لماذا تساند مصر مبادرة ساركوزي؟! مكرم محمد أحمد ما من شك في أن العلاقات بين مصر وأوروبا تشكل واحدا من أهم محاور سياسات مصر الخارجية, وأكثرها قدرة علي تحقيق النفع المشترك علي أسس متكافئة, تضمن مشاركة حقيقية تخلو من نزعات الهيمنة والإملاء, وتتسع فيها مساحة الفهم المتبادل بين الجانبين نتيجة ميراث عميق من علاقات قديمة تستند الي جوار جغرافي ومصالح متبادلة وارتباط وثيق بين متطلبات الأمن الأوروبي وأمن الشرق الأوسط, يعززها منذ الأزل الدور الذي لعبه البحر الأبيض المتوسط علي طول التاريخ كجسر للاتصال بين شماله وجنوبه, يكاد يضيق الي حد أن يصبح مجرد بحيرة صغيرة, تعيش علي ضفافها شعوب قديمة تواصلت مصالحها وعلاقاتها وثقافاتها الإنسانية. وبلغة الأرقام فإن أوروبا تمثل بالنسبة لمصر الشريك التجاري الأكبر, لأن أكثر من45 في المائة من صادرات مصر تذهب الي أوروبا, ولأننا نستورد منها ما يزيد علي60 في المائة من احتياجاتنا, ولأنها تشكل الشريك الثاني بعد الدول العربية في حجم استثماراتها داخل مصر الذي يصحبه عادة دخول تكنولوجيات جديدة تضيف الكثير الي عملية تحديث الانتاج المصري, فضلا عن حجم من المنح والتسهيلات والقروض الميسرة, يزيد علي المليار دولار في العام لا تقيدها شروط سياسية ملزمة, إضافة الي عدد من الاتفاقيات تنظم وصول الجزء الأكبر من صادراتنا الزراعية المتزايدة الي السوق الأوروبية, وزيادة هائلة في أعداد السائحين الأوروبيين الذين يشكلون الجانب الأكبر والأهم من رواج السياحة المصرية التي تجتذب الآن10 ملايين سائح في العام معظمهم قادم من دول أوروبية. والأمر المؤكد أن أوروبا سوف تظل علي امتداد العقود المقبلة الشريك الأكبر لمصر, خصوصا بعد أن تمكنت أخيرا من اقامة سوق مشتركة, تصدر عملة واحدة أزاحت الدولار عن عرشه ليصبح اليورو الأول في سوق العملات, وتخدم375 مليون نسمة لتصبح أكبر سوق عالمية, وبرلمان مشترك يتم انتخاب أعضائه كل5 سنوات من شعوب الاتحاد, ومفوضية أوروبية تمثل سلطة الاتحاد الأوروبي التنفيذية, تفاوض الدول نيابة عنه وتتبني سياسة خارجية تتوحد في خطوطها الأساسية والعريضة.., وما يزيد من فرص زيادة حجم المصالح المتبادلة بين مصر وأوروبا, حرص مصر الدائم خصوصا خلال فترة حكم الرئيس مبارك علي توثيق علاقاتها مع جميع الدول الأوروبية دون استثناء, وتركيزها المستمر علي المشاورات المتواصلة مع مراكز صناعة القرار الأوروبي, في فرنسا وألمانيا وايطاليا واسبانيا وانجلترا, مهما تغيرت الحكومات علي أسس متكافئة, وإصرارها علي إنجاح مشروع سلام الشرق الأوسط, مهما تكن عقباته, وفهمها للضرورات الاستراتيجية التي تربط أمن الشرق الأوسط بالأمن الأوروبي. فالأوروبيون هم الأقرب بالفعل الي مصر والعرب وشعوب منطقة الشرق الأوسط, ليس فقط لأنهم الأقرب جغرافيا وثقافيا ولكن لأن تجربتهم الطويلة مع المنطقة تلزمهم الآن سياسات أكثر عقلانية ورشدا جعلتهم يتحفظون علي خطط إدارة بوش لتوسيع النطاق الجغرافي لدول الشرق الأوسط, وألزمتهم أن يكونوا أقل حماسا لأفكاره الفوضوية حول أساليب فرض الاصلاح الديمقراطي علي دول الشرق الأوسط من خارجها, واللجوء الي سياسات الفوضي غير البناءة التي كانت واحدا من أهم أسباب تقويض الاستقرار في المنطقة, والتهديد المستمر باستخدام القوة والعقوبات الجماعية والانحياز الكامل لصالح اسرائيل الذي أفقد السياسات الأمريكية القدرة علي كسب قلوب وعقول شعوب المنطقة. وقد يكون صحيحا بالفعل أن الاتحاد الأوروبي برغم سياساته الأكثر قربا لدول الشرق الأوسط, وبرغم أنه أصبح بالفعل بفضل سوقه المشتركة وعملته الموحدة عملاقا اقتصاديا ضخما, لكن مشكلة هذا العملاق الاقتصادي أنه لايزال يقف سياسيا علي ساقين من الفخار, لم يسطع بعد أن يترجم كامل قدرته الاقتصادية في ارادة سياسية نافذة, أو يفرض نفسه علي المسرح السياسي العالمي شريكا قادرا علي أن يحد من هيمنة القرار الأمريكي, لكن الأمر المؤكد أن أوروبا الموحدة تقوي سياسيا علي نحو متزايد وملحوظ سوف يمكنها في غضون عقود محدودة من أن تصبح قطبا فاعلا في عالم جديد متعدد الأقطاب يبزغ الآن تحت ناظرينا, ولعل أوروبا تكون الآن أقوي الأطراف الدولية إصرارا علي الاسراع بتسوية صراع الشرق الأوسط بما يضمن انسحاب اسرائيل من كل الأراضي العربية المحتلة ويحفظ للفلسطينيين حقهم في دولتهم المستقلة. ولهذه الأسباب, تقف مصر دائما مع كل فرصة يمكن أن تتيح تعزيز العلاقات المصرية الأوروبية, وتفتح عقلها وقلبها لأي تطورات تستهدف توثيق العلاقات بين دول شمال وجنوب المتوسط.., وعندما فكر الأوروبيون قبل عشر سنوات في إعلان برشلونة كإطار تعاقدي بين دول حوض البحر المتوسط, يتم بموجبه تحويل ضفتي المتوسط الي منطقة للتجارة الحرة بحلول عام2010 تسمح بمرور التجارة بين الجانبين دون حواجز ورسوم جمركية, ويلتزم الأوروبيون بموجبه, علي المستوي السياسي, بالعمل علي تسوية الصراع العربي الإسرائيلي وفق المرجعيات المتفق عليها وبينها خريطة الطريق ومبدأ الأرض مقابل السلام شريطة أن تتم ترجمة هذا الاطار التعاقدي في اتفاقيات منفصلة تربط بين الاتحاد الأوروبي وكل من دول جنوب المتوسط وبينها مصر, لم تمانع مصر برغم ملاحظاتها العديدة علي إعلان برشلونة في أن توقع اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي في اطار اعلان برشلونة, التزم الاتحاد الأوروبي بموجبه بمعاونة مصر علي تحديث صناعاتها في اطار برنامج يتكلف275 مليون دولار, يستهدف رفع مستوي جودة الصناعة المصرية كي تكون قادرة علي منافسة مثيلاتها من الصناعة الأوروبية التي سوف تتمتع بالإعفاء الجمركي علي الموار والسلع الوسيطة ابتداء من عام2010 وعلي السلع التامة الصنع ابتداء من عام2012. والآن يري الفرنسيون أن إعلان برشلونة يواجه عقبات كثيرة تحول دون إمكان نجاحه في تحقيق أهدافه, وأن ضرورات المصالح المشتركة ما بين دول شمال المتوسط وجنوبه تفرض تطوير هذا الاطار التعاقدي بما يجعله أكثر قدرة علي انجاز مهامه.., ولهذا السبب جاءت مبادرة الرئيس الفرنسي ساركوزي تحمل عنوانا جديدا هو الاتحاد من أجل المتوسط التي كان قد طرحها لأول مرة خلال حملته الانتخابية لمنصب الرئاسة, ومن أجلها تعقد في باريس غدا قمة مشتركة تجمع كل قادة الاتحاد الأوروبي, كما تجمع قادة دول جنوب المتوسط بما في ذلك إسرائيل وسوريا وكل دول شمال إفريقيا باستثناء العقيد القذافي للنظر في أمر مبادرة ساركوزي ومدي قدرتها علي تحقيق الأهداف المرجوة, خصوصا بعد التعديلات التي فرضها الأوروبيون من خلال المستشارة الألمانية انجيلا ميركل استهدفت ضم كل دول الاتحاد الأوروبي الي المبادرة المقترحة وعدم قصر عضوية الاتحاد من أجل المتوسط علي الدول الأوروبية التي تملك شواطئ علي المتوسط, بالاضافة الي دمج العناصر الأساسية التي كان ينطوي عليها إعلان برشلونة في مبادرة الرئيس الفرنسي ساركوزي. وقد يكون الرئيس الفرنسي ساركوزي محقا في رؤيته للأسباب التي أدت الي اخفاق إعلان برشلونة في تحقيق أهدافه, لأن برشلونة علي حد تعبير وزير الخارجية المصرية أحمد أبوالغيط كان ملكا مشاعا للجميع, لا يقوم علي أية أسس مؤسسية ولا ينهض بمسئولياته كيان محدد, ولا تنطوي تنظيماته علي هياكل واضحة تضمن انتظام عمله وحسن متابعته وقياس حجم نتائجه.., ولهذا السبب يقترح ساركوزي أن يكون للاتحاد من أجل المتوسط قمة دورية تنعقد كل عامين تحت رئاسة مشتركة, رئاسة من الشمال تكون لفرنسا في أول دورة للاتحاد, ورئاسة من الجنوب تنعقد لمصر خلال العامين المقبلين بحكم محورية الدور المصري, وأن ينهض بمهام الاتحاد سكرتارية دائمة تنظم اجتماعاته وتتابع أعماله بما يضمن تفاعلا حقيقيا بين الجانبين, يجعل قرار الاتحاد قرارا مشتركا تسهم فيه دول الجنوب بحيث لا يقتصر حق القرار كما كان الحال مع إعلان برشلونة علي دول الشمال, ويعتقد الرئيس الفرنسي أن الهدف الأول للاتحاد ينبغي أن يركز علي اقامة عدد من المشروعات الطموحة المشتركة التي تستهدف تعزيز بنية التواصل الجغرافي والاقتصادي والثقافي بين الجانبين, وتساعد علي اقامة سوق مشتركة تروج لصناعات عديدة يمكن أن يتكامل فيها جهد الجنوب وجهد الشمال, يمولها بنك أورومتوسطي علي غرار بنك الاستثمار الأوروبي ويتقاسم من خلالها الجانبان سياسة مشتركة في مجالات الطاقة والتكنولوجيا, اضافة الي التزام الاتحاد من أجل المتوسط بكل نقاط البرنامج السياسي الذي كان ينطوي عليه إعلان برشلونة, ابتداء من تسوية الصراع العربي الإسرائيلي الي التنسيق المشترك في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة ومقاومة عملية تلوث البحر الأبيض الذي يعاني من ارتفاع متزايد في نسب تلوثه. ولا ينبغي أن يدخل في فهم أحد, أن سياسة الاتحاد الجديد تجاه منطقة الشرق الأوسط بريئة من مطامح المنفعة والسعي المستمر الي رجحان كفة المصلحة الأوروبية, فهذا هو حال عالمنا, المصالح أولا والمصالح أخيرا, لكن ميزة الأوروبيين, أنهم يقدرون حجم المساحة المشتركة بين مصالح دول الجنوب ودول الشمال, لأسباب الجوار الجغرافي ولمعرفتهم الوثيقة بمدي ارتباط الأمن الأوروبي بأمن الشرق الأوسط واستقراره, ولأنهم يعانون من وجود ما يقرب من10 ملايين مهاجر من أصول عربية وإفريقية معظمهم مسلمون, جاءوا من دول جنوب المتوسط ويحملون ثقافة مغايرة عن ثقافة الغرب, ولا يستطيعون التكيف بالقدر المطلوب مع أوضاع المجتمعات الأوروبية, وأكثر ما يخشاه الأوروبيون الآن أن تتردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية جنوب المتوسط خصوصا في دول شمال إفريقيا بما يؤدي الي استمرار معدلات الهجرة من الجنوب الي الشمال بكل آثارها المحتملة علي التركيب السكاني لعدد من الدول الأوروبية.., ولهذا السبب يبدي الاتحاد من أجل المتوسط, اهتماما حقيقيا بتحسين أوضاع دول الجنوب الاقتصادية لتوفير ظروف حياة ملائمة لا تدفع سكانها الي الهجرة الي الشمال. كما ينبغي ألا يدخل في فهم أحد, أن قبول مصر دعوة الرئيس ساركوزي وموافقتها علي الرئاسة المشتركة للقمة الأورومتوسطية تعني القبول بكل ما جاء في رؤية الرئيس الفرنسي, لأن الهدف من قمة باريس كما تراه القاهرة هو دراسة المقترحات الفرنسية بصورة متأنية بهدف الوصول الي اتفاق حول النقاط التي لاتزال عالقة لم تتبلور بعد ولاتزال موضع شكوك وتساؤل, خصوصا أن المبادرة الفرنسية تعيد تسليط الاهتمام علي العلاقات المتوسطية بكل ما تتمتع به من خصوصية, في ظل الضغوط المتزايدة لدول أوروبا الشرقية, الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي, الذين يهمهم توجيه اهتمام دول الاتحاد الي الشرق بدلا من الجنوب. وعلي سبيل المثال, فإن وجود إسرائيل ضمن حضور المؤتمر لا يشكل في حد ذاته من وجهة نظر مصر مشكلة, لأن المؤتمر لا يستهدف تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول جنوب المتوسط, ولكن من حق مصر أن تتشكك في جدوي وامكان قيام مشروعات مشتركة تدخل إسرائيل طرفا فيها قبل انجاز التسوية النهائية للصراع العربي الإسرائيلي, كما أن انعقاد القمة الأورومتوسطية في أي من دول شمال افريقيا قد يكون هدفا صعب التحقيق بسبب اسرائيل قبل انجاز هذه التسوية الشاملة, وربما يكون ذلك هو نقطة الضعف الرئيسية في مشروع ساركوزي.., ومع ذلك فإن مصر لا تري في ذلك مانعا يحول دون حضورها, لأن الهدف هو الحوار والنقاش وتوضيح كل القضايا العالقة.., وهذا هو الفارق الجوهري بين الموقف المصري الذي يشارك ويصر علي حضور الجامعة العربية طرفا في المؤتمر, وبين الموقف الليبي الذي يتفرد من بين كل مواقف الدول العربية بمعارضة شديدة لمبادرة ساركوزي لمجرد أن إسرائيل ضمن حضور المؤتمر, أو لأن العقيد لا يري لنفسه دورا رئيسيا في هذه المبادرة. عن صحيفة الاهرام المصرية 12/7/2008