مصر وفرنسا.. واتحاد المتوسط د. وحيد عبد المجيد سيكون مشروع الاتحاد المتوسطي الذي تبناه الرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي في قلب محادثاته مع الرئيس مبارك بعد غد في باريس. وهذا المشروع ليس منزها عن الأهواء. فوراءه مصالح فرنسية كبري. وهذا أمر طبيعي لا يعيب المشروع أو يقلل أهميته بالنسبة إلينا, بل ربما يزيدها. فالمصالح تضمن الجدية لأي مشروع وتوفر له قوة الدفع اللازمة لكي يجد طريقه إلي الواقع. وهذا هو الفرق بين مشروعات واقعية وأخري مثالية قد يكون بريقها أشد, ولكن فائدتها أقل. وراء مشروع ساركوزي هموم بعضها كبير والآخر صغير. وبعضها هموم تشغل فرنسا بوجه عام, وبعضها الآخر يعنيه هو شخصيا واليمين الفرنسي أو قطاعات في هذا التيار العريض المتنوع. وفي مقدمة هذه الهموم قضية الهجرة إلي فرنسا, وإلي أوروبا عموما. وهي هجرة يحدث معظمها عبر المتوسط. وفي مشروع ساركوزي رسالة ضمنية إلي من يتطلعون إلي الهجرة من جنوب المتوسط إلي شماله مفادها( أننا يمكن أن نأتي إليكم عبر مشاريع للتنمية من بينها بنك التنمية المتوسطية, بدلا من أن تتحملوا عبء المجيء إلينا وتكبدونا مشقة التعامل معكم). ولا يقل أهمية عن ذلك هم الإرهاب الذي بات خطرا متنقلا يهدد أوروبا, كما الولاياتالمتحدة. وكانت علامات جديدة علي جسامة هذا الخطر في استقبال ساركوزي فور استقراره في قصر الإليزيه. ومن الطبيعي أن تكون فرنسا مهمومة أيضا بالتهديد الإستراتيجي الذي يواجه مصالحها في جنوب المتوسط ليس فقط من الولاياتالمتحدة, ولكن أيضا من الصين. وهذا تهديد يحفز ساركوزي علي استخدام منهج يقوم علي أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع. وفي مشروعه المتوسطي شيء من ذلك بما ينطوي عليه من طموح عظيم. فهو يهدف, من بين ما يستهدفه, إلي تدعيم مركز فرنسا في منطقة القوس الممتد من ضفاف الأطلسي في موريتانيا إلي ضفاف البوسفور في تركيا. وللأتراك مكان أساسي في مشروع ساركوزي. فهو لا يقبل انضمامهم إلي الاتحاد الأوروبي. ولذلك يقدم لهم, عبر مشروعه المتوسطي, خيارا آخر إذ يطمح إلي دمج تركيا في المنظومة التي يقيمها هذا المشروع, باعتبارها بديلا عن الاتحاد الأوروبي ولكنها ليست منبتة الصلة به. وإذا لم تكن المصالح المرتبطة بهذه الهموم الفرنسية, والساركوزية تحديدا, هي مما يعيب المشروع, فهو يمثل في المقابل نقلة مهمة إلي الأمام في العلاقات بين العالم العربي والإسلامي وأوروبا. فالصيغة التي يقوم عليها المشروع يمكن أن تكون أكثر تقدما مقارنة بميثاق برشلونة الذي لم يثمر شيئا ملموسا علي مدي نحو12 عاما حتي الآن. ولعل الفرق الأهم هو أن المشروع المتوسطي ينطوي علي طموح لبناء كيان وظيفي قابل للنمو, بخلاف مشروع برشلونة الذي ارتبط بوظيفة كيانية محددة هي دعم مشروع سلام عربي إسرائيلي ينطلق من اتفاق أوسلو.1993 والفرق جد كبير بين اتحاد يبدو بمثابة كيان يستمد أهميته من تاريخية الفكرة المتوسطية وليس فقط من الوظائف المتعددة التي يمكن أن يقوم بها, وبين وظيفة استلزمت إيجاد كيان يؤديها. وحتي إذا كان الاتحاد المتوسطي, الذي يستهدفه مشروع ساركوزي, أدني سقفا من الاتحاد الأوروبي, فهو يمكن أن يكون خطوة إلي الأمام إذا توصلت أطرافه العربية إلي رؤية مشتركة لدوره وإلي تقسيم منضبط للعمل بينها سعيا إلي تفعيل هذا الدور. وهذه مهمة يصح أن تضطلع بها مصر ليس فقط لأنها الأقدر علي قيادة جهد تنسيقي عربي, أو عربي- إسلامي إذا تعامل الأتراك مع هذا المشروع بحكمة ولكن أيضا لأنها رائدة الدعوة المتوسطية علي المستوي الفكري والثقافي. فقد تبني هذه الدعوة, بأشكال مختلفة ومضامين متنوعة, عدد كبير من كبار أهل الفكر والثقافة من أحمد لطفي السيد, وطه حسين, وتوفيق الحكيم إلي محمد مندور وحسين فوزي ولويس عوض. وكان طه حسن مؤمنا بأنه ليس بين الشعوب التي نشأت حول البحر المتوسط فرق عقلي قوي. ووجد في اتصال مصر, بصفة خاصة, باليونان القديمة ما يدفع إلي الاعتقاد في أن العقل المصري ليس محضا شرقيا. وكانت الفكرة المتوسطية حاضرة بقوة في الكثير من تجليات سؤال الهوية الثقافية والآخر, والسؤال عن المسار الذي يصح أن نسلكه في طريق التقدم, وهل هو الانغلاق والتقوقع حول الذات. أم الانبهار بالآخر والذوبان فيه, وهل هو الخوف من الآخر والحذر تجاهه ومعاداته أم الثقة المفرطة في نواياه تجاه امتنا وثقافتنا وحضارتنا. فقد تنوعت بل تناقضت استجابات الفكر المصري لتحديات العلاقة مع الآخر الغربي, بدءا من الاحتكاك الأول الذي حدث مع الاصطدام المفاجئ بحضارته في نهاية القرن الثامن عشر. وكانت المفكرة المتوسطية في صيغتها المعتدلة إحدي الاستجابات المتوازنة لتلك التحديات, التي ازدادت وتوسعت في ظل الاستعمار الغربي الذي خضع له معظم بلاد أمتنا. وانطلاقا من هذه الخبرة التاريخية في التفاعل الفكري والثقافي مع الآخر الغربي عموما, وذلك الذي يسكن شمال المتوسط خصوصا, تستطيع مصر أن تضفي علي مشروع ساركوزي طابعا ربما يفتقده, وأن تنفخ فيه روحا ربما تنقصه, وذلك عبر تأكيد نسق محدد من القيم يرتكز عليه المشروع, ويشمل الاحترام المتبادل ونبذ الاستعلاء ودعم الحوار الثقافي- الحضاري, وتوازن المصالح, وعدم التدخل في الشئون الداخلية. وفي إمكان مصر, علي هذا النحو, أن تقدم للمشروع دعما تشتد حاجة ساركوزي إليه في ضوء سلبية مواقف بعض الدول الأوروبية تجاهه, والتي تتراوح بين الرفض الصريح والفتور خشية أن يتجاوز إطار الشراكة الذي قام عليه مسار برشلونة إلي نوع من الاندماج المتضمن في مفهوم الاتحاد. وهذا عمل, يؤسس, إذا أحسن أداؤه, لدور مصري بارز في فضاء إقليمي أكثر رحابة, وأقل توترا واحتقانا من فضاء الشرق الأوسط الملبد بغيوم كثيفة. عن جريدة الاهرام المصرية 31/7/2007