تبدو مشكلة رواية «نادى السيارات» لعلاء الأسوانى فى تهافت حبكتها فى الثلث الأخير من الرواية، وفى إصرار مؤلفها على إغلاق أقواس لا يمكن إغلاقها، مما أوقعه فى مبالغات مزعجة أفسدت الصورة، رغم الجهد الواضح فى دراسة الموضوع، والبراعة فى رسم معظم الشخصيات الكثيرة، وانطلاق المعالجة إلى آفاق واسعة وطموحة تتأمّل ليس فقط فترة الأربعينيات، ولكن تحاول تحليل آليات «التسلط والخضوع» على مستويات متعددة، وبين أشخاص مختلفين، ولذلك أراها تجربة مهمة، وجديرة بالقراءة والمناقشة. «نادى السيارات» المكان هو المعادل الفنى الموضوعى للوطن نفسه، رغم أهمية المبنى فإن الأهم عند الأسوانى هو الشخصيات، لدينا بناء هرمى صارم يمثّل الدولة المصرية الفرعونية فى كل العصور تقريبا، والكل يجتمعون داخل النادى: الحاكم/الملك وحاشيته، الإدارة الصارمة/الحكومة، والعمّال بكل فئاتهم وهم معادل الشعب، بين كل فئة وأخرى مسافة ونظام وقواعد، أفضل ما فى الرواية الرسم الجيد للنماذج البشرية، روايات الأسوانى هى روايات شخصيات بالأساس، هكذا كانت «عمارة يعقوبيان» و«شيكاغو». فى «نادى السيارات» شخوص من لحم ودم، مصريون وأجانب، من العائلة المالكة، ومن السيدة زينب، من مختلف الأعمار والمستويات الاقتصادية، صعايدة ونوبيون. أمّا تحليل هيمنة كل مستوى على المستوى الذى يليه، فهو بارع وذكى وثاقب. سؤال الرواية كلها معاصر تماما، رغم أن الأحداث قديمة: لماذا يخضع المصريون تحت لافتة لقمة العيش؟ ولماذا تتأخر ثورتهم؟ هناك لقطات جيدة جدا تدور حول هذا المعنى، بل إن فكرة التسلط والخضوع، تتجاوز المستوى الاقتصادى ولقمة العيش، لتنطلق إلى هيمنة عكسية: الأغنياء يستذلون الفقراء بالمال، والفقراء يستذلونهم بالجسد (علاقة محمود بالعجوز المتصابية تفيدة هانم)، هناك هيمنة وخضوع حتى داخل المستوى الواحد: أمير متمرد فى مواجهة الملك، وشمشرجى الملك النوبى المتسلط فى مواجهة الخدم البؤساء. تحافظ الرواية على تماسكها حتى ثلثها الأخير، حيث تزيد جرعة المبالغات التى لا تحتاجها رواية مشروعها التحليل والسؤال، لم يكن البناء فى حاجة إلى الصفحات الأولى التى يزور فيها بطلا الرواية مؤلفها لانتزاع السرد منه، حيلة لويجى بيرانديللو فى كسر الإيهام تناسب روايات أخرى له بنية غير واقعية، بينما «نادى السيارات» يبدأ من الواقع لكى يعود إليه، قوة الرواية فى هذا النبض الإنسانى الملموس وليست فى حيلها السردية، تعدّد الأصوات وزوايا السرد من الذاتى إلى الموضوعى لم يعد فى حاجة إلى استئذان القارئ، أو عمل مقدمات، لأنه يتم ببساطة فى الرواية الحديثة داخل الصفحة الواحدة، المقدمة الروائية الثانية عن اختراع السيارة شائقة حقا وممتعة، ولكنها مجرد هامش على متن الرواية، لم يلتحم معها عضويا، هناك بالطبع شخصيات لها أصول واقعية معروفة تغيّرت أسماؤها، ولكنها تحولت نهائيا إلى شخصيات فنية عندما أصبحت جزءا من رواية، هناك مثلا شخصية بوتشيللى التى تستلهم أنطوان بوللى الذى يمكن أن تعتبره قواد الملك، أو رجل المهام الخاصة، وشخصية الكوو التى تستلهم شخصية محمد حسن شمشرجى فاروق الشهير صاحب النفوذ الضخم، والذى كان موضع منافسة الباشوات من أجل التقرب منه، والشمشرجى هو الخادم الذى يساعد الملك فى ارتداء ملابسه، وهناك شخصية الأمير شامل التى تستلهم (بكثير من المبالغة) شخصيتى الأميرين عباس حليم ويوسف كمال، والاثنان من أقارب الملك الأكثر تمردا واستقلالية، الأول كانت له أنشطة فى مجال رعاية العمال، والثانى هو مؤسس مدرسة الفنون الجميلة، بل إن بعض شخصيات عمال النادى ذكّرنى بشخصية قابلتها داخل نادى السيارات فى التسعينيات، كنت أكتب موضوعا عن المكان، وقدموه لى باعتباره أقدم عامل، ولكنه رفض بشدة الحديث عن ذكرياته، بدا خائفا ومرعوبا، أما شخصية الملك فاروق التى تظهر باسمها، فهى فى رأيى أضعف شخصيات الرواية فنيا، فقد كانت أحادية الجانب وكأنها تجسّد فساد الرأس فى الدولة المصرية على مر العصور، أى أنها حملت كل خطايا الحكام من ملوك ورؤساء وربما فراعنة أيضا، وبذلك اقتربت كثيرا من شخصية الملك فاروق فى أفلام نادية الجندى! كان يمكن أن تكون رواية «نادى السيارات» عملا عظيما لولا أنها أرادت أن تضع نقطة فى آخر السطر، أرادت أن تقول فى النهاية إن الضغط سيؤدى إلى انفجار ثورى، وهو أمر أقرب إلى البداهة، كان يمكن أن تكون رواية ناضجة جدا لولا أن الشخصيات، التى اكتملت ملامحها، بدت أكثر قوة من الحبكة المتهافتة، الشخصيات هنا من القوة إلى درجة أنها أصبحت مستغنية عن أى حوادث مثيرة مفتعلة، ولكن الرواية تستحق القراءة والجدل معها وحولها. الأسوانى سارد ممتع، حكاء موهوب، لا يمكن أن تترك رواية بدأت فيها من أعماله قبل أن تنهيها، لديه حساسية عالية فى التقاط التفاصيل بالذات ورسم المشاهد بألوانها وظلاله، خذ مثلا هذه اللوحة المصورة التى تصف مخزن النادى: «صناديق الويسكى من كل نوع، أفخر أنواع السيجار، زجاجات النبيذ المعتق الفاخر بألوانه الثلاثة الأحمر والأبيض والوردى، صابون مستورد، زجاجات عطر لغسيل أيدى الأعضاء، ورق تواليت، مفارش مناضد، فيشات القمار، أدوات كهربائية وقطع غيار أدوات صحية، أطباق وكؤوس وأكواب زجاجية من كل حجم ونوع، والأهم من كل ذلك: نوعان من أوراق اللعب (كوتشينة): كوتشينة فاخرة يلعب بها السادة الأعضاء، والكوتشينة الملكية، المستوردة خصيصا من أجل الملك، حوافها مطلية بماء الذهب، يستعملها مولانا دورا واحدا، ثم تستبدل بها أوراق لعب جديدة، لا يلعب الملك بكوتشينة واحدة أبدا، فى نهاية كل شهر، تجمع أوراق الكوتشينة الملكية المستعملة، ويتم إدخالها فى مفرمة خاصة فى قصر عابدين تحيلها إلى مادة أشبه بالتراب، ثم تلقى بعد ذلك مع مهملات القصر.. إعدام الكوتشينات الملكية مهمة جدية يشرف على تنفيذها الكوو بنفسه، إذا تسللت أوراق اللعب الملكية إلى المقاهى الشعبية واستعملها الغوغاء والسوقة، ماذا يتبقى عندئذ من هيبة الملك؟!». ثم إن أفضل ما فى «نادى السيارات» مغزاها اللامع: لا يمكن أن تستلب إنسانا إلا إذا سكت هو على ذلك، ولا يمكن أن تشترى عبدا إلا إذا وافق هو على أن يباع.. إنها ببساطة رواية عن أهمية أن تعيش ولكن.. بكرامة.