرته على شراء الكلمة إلى حدِّ الترويجِ لرجل الأعمال الفاسد بوصفهِ الأنموذجَ الذي يجبُ أن يتأسى به رجالُ الأعمال جميعهم.
وناشد المحرر جميع رجال الأعمال المصريين بأن يختاروا الطريق الصحيح الصعب كما فعل الحاج عزام من أجل نهضةِ مصر وسلامة اقتصادها"
← هنا تتعمد الأيقونة السردية استدعاء كلمة" نهضة مصر" استدعاءً ساخرًا معكوس الدلالة(إذ كيفَ يقودُ هذا المشهد الذي اجتمعت لديه كل أسباب الفشل والتخلفِ إلى نهضة؟).
ومن تعريةِ سوءةِ المشهد السياسي والاقتصادي، إلى القراءة في منظومةِ القيمِ الفاسدةِ التي تشكلُ الإطار العام والفاعلَ في ذلك المشهدِ، حيثُ تكشفُ أيقونةُ السّردِ عن العواملِ التي يشترطها ( أي ذلك المشهد) فيمن يريدونَ يومًا أن يكونوا فاعلينَ فيه، سواءً في جانب السلطةِ، أو في جانب النفوذ بوصفهما – أي السلطة والنفوذ- جناحيِّ القوةِ الفاعلةِ في النظامِ ككل؛فهذا هو الحاج عزَّام نموذج لرجل الأعمال الذي ما كان له أن يصل إلى المشهدِ ويصبح فاعلاً فيه إلا لما لديهِ من رصيدٍ من صفاتٍ وقيمٍ فاسدةٍ، استطاعَ أن يجاري بها مثيلاتها من قيمٍ في رموز السلطةِ مثلما يتضح في الفقرةِ التالية من الرواية: " لم يكن سهلاً على الحاج عزَّام أن يتنازل ببساطةٍ عن ربع أرباح التوكيل، ولم يكن بمقدوره أيضاً أن يرفضَ بوضوحٍ، كان تقديره أنهم لن يبداوا في محاربتهِ مادام عندهم أملٌ ولو قليل في أنَّهُ سيدفع، وقد طلب لقاءَ الرجلِ الكبير وألحَّ في ذلك، أولاً حتى يكسب الوقت، وثانيًا لأنَّ لديه شعورٌ غامضٌ مؤكدٌ أنه إذا التقى بالكبير وجهاً لوجهٍ سينجحُ في إقناعهِ بتخفيضِ النسبةِ، وكان لديه غرضٌ أخيرٌ مهم: أن يتأكد من وجود الرجل الكبير أساساً.. أليس محتملاً أن يكون الفولي يستعمل اسم الكبير بغير علمه؟!.. احتمال ضئيل طبعًا لكنَّهُ قائم.. واستغرق الأمرُ بضعةَ أسابيعٍ وعدةَ مكالماتٍ تليفونيَّة ألحَّ فيها عزّام على الفولي حتى يُدبِّرَ لهُ موعدًا مع الكبير" ( 14) ولقد اختارت الأيقونةُ السرديةُ أيقوناتها الفرعيةَ بوعيٍّ عميقٍ وحرفيةٍ متقنةٍ عبرت من خلالها عن منظومة القيمِ التي تحكم المشهد الفاسد برمته كما يتضح من الجدول الآتي حيثُ تحيلُ كلُّ أيقونةٍ فيه إلى سلوكٍ قيمي فاسد: الدالُ (الأيقونة) الدلالات يتنازل
← تقديم التنازلات شرطًا للوصول والاستمرار. ربع أرباح التوكيل
← الجشعُ والطمعُ وأكل الحرامِ. لم يكن بمقدوره أن يرفض بوضوحٍ
← المراوغة والكذب والتمويه والخداع المُمَارَسُ من جانبي القوة الفاعلة في المجتمع ( السلطة، والنفوذ). الرجل الكبير استغلال رموز السلطةِ والمتنفذينَ فيها وخاصّةً الأسماءَ الكبيرةَ في هرمِ السلطةِ لممارسةِ الإرهابِ النَّاعمِ تجاه بقيةِ أفرادِ المجتمع متى اقتضت الضرورةُ ذلك. ابتكار السلطة لأيقونةِ الرجل الكبير، الذي يستوجبُ وجودُه السَّمعَ والطاعةَ، جريًا على ما كرسته أنساق ثقافية أخرى مثل: الأخ الكبير صاحب النفوذ والقوة على بقية أخوته، ومثل كبير العائلة، وكبير المنطقةِ.... إلخ. أن يتأكدَ من وجود الرجل الكبير أساساً.. أليس محتملاً أن يكون الفولي يستعمل اسم الكبير بغير علمه؟!
← ممارسةُ الكذبِ واستغلالُ النفوذِ والتربحُ والنَّفعية باسم أهرامِ السلطة. واستغرق الأمرُ بضعةَ أسابيعٍ وعدةَ مكالماتٍ تليفونيَّة ألحَّ فيها عزّام على الفولي حتى يُدبِّرَ لهُ موعدًا مع الكبير...
← استمراء السلطة التخفي والاحتجاب عن النُّخْبِ بأنواعها، فضلاً عن تخفيها واحتجابها عن الشعب. وتكريس صعوبة لقاءِ ممثليها في وجدان الخاصةٍ والعامِّةٍ من أبناء الشعب.
وفي ضوء ما سبق حول دور الشخصية السَّرديةِ وموقعها في الروايةِ الجديدة يتبيَّنُ لنا أنَّ الأسواني قد اتخذَ من تصويرِ الشخصيةِ السَّردية وتوصيفها منطلقًا لتجسيد وتوصيفِ المجتمع المصري برمتهِ؛ إذ عندما تصفُ أيقونةُ السَّردِ في روايةِ الأسواني التي نحنُ بصدد قراءتها الآن محمد السيد الذي يعملُ في وظيفةِ مساعد طباخ في نادي السيارات، فهي تصفُ مجتمعًا بأكملهِ، أو بتعبير أكثر دقةً، فإنَّها تُوصِّفُ مشكلةً الدولةِ ككل في أبعادها: الاجتماعية والصحية والاقتصادية في آنٍ. وكما ردَّتْ الأيقونةُ أسبابَ تخلف التجربةِ التنمويةِ المصريةِ عن نظيرتِها اليابانيةِ إلى منظومةِ السلوكِ الفاسدةِ ممثلةً في توصيفِ السمتِ العامِ الجسدي والأخلاقي لشخصية رجل الأعمال المصري الحاج عزام، فإنها ( أي الأيقونة) تردُّ أسباب التخلفِ نفسهِ إلى الرِّدةِ الصحيةِ والاجتماعية ونكبات الفقرِ والحرمانِ التي مُني بها الإنسان المصري في عمومهِ، ويكأنَّ الأيقونةُ تريد أن تردَّ أسباب التخلفِ في التجربة التنموية المصريةِ إلى عصبها الأساس وهو الإنسان بوصفهِ مرتكز النهضَةِ وفاتحةَ الكتابِ في كلِّ المحاولات والتجاربِ التنموية، وهذا ما دلَّلَت عليهِ أيقونةُ السَّردِ في وصْفِها لرجلي الأعمال: المصري الحاج عزام، والياباني المستر ين كي، وما دلّلت عليهِ في هذه المقطعة السرديةِ: "مثل معظم المصريين القادمين من الريفِ كان محمد السيد ( مساعد الطباخ في نادي السيارات) يعاني من بلهارسيا قديمة أدت به بعد ذلك إلى إلتهابات وفشل في الكبد تسببت في موتهِ ولمَّا يبلغ الخمسين، وتذكر ابنته الكبرى بثينة ذلك اليوم من شهر رمضان بعدما تناولت الأسرة الإفطار في شقتهم الصغيرة المكونةِ من غرفتين ودورة مياه فوق سطح عمارة يعقوبيان، قام أبوها ليؤدي صلاة المغرب وفجأة سمعوا صوت شيءٍ ثقيلٍ يسقط على الأرض، وتذكر بثينة صرخة أمها بصوتٍ ملتاع: " الحقو أبوكم".. هرعوا جميعًا إليهِ.. بثينة وسوسن وفاتن ومصطفى الصغير، كان الأب راقدًا على السرير في جلبابه الأبيض وقد سكن جسده تماماً، واكتسى وجههُ بلونٍ أزرق كابي، وعندما احضروا له طبيب الإسعاف ( وكان شابًا مرتبكًا) كشف عليه بسرعة ثمَّ أعلن النبأ الحزين فتصاعدت صرخات البنات وراحت أمهن تلطم وجهها بقوة حتى سقطت على الأرض..." (15) ولقد عبرت أيقونةِ السردِ عن الجمعِ بصيغة المفرد، فمثل ما قدمت الأيقونةُ الحاج عزام نموذجًا لكثيرٍ من رجالِ الأعمالِ المصريين، فهي تقدمُ الشخصياتِ السَّرديةَ في هذا المشهد السردي السابق بوصفها نماذجَ لقطاعٍ عريضٍ من المجتمع. ولقد تأكدت قصدية الأيقونةِ السرديةِ ممثلةً في إطلاق المفرد وإرادة الجمع من خلالِ سلوكها السردي في معظم الروايةِ، ناهيكَ عن هذا الاستهلال لهذا المشهد السردي الذي يؤكدُ تلك القصدية، إذ تقولُ الأيقونةُ: " كان محمد السيد.... مثل معظم المصريين ...." لقد تمَّ التعبير- في هذا المشهد- بالمفردِ عن الجمعِ وبالجزء عن الكل في ضوءِ الأيقونةِ السابقةِ التي ما كان لها أن تتصدرَ هذا المشهد السرديَّ إلا لتؤكد ما ذهبنا إليه.وبناءً على ذلك فإنَّ محمد السيد الأب المصري الفقير القادم من الريف، هو الغالبية من الآباء المصريين القادمين من الريف، مثلما هم في الغالب محمد السيد، وإنَّ بثينةُ ابنتهُ ( وأختيها وأخاها) هم الغالبية من البنات والشباب المصريين - الذين لهم أبٌ فقيرُ مريضٌ مثل محمد السيد - المحرومين من التعليم والحياةِ الكريمةِ، وإنَّ أُمَّ بثينة هي الغالبية من الأراملَ اللاتي اختطفَ الفقرُ والمرضُ مجتمعيْن أزواجهنَّ وتركهنَّ فقيراتٍ بلا عائل. وما كانت تلك القراءةُ التي تحملُ المفردَ محملَ الجمعِ، إلا تمثلاً لأبجدياتِ القراءةِ الحديثةِ التي ترى أنَّ القارئ الحصيفَ لا يمكنُ له أنْ يترك مثل هذه الأيقونة الافتتاحية في مثل هذا المشهد أن تمرَ عليه عبثًا دون أن يقتنصها ويستفيدَ منها، خاصةً وأنَّهُ أمامَ نصٍّ مكتوبٍ على عادةِ كلِّ النصوص الكتابيةِ الحديثةِ التي تقتصد في استثمار علاماتها احترامًا لدور القارئ في إنتاج النَّص، واعتزازًا بتميزها عن التواصلِ الشفاهي اليوميِّ الذي يتوافرُ لديهِ ما ليس متاحًا للمكتوبِ من العلامات غير اللسانية المتنوعة المتعددة التي تسهل عمليات التأويل والإرجاع في جو من التفاعل السيميائي فوق اللساني تتيسر لديه عملية الفهم والتأويل والمقاربة، على عكس النص الكتابي الذي يفرض علي القارئ ضرورة التنقيب والبحث عن كل ما دق وخفي وبَعُدَ من علامات المكتوب لاستثمارها في عملية التلقي. وهذا ما جعلنا لا نترك مثل تلك الأيقونة الافتتاحية المشار إليها منذ قليل تمر علينا دون التشبث بها مدخلا لكشف الخبيءِ فيما أتى بعدها من أيقونات سردية. وما ذهبنا إلى ما ذهبنا إليه في المشهد السردي المذكور من كون الأيقونة السردية تتحدث عن الجمع بصيغة المفرد، وعن الكل بصيغة الجزء إلا على هدي وبصيرة من: أيقونة افتتاح المشهد. تَمَثُّل دور القارئ النموذجي في استرجاع سنن السَّردِ في مواقع أخرى عبر الرواية "ومن الطبيعي فإن القارئ التجريبي ليتحقق كقارئ نموذجي له واجبات "فلسفية" فعلية في أن يسترجع سنن المرسل ويقترب إليه كثيرا"(16)
المراجع والهوامش والإحالات: (1): علاء الأسواني، رواية "عمارة يعقوبيان"، مكتبة مدبولي، القاهرة ط9، 2006م، ص20:21. (2): عبد الملك مرتاض في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 240 سنة 1998م، ص 81. (3): عبد الملك مرتاض في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 240 سنة 1998م، ص 81. (4): عبد الملك مرتاض في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 240 سنة 1998م، ص 82. )(5):سعيد بنكراد، سيمولوجية الشخصيات السردية، رواية "الشراع والعاصفة" لحنا مينا نموذجا، مجدلاوي، عمان الأردن، ط1، 2003م، ص 70. ( 6 ): علاء الأسواني، رواية "عمارة يعقوبيان"، مكتبة مدبولي، القاهرة ط9، 2006م، ص 278.. (7) الرواية، ص 118. (8): يُعقِّبُ الدكتور مرتاض في كتابه نظرية الرواية على هذه المصطلح قائلاً: " ونحن مضطرون إلى اصطناعِ هذا المصطلح في مقالات هذا الكتاب لنميزَ، فعلاً بين شكلين مختلفين للروايةِ اختلافاً بعيدًا، أو اختلافاً ما؛ ولكنه ثابتٌ بلا ريب" " (9) عبد الملك مرتاض، ص 48. (10) :سعيد بنكراد، ص 71. (11): كريم زكي حسام الدين، الإشارات الجسمية، دراسة لغوية لظاهرة استعمال أعضاء الجسم في التواصل، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط2، 2001م، ص18 (12): كريم زكي حسام الدين، الإشارات الجسمية، دراسة لغوية لظاهرة استعمال أعضاء الجسم في التواصل، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط2، 2001م، ص 7. (13 ) علاء الأسواني، عمارة يعقوبيان، مكتبة مدبولي، القاهرة ط9، 2006م، ص 277: 278. (14) السابق ص 300. (15):ص 58: 59. (16): أحمد بوحسن، نظرية الأدب، القراءة - الفهم - التأويل، نصوص مترجمة، دار الأمان للنشر والتوزيع، المغرب، ط1، 2004م، ص 43.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.