مصر وأوروبا.. حوار الضفتين في عهد مبارك د. سعيد اللاوندي للإنصاف يجب أن نذكر أن العلاقات المصرية الأوروبية قد شهدت تطورا مذهلا في العقدين الأخيرين, فحدثت مقاربات كثيرة في دنيا السياسة والاقتصاد جعلت أوروبا( كتجمع) هي الشريك الأول لمصر انطلاقا من أرضية مشتركة بين الجانبين, نجحت في أن تصهر الرؤي المتباينة في رؤية توافقية واحدة ترعي المصالح المشتركة وتحفظ للدوائر المختلفة تداخلها في بعضها, مثل الدائرة الثقافية والاقتصادية علي وجه الخصوص.. كان العقل السياسي المصري بارعا في توظيف جميع المعطيات لإحداث تقارب( من نوع حميم) مع القارة العجوز التي يعشش اسمها في الذهنية العربية مرهونا بتاريخ استعماري مقيت, كانت فيه بريطانيا الدولة التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس, كما كانت فيه فرنسا الدولة التي تطوي مستعمراتها كالسجاد فتمسح هويتها, وتقهر شعوبها, وتستنزف مواردها.. ولأن الاستعمار قد حمل عصاه علي كتفه ورحل, ثم تأسست علاقات جديدة قوامها المصالح المشتركة, فلم يعد يفيد الندم علي لبن مسكوب وانما المفيد هو البحث عن أرضية مشتركة تكون منطلقا لوثبات نحو الرقي والتقدم والازدهار.. وأحسب أن هذا ما فعلته القيادة المصرية التي وجدت في مخزونها الثقافي بعضا من هذه الأرضية التي حدثنا عنها الرعيل الأول( أمثال طه حسين)تحت عنوان حديث الضفتين, ويقصد بهما ضفتا البحر الأبيض المتوسط في الشمال والجنوب باعتبار أن هذا البحر هو قناة اتصال لا انفصال, وساكنو حوضه تجمعهم ثقافة واحدة تسري في دمائهم كما يسري الماء في العود.. ويرفد هذه الرؤية تاريخ صنعه الفرنجة( الأوروبيون) والمصريون معا مع حملة نابليون بونابرت التي بهتت ملامحها الاستعمارية( العسكرية) وبقيت الي اليوم ملامحها الثقافية, فقد رحل الجنود الغزاة وبقيت( كما يقال) المطبعة وكتاب وصف مصر, وفك رموز الحضارة المصرية القديمة.. واذا أضفنا الي ذلك ظاهرة الايجيبتومانيا أي الولع بمصر لدي الفرنسيين وباقي الشعوب الأوروبية في ألمانيا وإسبانيا وايطاليا, لتبين لنا أن صرح العلاقات بين مصر وأوروبا كان لابد أن يكون كحالة اليوم عميقا وراسخا, وثابتا.. وواعدا بفضل رؤية حكيمة لصانع القرار السياسي المصري الذي نسج علي منوال البناء لا الهدم, وحول صورة أوروبا من شبح ملأ أفواهنا بالمرارة طوال سنوات الاستعمار الي صديق يتودد إلينا, ويطرح المبادرة تلو الأخري بهدف التقريب والبحث عن نقاط التقاء, والابتعاد عن دوائر التنافر والخصام وسوء الفهم.. والثابت عملا أن هذه الرؤية الموضوعية لصانع القرار السياسي المصري قد ضيقت كثيرا من الهوة بين ضفتي المتوسط, وأفسحت المجال لكي تكون أوروبا شريكا( لا متفرجا) في عملية السلام.. وكلنا يذكر قمة صانعي السلام التي جرت وقائعها في مدينة شرم الشيخ, وحضرت فيها أوروبا لأول مرة وبدعوة مصرية خالصة, فدشنت بذلك الدور المطلوب منها وهو أن تكون شريكا فاعلا ولا تترك الساحة فارغة أمام الدور الأمريكي. وأحسب أن القارة العجوز لاتزال تحفظ للرئيس المصري هذا الصنيع الذي أخرجها من حالة التهميش التي فرضتها عليها أمريكا, وأدخلها عنوة الي دائرة صنع القرار في الشرق الأوسط.. ونعلم جميعا أن السياسة الخارجية المصرية قد تعاملت بعقل متفتح مع أوروبا وجميع المبادرات الصادرة عنها, بل إن مصر زاحمت أوروبا يوما في طرح المبادرات والمثال الصارخ علي ذلك مبادرة إنشاء منتدي البحر المتوسط, التي اقترحها الرئيس مبارك في خطابه الشهير أمام البرلمان الأوروبي في أواخر تسعينيات القرن الماضي, وتلقفتها أوروبا بالمباركة والتأييد, وماتزال اجتماعات هذا المنتدي تتوالي حتي اليوم, ودراساته ومناقشاته تثري حوار الضفتين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. ونذكر أن مصر كانت من المؤسسين للتعاون الأورومتوسطي( المعروف باسم عملية برشلونة), وتحرص علي إثراء اجتماعات هذا الحوار الذي انطلق قبل نحو ثلاثة عشر عاما وتحديدا في عام1995 سواء بالنقد أو المناقشة أو التصحيح والتقويم.. وهكذا نجحت القيادة السياسية المصرية طوال العقدين الأخيرين( كما أسلفت) في أن تجعل البحر المتوسط جسرا للتواصل, وبؤرة للتعاون والمشاركة, بين الدول المشاطئة للبحر( شمالا وجنوبا) ولذلك عندما فكرت فرنسا ساركوزي في أن تعلن إطلاق مشروعها الخاص بالاتحاد المتوسطي سارعت بالاتجاه جنوبا( الي مصر), فزار الرئيس ساركوزي مصر حاملا معه كل الأوراق التي تشرح الجوانب المختلفة لهذا المشروع وكأنه يرد علي الاستفسارات التي كانت طرحتها مصر حول الاتحاد المتوسطي والجديد الذي يحمله غير ما نعرفه عن عملية برشلونة.. ولقد كان الرئيس الفرنسي صادقا عندما قال إن موافقة مصر علي المشروع هي مسألة حتمية وشدد علي أنه سيكون لمصر مكانة متميزة في هيراركية هذا المشروع ومؤسساته لاحقا. ولعله من أمارات التقدير لمصر( المكانة والتاريخ والدور) أن تحدثت أوساط فرنسية عن اقتسام مصر وفرنسا لمقعد الرئاسة في المؤتمر الذي سينعقد في باريس في13 يوليو المقبل, لمناقشة مشروع الاتحاد المتوسطي.. ولكي تكتمل أبعاد الدور الإيجابي الذي لعبته مصر في تطويع أوروبا وتحويلها من عدو تاريخي( تشهد علي ذلك فترات الاستعمار الطويلة) الي صديق وشريك يجب أن نشير الي نجاح القيادة السياسية المصرية في توظيف علاقاتها الشخصية بقادة وزعماء أوروبا لتحقيق مشروع المصالحة أو التعاون الأوروبي العربي الذي تعكسه اتفاقيات مشاركة ثنائية وجماعية عديدة. وكلنا يعلم أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك كانت تربطه علاقة صداقة قوية بالرئيس مبارك, بل هو الذي أطلق عليه وصف: حكيم الشرق.. ولم تكن علاقة الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران أقل من هذا المستوي, فتقديره للرئيس مبارك, وشغفه بمصر جعلاه يحرص علي أن يمضي إجازة أعياد النويل ونهاية العام في أسوان وظل علي ذلك حتي أخريات أيامه.. والثابت أن الرئيس الفرنسي الحالي ساركوزي, الذي التقي بالرئيس في أقل من عام ثلاث مرات, لا يخفي تقديره لمصر وقائدها وقد عبر في أكثر من مناسبة علي تثمينه غاليا خبرة الرئيس مبارك في الأحداث الإقليمية والدولية.. أريد أن أقول إن علاقات مصر الخارجية قد حققت طفرة طوال سنوات حكم الرئيس مبارك, فالانفتاح علي العالم بايجابياته كان ولايزال علي رأس أجندة الحكم, والمكانة التي تحتلها مصر في المنظمات الدولية ترسخت وأصبحت بصك المصداقية والثقة.. أما العلاقات المصرية الأوروبية فكانت من وجهة نظري الأسعد حظا لأنها انطلقت من أرضية ثقافية مشتركة صنعتها الشعوب, وتحدث بها المفكرون علي الضفتين, وصاغها القائد( الرئيس مبارك) في خطط وبرامج قطعت شوطا في طريق التعايش, والمصالح والمشاركة.. والبقية تأتي.. عن صحيفة الاهرام المصرية 5/5/2008