الحداثة العربية ليست حاضرة معنا إنما خلف ظهورنا لا نجد مفكرًا أو شاعرًا أو فيلسوفًا ولكن فقهاء مقلدون بالآلاف اختزال التأويل القرآن الكريم إلى 150 آية فقط تتعلق بأمور النكاح والفرائض وإغفال الآيات المتعلقة بالتدبر لا تجديد إلا بمقاطعة كل ما هو قديم وسط حضور جماهيري، استقبلت القاعة الرئيسية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، الشاعر والفيلسوف والمفكر السورى الكبير"أدونيس" فى لقاء حمل عنوان "نحو خطاب ديني جديد"، مرددًا عبارته الشهيرة "إذا ذهبت مصر ذهب العرب". بدأ اللقاء بكلمات الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، قائلا: ها هو ذا "أدونيس"، يعود ليُطل علينا من جديد بمعرض القاهرة الدولى للكتاب بعد غياب ما يقرب من عقدين من الزمان؟. وأشار مجاهد إلى أن أدونيس اعتاد أن يُطل علينا من شُرفتين، الأولى هى شرفة الشعر، فصحيح لدينا شعراء كبار حملوا مشاعل النور فى الشعر العربى الحديث؛ ولكن يبقى أدونيس هو الأكثر تأثيرًا، فقد وضع بصمة واضحة فى تاريخ الشعر العربى لا يضاهيه فيها أحد، أما الشُرفة الثانية التى يُطل علينا من خلالها، فهى شُرفة التجديد الفكرى، الذى يتأمل شئون الثقافة العربية كلها. وأكد مجاهد مقولة سعيد الكفراوى حينما ينظر أدونيس من شرفة المفكر ؛ فإن أكثر ما يذكرنا به هو "طه حسين"، فأدونيس" يتميز بميزة رائعة أنه يضرب قدمًا راسخة فى عمق التراث العربى، ويكفى أن نتذكر أنه صاحب ديوان الشعر العربى، وأنه يضع قدمًا أخرى واثقة أيضًا فى الثقافة الغربية، و لا يقف مثل هذه الوقفة، من لا يستطيع أن يطور ولا يستطيع أن يُقدم رؤية تفيد الثقافة العربية.. وقد اختار أدونيس أن يُطل علينا اليوم من هذه الشرفة، ألا وهى شرفة المُفكر فمرحبًا به مُفكرًا فى مصير الثقافة ومصير الأمة. قال أدونيس حديثه قائلاً: إذا ذهبت مصر ذهب العرب، مضيفاً: بشكل سريع ورغم كل الإنجازات التى حققها الكتاب والمبدعون العرب فى كل الميادين، شخصيًا أقول أن الحداثة العربية ليست حاضرة معنا وليست أمامنا وإنما الحداثة هى خلف ظهورنا. فالأطروحات والأفكار التى حدثت فى القرن الثانى الهجرى الثامن الميلادى، وبشكل خاص فى بغداد أكثر جرأة وأكثر عمقًا وأكثر جذرية من أطروحتنا المعاصرة اليوم، فلا نجد شاعرًا خلق لغة كاملة للمدينة كما فعل أبو نواس، لا نجد شاعرًا أعاد النظرفى شعرية اللغة وفى علاقتها بالأشياء وبالعالم كما نجد عند أبو تمام، لا نجد شاعرًا أعاد النظر فى الموروث الدينى والموروث الاجتماعى العربى كما نجد عند أبى العلاء المعرى، هذه أمثلة فقط وهناك ثمة أشياء أخرى من الممكن أن تعطينًا أمثلة كثيرة. ولفت أدونيس إلى أننا لا نجد تجربة فذة مثل تجربة المتصوفين، ولا نجد تأريخًا عظيمًا كما نجد عند ابن خلدون، فى مقدمته الشهيرة فى كل ما يتعلق بعلم الاجتماع، هذا كله يجعلنى أقول وأكرر أن حداثتنا العربية هى وراء ظهورنا وليست معنا اليوم وليست أمامنا، إلا إذا غيرنا مسار تفكيرنا وعملنا. والسؤال إذاً كيف حدثت هذه المنجزات الكبرى فى الماضى ولم تحدث فى الحاضر؟ والجواب بسيط هو أنه لا يمكن التجديد والانتقال من مرحلة لمرحلة إلا بإحداث قطائع معرفية وقطائع جمالية. ومثل هذه القطائع حدثت فى العصر العباسى على وجه خاص لكنها لم تحدث عندنا حتى اليوم بالشكل الذى تفترضه الحداثة العربية داخل الإنقلابات المعرفية الكبرى، وذلك على الرغم من حدوث هزات معرفية وفكرية عنيفة فى القرن العشرين والقرن الحادى والعشرين!. وأوضح بأن هناك إمكانية للتجديد والتأويل فى الدين، وأنتم تعرفون قصة التأويل فى التراث العربى، ولعلكم تعرفون القراءات والتأويلات التى حدثت فى الثقافة العربية وبشكل خاص فى إطار الأفق الدينى.. والآن يختصر ويختزل هذا التأويل القرآن الكريم إلى مائة وخمسين آية فقط وهى التى تتعلق بأمور النكاح والفرائض والطقوس الدينية، غافلين عن جميع الأيات الأخرى المتعلقة بالتدبر فى الكون وخلق السموات والأرض وخلق مناهج جديدة، وكان النص القرآنى غير موجود فى هذه المجالات إطلاقًا؟!. ولا استغراب أو دهشة إذا لم نجد مفكرًا أو شاعرًا أو نجد فيلسوفًا وأعنى أننا لا نجد اليوم فيلسوفًا إسلاميًا معاصرًا يستطيع أن يجارى بفكره وأرائه فلاسفة الغرب فى حين أن تعداد المسلمين فى العالم قد تخطى المليار ونصف مليار مسلم؟!. ولكننا على الطرف الأخر نجد لنا مئات بل ألاف الفقهاء، الذين ليس لديهم أى تجديد ولا ابتكار، فهم فقط يقلدون أسلافهم تقليدًا أعمى دون وعى أو فكر.إن هذه الظاهرة الخطيرة التى نعيشها اليوم من باب أولى أن تكون هى الشغل الشاغل لكل مسلم، وكل عربى على نحو خاص. وأعود وأكرر كما أشرت فى مقدمة حديثى بأنه لا تجديد إلا بالمقاطعة، فأبو نواس جدد حينما قاطع لغة البادية، وكذلك حدث مع أبو تمام والمعرى فكلاً منهما استطاع أن يصنع عالمًا جديدًا قائم على الإبداع والابتكار لا على التقليد. فإذا كنا صادقين فى نوايانا للتجديد فعلينا أن نقوم بمثل هذه القطائع فى جميع الميادين، فنحن لا نزال ثقافيًا نعيش فى ثقافة الإمبراطورية العربية الإسلامية، والتى قامت على ثقافة الغزو والفتوحات، إلا أن وصلت فى أوجهها إلى ما نسميه بالتسامح، ولا شك أن التسامح قد لعب دورًا عظيمًا فى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. ولكن الإنسان العربى اليوم لا يمكن أن يقنع بالتسامح، لأنه يريد المساواة، فالتسامح يظهر أن الحق معه ويغض الطرف عن الآخرين، من هنا جاء رفض الإنسان اليوم للتسامح وإصراره على المساواة وإقامة العدالة التي تقتضيها المساواة، فهذه الثقافة التي لا نزال نعيش فيها وهي ثقافة العصور الوسطى التي كانت تعتمد على الغزو والفتوحات لازالت مفروضة علينا والدليل ما نسمعه من حين لآخر، حيث يقولون أن هذا إسلام صحيح وهذا غير صحيح وهذا مسلم وهذا كافر، وهو كلام لا حقيقة له ، فهناك مسلمون معتدلون وآخرون متطرفون يأخذون من النص القرآني جزء ويتركون الآخر في حين أن الإسلام لا يتجزأ وهذه اللغة السائدة أوصلتنا إلى لغة العنف والتكفير التي أصبحت ملء السمع والبصر حتى أصبح النقاش حول الإسلام مقصورًا ما بين الإسلام الصحيح وغير الصحيح. واستنكر أدونيس هذا بقوله: هذا خطأ كبير لأن أصحاب الفكر الصحيح يصبحون في موقع المدافع في حين نجد المتطرفون يقفون في موقع الهجوم. وتساءل: ما هو المشروع العربي اليوم للوقوف في وجه التطرف الديني، وماذا قدمت الأنظمة التي تتناقض فيما بينها ولا يجمعها سوى أنها تقف على شاطيء واحد لمقاومة التطرف؟!. والإجابة ببساطة أننا ليس لدينا أي مشروع لمجابهة الفكر المتطرف فماذا نفعل إذاً، خصوصًا أن مسئوليات البشر الذين يعيشون في هذه المنطقة الحضارية الفريدة والتي أثرت في كافة حضارات العالم، وأقصد هنا مصر وسوريا والعراق، تفرض علينا جميعًا أن نتحمل تلك المسئوليات. وإذا كان الإسلام يجبُّ ما قبله فهو ضمنيًا يجبُّ ما بعده، وإذا كان الإسلام من ضفتين ضفة ما مضى وضفة ما يأتي فأين الآخر، ألا وجود لهم لأنهم أهل ذمة أو كُفار؟! إن بعض المعتدلين في الغرب يسايرون العرب اليوم بقولهم أن هذا ليس من الإسلام في حين أنه من الإسلام، والمتطرفون ك"داعش"، وجماعة النصرة الإسلامية وغيرها لم ينزلوا في قفة من السماء فجأة بل هم استمرار لتاريخ طويل من العنف. وذلك لأن تاريخنا دائمًا هو تاريخ السلطة والسلطة العربية لم تفكر يومًا ما في المجتمع بل فكرت في الحفاظ على السلطة العربية فقط على مدار كل السلطات العربية بلا استثناء، من منكم قرأ ذات يوم تاريخ للشعب، أين تاريخ الشعوب؟! إنه لا مكان له في ظل تقديس تاريخ الحكام وحروبهم ضد فئات الزنادقة والملحدين، إننا لا يمكن أن نرى حاضرنا ونفهم المستقبل إلا إذا درسنا هذا الماضي. فهل تتصورون مثلاً أن التراث الأعظم والأكثر تعبيرًا عن الشخصية العربية وهو الشعر لا يوجد كتاب واحد يدرس جماليات الشعر العربي على مدار 14 قرنًا من الزمان، ليس هناك عقل نقدي، في حين أنني شخصيًا أرى أن الشعر العربي من أفضل الأشعار على مستوى العالم، ولنتأكد من ذلك سوف أسوق لكم مثلًا، فنحن جميعًا لازلنا نعيش في عباءة ما قاله السلف ولكل منا شخصيتين، شخصية تلبس وتعيش وتسافر كما يعيش الناس في الغرب ولكنها ترفض رفضًا باتًا في وعيها الأسس العلمية التي أدت إلى هذه الاكتشافات، فنحن نعيش في عالم ونفكر في عالم آخر، دائمًا ما نفكر في أخطاء الآخرين دون أن نفكر في القيام بثورة على أخطائنا نحن. فالشعوب العربية منشطرة الشخصية ولذلك فلا نجد لدينا من ضمن أنواع الأدب العربي ما يُعرف باسم أدب الاعترافات لأن العربي توجد فى مخيلته ثقافة راسخة تؤكد أنه يولد ويكبر ويموت معصومًا دون الخطأ، وأن المخطيء دائمًا هو الآخر. إن الثقافة العربية اليوم أميل إلى أن أسميها ظاهرة تقليدية أكثر من كونها ظاهرة بحثية تدعو لفتح مجال جديد للعلم والثقافة والمعرفة. فالثورة الحقيقة أن نثور أولًا على أنفسنا وبعدها نبدأ في الثورة على الآخرين، وإذا لم نفعل ذلك فسنظل ندور في حلقة مفرغة يأكل بعضنا بعضًا. فأنا ممن يكرهون الوعظ والتعاليم والإرشادات لأنني أرى أن أعظم معلم للإنسان هو نفسه بشرط أن يكون صادقًا مع نفسه. وأكد أدونيس أن الثقافة العربية السائدة هي ثقافة لا تعلم إلا الكذب والنفاق والرياء، فإذا كانت الرقابة في المجتمع العربي جزء عضوي من الثقافة العربية وليست فقط رقابة أهل السلطة فرقابة أهل السلطة جزء من الرقابة الاجتماعية والسياسية، فأنا لا أستطيع أن أقول كل ما أفكر فيه وإذا قلته في قاعة كهذه لا أستطيع أن أقوله كله، وهذا يؤكد أن الثقافة العربية لا معنى لها فهي ثقافة وظيفية لا ثقافة بحث واكتشاف ، كلنا موظفون في ثقافة سائدة. ولذلك فلا دور للمثقف، ولو كان له دورًا حقيقيًا لأثرت فينا أفكار الرعيل الأول من المجددين أمثال محمد عبده وعلى عبدالرازق وطه حسين. ومن المؤكد أن الهدم والنقد الذى أقوم به الآن شيئًا سهلاً، لكنى أوكد لكم أننا إذا لم ننقد ونهدم لكى نؤسس لقطيعة معرفية كاملة لا يمكن أن نفعل شيئًا. ومن هنا فقد صغت مشروعًا للإصلاح مكون من نقاط أربع أوجزها فى الآتى: أننا فى حاجة إلى قطيعة كاملة مع هذا النوع من القراءات السائدة للدين والتى تحول النص الدينى الذى هو نص رحمة ومحبة وسعادة للبشرية إلى نص عنف إلى جلاد، ومع إحترامى الكامل للمتدينين فنحن فى حاجة إلى قراءة جديدة للنصوص الدينية. إذا كنا بالفعل نرغب فى تغير السلطة والمجتمع معًا فيجب أن ننشىء جبهة علمانية على مستوى الوطن العربى تعمل على إعادة قرأة الموروث وتؤسس لمجتمع جديد قائم على المعرفة المتجدد. كذلك علينا أن نحرر ثقافتنا من القيود المفروضة عليها فقد وضع كل شى من أجل الثقافة وتناسينا أن الثقافة هى من أجل الحرية وفتح الآفاق. النقطة الأخيرة هى الديمقراطية التى لا مفر منها فبدونها لا حرية ولا حقوق ولا مساواة، فالمواطنة القائمة على علمنة المؤسسات هى ما تستحق أن نناضل من أجله.