اللغز السوري بين الدور التركي والصدمة الإيرانية د. حسن أبوطالب لا يشكل الإعلان عن وجود مفاوضات سورية إسرائيلية غير مباشرة بوساطة تركية أمرا جديدا في حد ذاته, فقد كان معروفا منذ فترة تقارب الأشهر الستة بأن هناك اتصالات بين الجانبين عبر تركيا. لكن ما لم يكن معروفا من قبل هو الأفكار والاتفاقات الأولية التي تم التوصل إليها, والتي تسمح الآن بالتحول إلي المفاوضات المباشرة برعاية تركية. والواضح أن مرحلة جس النبض قد مرت بسلام, وان الشكوك المتبادلة قد خفت إلي حد كبير, فسوريا من جانبها طالما عبرت عن شكوكها في التزام إسرائيل بالانسحاب الكامل من هضبة الجولان المحتلة وهو الهدف السوري الاسمي, في حين كانت شكوك إسرائيل, لاسيما لدي دوائر مخابراتها خاصة الموساد تتركز في أن نية دمشق في السلام مع الدولة الإسرائيلية ليست خالصة وغير مؤكدة. ومع التحول إلي المفاوضات المباشرة, ربما بعد جولة أو جولتين آخريين غير مباشرتين, سيكون هناك بالقطع ما يمكن وصفه بخطة تسوية أولية تشمل النقاط الجوهرية وهي الانسحاب من كل الجولان علي الاقل نظريا, وترتيبات أمنية علي الحدود المشتركة والتزامات محددة لفتح الأبواب السورية اقتصاديا وتجاريا وثقافيا أمام رأس المال الاسرائيلي, والتزامات أخري بشأن الطريقة التي تدير بها دمشق علاقاتها مع إيران وحزب الله ومنظمات المقاومة الفلسطينية مستقبلا. نحن إذا أمام تطور ما زال في بدايته, والمؤكد انه سيأخذ وقتا حتي تتضح معالمه الكاملة, ومع ذلك فقد غير معطيات الإقليم جزئيا. وأبرز ملامح هذا التغيير تبدو في الموقف السوري نفسه, والذي ظل في السنوات العشرين الماضية يتصرف باعتباره البلد العربي الوحيد الذي يحمل هموم الأمة العربية بأسرها علي كاهله, وانه الوحيد الذي يدافع عن مصالح العرب ويحمي العروبة ويضحي من اجلهما بالكثير, وأنه البلد العربي الوحيد الذي يضع القضية الفلسطينية علي قمة أولوياته وعلي حساب أولوياته الذاتية, وانه البلد الثوري الذي لم يلوث بعد بالسعي نحو السلام مع الأعداء علي عكس بلدان عربية أخري. والآن فإن كل هذه المعطيات تغيرت جذريا, ولم يعد لدي سوريا الحق في النظر إلي من استعادوا أراضيهم من قبل بأنهم اقل عروبة أو اقل قومية أو أقل ثورية, ولم يعد لديها الحق أيضا في أن تعطي هذا الطرف أو ذاك صك الوطنية أو دروسا في الشجاعة والممانعة, أو تقدم له النصائح عن الطريقة التي يصمد بها أمام العدو. مثل هذا التغير ليس بسيطا, فهو تغير في أسس التحرك الاستراتيجي, وتغيير في الالتزامات المستقبلية, ومن هنا ذلك القلق الذي انتاب قيادة حماس في دمشق وقيادة إيران, فضلا عن الشعور بالاستياء الذي أصاب المدافعين عن سوريا والتي طالما مثلت لهم رمز الممانعة القومية والمقاومة. الملمح الثاني في المعطيات المتغيرة يكمن في الدوافع التي حدت بسوريا في اتباع سلوك المفاوضات المباشرة وعبر الوسيط التركي, وليس عبر وسيط عربي كان يمكنه أن يقوم بالدور نفسه وبالقطع بطريقة ودوافع مختلفة عن الدوافع التركية. ويبدو لي أن لجوء سوريا إلي الوسيط التركي كان بهدف الاستمرار في لعب دور القوة الثورية في العالم العربي في حالة فشل الوساطة التركية, ودون أن يكون ذلك محملا بنوع من الحرج أمام الطرف العربي الذي كان سيحل محل تركيا. ويبدو أن دمشق لم تكن متيقنة من نجاح هذه الوساطة, ولكن مع وصولها إلي تفاهمات أولية معقولة, فلم يعد هناك ما يبرر الاستمرار في لعب الدور المزدوج, الثوري في جانبه العلني, والواقعي التفاوضي في جانبه السري. ولسنا هنا في محل إدانة لسوريا لأنها تسعي إلي استعادة أراضيها المحتلة عبر مفاوضات ستكون صعبة بكل يقين, فهذا واجبها, ومن حقها علينا أن نقف وراءها ونؤيد خطواتها طالما أعادت الحقوق وأكدت الاستقرار الإقليمي ولم تتجاهل الالتزامات نحو القضية الفلسطينية الأم. ولكن لابد أيضا أن نظهر لها عتاب الأشقاء الذين تحملوا منها الكثير في صورة استعلاء قومي, وكأن القومية العربية هي حكر فقط علي دمشق. ومن حقنا ايضا ان نتساءل عن الثمن الذي ستدفعه دمشق مقابل استعادة الجولان كاملة كما أشار إلي ذلك وليد المعلم وزير الخارجية السوري, في حين أن مصادر مطلعة علي بعض تفاصيل الاتصالات السابقة تفيد بأن سوريا ربما تقبل بتأجير جزء من الجولان لمدة زمنية قد تصل إلي25 عاما أو اكثر في تكرار لما جري مع الأردن في وادي عربة, وقد تقبل أيضا بوجود كتلتين استيطانيتين كبيرتين لمدة زمنية معينة, وهو ما لم تقبله مصر علي أراضيها وتدمير مستوطنة ياميت خير شاهد, فضلا عن تسهيلات سياحية, وان يتشارك سوريون مع إسرائيليين في امتلاك بعض المشروعات الزراعية والسياحية التي أنشأتها إسرائيل في الجولان طوال فترة الاحتلال. أما الملمح الثالث في تغير المعطيات فيتعلق بالدوافع السورية وفي هذا التوقيت تحديدا للدخول في عملية مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل, في وقت أدانت فيه مفاوضات الرئيس محمود عباس وطالما نظرت إليها كجهد يضيع ما تبقي من الحقوق الفلسطينية, وفي وقت تقول كل الشواهد أن موقف رئيس الحكومة الإسرائيلية أولمرت في قمة الضعف لأسباب تتعلق باتهامات فساد. ومع الاعتراف بأن حالة سوريا الدولة تختلف جذريا عن حالة السلطة الفلسطينية التي تعد في افضل الأحوال بمثابة مشروع لدولة غير محددة المعالم بعد, فمن الصعب قبول منطق أن سوريا تدخل المفاوضات من اجل استرداد الجولان وحسب. فإلي جانب الجولان هناك بالقطع دوافع أخري, يمكن تحديدها في الحفاظ علي نظام الحكم بصيغته القائمة, وإيجاد مخرج من الإذعان المحتمل للمحكمة الدولية الجنائية الخاصة بمحاكمة المتورطين في اغتيال الرئيس رفيق الحريري, لاسيما في ضوء احتمالات التسييس العالية التي تحيط بهذه المحكمة, والخروج من حالة العزلة النسبية التي تحيط بها وتجعلها واقعة تحت ضغط إيراني بدرجة ما باعتبارها القوة الحامية الرئيسية للنظام السوري. هذه الدوافع مجتمعة شكلت قوة الدفع نحو المفاوضات مع إسرائيل بعيدا عن أعين الحليف الاستراتيجي إيران, والتي تفيد تقارير عن شعوره بالصدمة بعد الإعلان عن المفاوضات السورية الإسرائيلية. وهي صدمة مفهومة في ضوء حقيقة أن إيران تعول كثيرا علي الموقف السوري الرافض الدخول في أي نوع من المفاوضات مع إسرائيل, التي تراها إيران قوة الشر الأولي في العالم والكيان الذي سينهار إن عاجلا او آجلا بفعل عوامل الضعف الهيكلية التي بدأت في الظهور في ثناياه. فدخول سوريا في أي اتصالات مع تل أبيب يعني بالضرورة استهانة بالأسس التي أسست عليها طهران مواقفها المناهضة للكيان الاسرائيلي من جانب, وضربا بالمبررات التي قدمت إيران وفقا لها كل صنوف الدعم الاقتصادي والعسكري و الدعائي لسوريا من جانب آخر طوال السنوات العشر الماضية. صحيح هنا أن سوريا وبعد يومين فقط من الإعلان عن المفاوضات مع إسرائيل قد سارعت بتعزيز علاقاتها الدفاعية والاستراتيجية مع إيران خلال زيارة لوزير الدفاع السوري إلي طهران, فإن النتيجة لا تتغير كثيرا. بل يمكن القول أن هدف سوريا هو هدف مزدوج, فمن جانب ترد علي دعوة تسيبي ليفني التي ربطت السلام مع سوريا بأن تقوم الأخيرة بقطع علاقاتها مع إيران وحزب الله اللبناني ومنظمات المقاومة الفلسطينية التي تتحرك من دمشق, وفحوي الرد أن سوريا لن تتنازل عن اي علاقات او أوراق في يديها طالما لم تتبين الصيغة النهائية للسلام مع تل أبيب. ومن جانب آخر فهي تقوم بخطوة تطمين لإيران مفادها بأن استثماراتها الاقتصادية و الدفاعية في سوريا ليست محلا للمساومة. وهي رسالة فهمتها طهران علي الأقل في اللحظة الجارية باعتبارها دليلا علي ان سوريا لم تصل بعد إلي قرار نهائي بشأن خياراتها السياسية والاستراتيجية الجديدة, وأن ثمة فرصة أخري للتأثير علي التوجهات السورية. هذه الرسائل المزدوجة تعني أن سوريا تجاهد في الحصول علي حسنيات الأشياء المتضادة في آن واحد. وهنا يبدو موقف سوريا بمثابة لغز لمن لا يدركون الطريقة التي تدير بها دمشق علاقاتها الاستراتيجية, فهي أيضا تبحث عن مصالحها بواقعية شديدة. هذه الواقعية تشدها أحيانا نحو إيران, وتشدها أحيانا أخري نحو أعداء إيران أنفسهم, بما في ذلك الولاياتالمتحدة التي تنتظر رئيسا جديدا بعد ستة اشهر, تتمناه دمشق ديموقراطيا, لعله يزيح تراث المحافظين الجدد الثقيل, ويفتح أبواب البيت الأبيض للرئيس بشار عبر البوابة الإسرائيلية. عن صحيفة الاهرام المصرية 28/5/2008